عرض مشاركة واحدة
  #7  
قديم 08-12-2022, 10:48 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,735
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مشاهد وعبر من قصــة أصـــحــــــاب الكهــــــــف

مشاهد وعبر من سورة الكهف (17)
- قصة موسى -عليه السلام- والخضر (6)

هذه جولةٌ تأمُّليةٌ في رحاب سورة الكهف، نستهدف منها إلى إيقاظ وعي العاملين في الدعوة الإسلامية؛ فإن ميادين الإصلاح متعددة، وأن بوسعهم أن يجعلوا مِن الحياة كلها محرابًا للدعوة إلى الله، والتغيير والإصلاح، وقد تضمّنَت السورة بين جنباتها أربعًا من القصص الرائعة، انتظمت في عقدٍ فريدٍ، ونظمٍ بديعٍ، لترسمَ لنا ملامح بارزة في طريق التمكين المأمول، ونتناول في هذه السلسلة قصة موسى -عليه السلام- والخضر.
تحدثنا في الحلقات الماضية عن مشاهد القصة فكان المشهد الأول بعنوان: (العزيمة الصادقة)، ثم تحدثنا عن المشهد الثاني وكان بعنوان: (مجمع البحرين)، ثم تحدثنا عن المشهد الثالث وكان بعنوان: (الحوادث الغامضة)، واليوم نستكمل عن المشهد الرابع وهو بعنوان: (الحِكَم الخفيَّة).
المشهد كما عرضه القرآن
قال الله -تعالى-: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا}.
رسائل من قلب المشهد
في هذا الجزء من القصة يشرع الخضر في تفسير ما أشكل أمره على موسى -عليه السلام-، وما كان ظاهره مستبشعًا عنده، وقد أطلع الله الخضر على حِكَمٍ باطنةٍ في تلك الأفعال التي قام بها، فعلَّل خرق السفينة بقوله: إن السفينة إنما خرقتها لأعيبها؛ لأنهم كانوا يمرون بها على ملكٍ ظالمٍ يأخذ كل سفينة صالحة غصبًا، فأردتُ أن أعيبها لأصرف نظره عنها، فينتفع بها أصحابها المساكين الذين لم يكن لهم شيء ينتفعون به غيرها.
سبب قتل الغلام
ثم علل الخضر قتله للغلام بقوله: إنه كان للغلام أبوان مؤمنان فخشينا أن يحملهما حبه على متابعته على الكفر، فأردنا أن يبدلهما ربهما ولدًا أزكى مِن هذا، وهما أرحم به منه؛ لذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ الْغُلَامَ الَّذِي قَتَلَهُ الْخَضِرُ طُبِعَ كَافِرًا، وَلَوْ عَاشَ لَأَرْهَقَ أَبَوَيْهِ طُغْيَانًا وَكُفْرًا».
سبب بناء الجدار
ثم علل بناءه للجدار بقوله: هذا الجدار إنما أصلحته؛ لأنه كان لغلامين يتيمين في المدينة، وكان تحته مال مدفون لهما، فكان في إصلاح الجدار حفظًا لمالهما من الضياع ومكافأة لما كان عليه أبوهما من الصلاح.
ثم ختم كلامه برد الأمر إلى الله فقال له: هذا الذي فعلته في هذه الأحوال الثلاثة، إنما هو مِن رحمة الله بأصحاب السفينة، ووالدي الغلام، وولدي الرجل الصالح، وما فعلتُه عن أمري، لكني أُمرتُ به ووقفتُ عليه.
1- الملك الظالم وفقه الموازنات
قال الله -تعالى-: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا}: تلمح هنا في هذه الآية: أن القرآن لم ينسب الغصب إلى لصٍّ أو محتالٍ أو قاطع طريقٍ، ولكن نسبه إلى المَلِك، وهذا مِن أعجب العجب؛ لأن الملك بما تحت يديه من أموال وكنوز وسلطان لا يحتاج إلى سفينة المساكين، ولو أمر رجاله أن يصنعوا له أسطولًا من أفضل السفن لفعلوا، ولكنه مع الأسف- يتتبع سفن الفقراء والمساكين ليغتصبها منهم عنوة.
كيف نفهم تلك النفسية؟
النفسية التي تعيش على القهر والاستبداد، وتتلذذ بإيلام الناس وإيذائهم، فتستحل دماءهم وأموالهم، وربَّما أعراضهم، هذه الشخصية المريضة تتكرر عبر الزمان والمكان، ولكن ما يُسرِّي عن المؤمن في ذلك: أن الله يدفع ويدافع عن الذين آمنوا، فمن الذي أرسل الخضر لهؤلاء المساكين وهم يعملون في البحر إلا الله -عز وجل-، دون كسبٍ منهم، ولا سعي في حماية أنفسهم، فعلِّق قلبك بالله يرسل لك جنوده التي لا يعلمها إلا هو؛ لتدفع عنك، وتحميك من شر الظالمين، وشر شياطين الإنس والجن.
مما يُسرِّي عن المؤمن
كذلك مما يُسرِّي عن المؤمن: أن الحياة قصيرة، فهذا الملك الذي طال ظلمه لم يعمّر في الحياة أكثر مِن عمره المقدَّر، ورحل تاركًا خلفه كل شيء، ترك آماله وأولاده وممتلكاته، فضلًا عن سفن الناس وأموالهم، وعند الله تجتمع الخصوم. المهم أن ننتبه إلى أن الحياة قصيرة بالفعل.
ملمح شديد الأهمية
وهنا ملمح شديد الأهمية دلتنا عليه الآية وهو: أن الله -عز وجل- لم يأمر الخضر أن يواجه الملك الظالم ويخلِّص الناس من شره؛ فلماذا اتجه الخضر إلى سفينة المساكين ليخرقها وقد كان من الأولى به أن يأمر الظالم أن يكفَّ أذاه وظلمه عن الناس، فلماذا أفسد سفينة الضعفاء بينما لم يوجه كلمة للملك الظالم؟
وطن عظيم منمواطن العِبْرَة

وهنا موطن عظيم من مواطن العِبْرَة والعِظة في قصة الخضر؛ حيث إن الخضر كان يُوحى إليه كما صرَّح لموسى -عليه السلام- بذلك أو أمره نبي آخر، فأفعاله التي يفعلها ليست من عنده ولا نتيجة لاجتهاده، ولكنها أوامر الوحي، وهذا يدلنا على أنه في بعض الأحيان لا نطيق أن نواجه الظالم، ولا يكون لدينا القدرة الكافية على ردعه، فليس من الحكمة وقتها أن نتصدى له، بل قد نحتال من أجل أن ندفع الضرر عن أنفسنا دون مواجهته.
كيف نأخذ بالأسباب؟
والقصة جاءت لتعلمنا كيف نأخذ بالأسباب، وإلا فمعلوم أن الله قادر على أن يهلك هذا الظالم بلمة، ولكن الله -عز وجل- أجرى هذه الأحداث بهذه الطريقة، حتى نتعلم نحن كيف نتعامل مع الأحداث التي تواجهنا في حياتنا، فواقع القصة يقول: إن هؤلاء مساكين لا يتمكنون من مواجهة الملك، والخضر لم يكن كذي القرنين ملِكًا ممكنَا، ولكنه كان متنقلًا في الأرض، وإنما بعثه الله من أجل حماية المساكين أولًا، ثم ليعلمنا أننا قد نُضطر لخرق السفينة بأيدينا ليس مِن باب إتلافها أو إفسادها، ولكن حماية لها ولمن فيها من الهلاك التام.
خرقٌ خيرٌ من فقدان
فخرق يسير يسهل معالجته حتى ولو بالترقيع، خير من فقدان السفينة بالكامل، وهذه موازنات دقيقة قد نلجأ إليها في ظل اختلال ميزان القوى بيننا وبين أعدائنا، ويبقى العلم هو الحَكَم على أفعال الناس بعد انقطاع الوحي؛ فقد يلجأ بعض العلماء أو العقلاء في موقفٍ ما إلى خرق جزءٍ مِن السفينة بأنفسهم حماية للسفينة، فلا يحتمل بعض الناس منهم هذا الفعل، وربَّما اتهموهم وطعنوا في أمانتهم وديانتهم، ولو عقلوا وتدبروا، لعلموا أن مثل هؤلاء العقلاء يحفظ الله بهم الأمة من الضياع في ظل موازناتٍ صعبةٍ وخياراتٍ مُرَّة، كما اضطر الخضر إلى خرق سفينة المساكين رغبةً في حمايتها من الضياع بالكلية.
رحمة موسى -عليه السلام
ونلمح من هذا الموقف: رحمة موسى -عليه السلام- بأهل السفينة؛ حيث قال: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا}، فموسى -عليه السلام- يخاف على الناس من الهلاك، وهكذا تكون قلوب العلماء والدعاة والمصلحين، قلوب تمتلئ رحمة وشفقة على مَن يدعونهم، ويرجون لهم الهداية والصلاح، وصدق شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- حينما عبَّر عن المنهجية التي يقوم عليها أهل السنة في التعامل مع الناس، فقال: «أهل السنة يعرفون الحق، ويرحمون الخلق».

أحمد الشحات

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 21.95 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 21.32 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.86%)]