مشاهد وعبر من سورة الكهف (16)
- قصة موسى -عليه السلام- والخضر (5)
هذه جولةٌ تأمُّليةٌ في رحاب سورة الكهف، نستهدف منها إيقاظ وعي العاملين في الدعوة الإسلامية؛ لأن ميادين الإصلاح متعددة، وأن بوسعهم أن يجعلوا مِن الحياة كلها محرابًا للدعوة إلى الله، والتغيير والإصلاح، وقد تضمّنَت السورة بين جنباتها أربعًا من القصص الرائعة، انتظمت في عقدٍ فريدٍ، ونظمٍ بديعٍ، لترسمَ لنا ملامح بارزة في طريق التمكين المأمول، ونتناول في هذه السلسلة قصة موسى -عليه السلام- والخضر.
تحدثنا في الحلقات الماضية عن المشهد الأول من قصة موسى -عليه السلام- والخضر وكان بعنوان: (العزيمة الصادقة)، ثم تحدثنا عن المشهد الثاني وكان بعنوان: مجمع البحرين، واليوم نتكلم عن المشهد الثالث وهو بعنوان: (الحوادث الغامضة).
المشهد كما عرضه القرآن
قال الله -تعالى-: «فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا».
رسائل مِن قلب المشهد
انطلق موسى والخضر يمشيان على ساحل البحر يلتمسان مَن يحملهما، حتى مرت بهما سفينة فسألا أهلها أن يحملوهما فوافقوا؛ فلما اطمأنَّا فيها ولجت بهما مع أهلها، أخرج الخضر منقارًا ومطرقة، ثم عمد إلى ناحية من السفينة فضرب فيها بالمنقار حتى خرقها، ثم أخذ لوحًا وجلس ليرقِّعها، هنا تعجب موسى -عليه السلام-؛ إذ كيف يخرق الخضر سفينة في وسط البحر وهي تحملهما وتحمل معهما ركابًا؟!
ظاهر الأمر
إن ظاهر الأمر: أن هذه الفعلة تُعرِّض السفينة وركابها لخطر الغرق، فنسي موسى -عليه السلام- شرط الصحبة، وأنكر على الخضر فعلته، ولكنه عاد واعتذر لمّا ذكّره الخَضِر بالشرط الذي اتفقا عليه، ثم خرجا من السفينة، ودخلا على قرية، فإذا غلمان يلعبون فيها، فأخذ منهم غلامًا فقتله، فرأى موسى صبيًّا صغيرًا بريئًا يُقتل بلا ذنب، فأنكر عليه للمرة الثانية، فإن كانت الحادثة الأولى يتطرق إليها الاحتمال، فإن هذه الحادثة لا مجال -في نظره-لتأويلها أو التماس العذر فيها، ولم يملك الخضر إلا أن يُذكّره بشرط الصحبة مرةً أخرى، فقال له موسى: إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني فقد أعذرت في شأني.
ثم دخلا على قرية فطلبا من أهلها الطعام فأبوا أن يضيفوهما -رغم أنهما جائعان غريبان-، ومع هذا البخل الشديد من أهل القرية، إلا أن الخضر وجد فيها جدارًا يوشك أن يسقط فهدمه ثم بناه مجانًا دون طلب أجرة، فقال له موسى: قد استطعمناهم فلم يطعمونا، وطلبنا ضيافتهم فلم يُضيِّفونا، ثم أنتَ تقدِّم لهم الخدمة مجانًا بلا مقابل، وكان الأولى بك أن تتقاضى على ذلك أجرًا، وهنا تحقق شرط الفراق الذي قطعه موسى -عليه السلام- على نفسه؛ فافترقا.
1- التدرج في العتاب
قال الله -تعالى-: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} - {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا}، رغم أن موسى -عليه السلام- وافق على شرط الصحبة مع الخضر، وتعهد على نفسه بالسمع والطاعة، إلا أن التجربة العملية لها وقع مختلف، وعند أول احتكاك مع الحالة الواقعية لم يتحمَّل -عليه السلام- السكوت الذي تعهد به قبل انطلاق الرحلة، وإنما أنكر عليه ما رآه بطريقةٍ تلقائيةٍ.
وقد أنكر موسى -عليه السلام- على الخضر مرتين: الأولى: عند خرق السفينة، وقد وصفَ فيها فعله بأنه: «شَيْئًا إِمْرًا»، والثانية: عند قتل الغلام، وقد وصف فيها فعله بأنه: {شَيْئًا نُكْرًا}، ورغم أن عتاب الخضر كان عتابًا رقيقًا لم يزد فيه على تذكيره له بأول جملة قالها له عندما طلب مصاحبته: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا}، ومع أنه وقع في عين ما سبق أن حذره منه الخضر -وهذا يستجلب في العادة مزيدًا من العتاب-، لكن الخضر لم يفعل.
وزيادة على هذا الترفق في العتاب، استعمل الخضر مبدأ التدرج في توجيه اللوم، فالعتاب على الفعل أول مرة يختلف عن تكراره للمرة الثانية؛ لذلك غلَّظ الخضر قليلًا من لهجة الخطاب بقوله: {أَلَمْ أَقُلْ لَكَ} بينما قال في الأولى: {أَلَمْ أَقُلْ}، وهذا ملمحٌ تربويٌ مهم يجمل بالدعاة والمربين أن ينتبهوا له.
2- الالتماس المُهذَّب
قال الله -تعالى-: {قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا}، أيقن موسى -عليه السلام- بمخالفته للشرط المتفق عليه بينهما، فبادر إلى الاعتذار، وهذا خُلُق كريم منه -عليه السلام- يدل على تواضعه وطيب معدنه، فلم يستنكف أن يعترف بالخطأ وأن يتأسف عليه، وهذا درسٌ تربويٌ بليغ لكلِّ مَن يقرأ القصة، فإذا كان الأنبياء يبادرون بالاعتذار عند وقوع الخطأ منهم ولو نسيانًا، فكيف بغيرهم؟! وهذا يدلنا أيضًا على أن الاعتذار لا يقلل مِن شأن الإنسان، بل يزيده رفعة وشموخًا، فخُلُق الاعتذار لا يقوى عليه إلا الأسوياء الأنقياء، أما المتكبرون؛ فإنهم دائمًا يأنفون مِن الاعتذار والإقرار بالخطأ.
مِن لطائف الآية
ومِن لطائف الآية: أن موسى -عليه السلام- طلب من الخضر إعفاءه من إيقاع العقوبة به، فقد كان من الممكن أن ينهي الخضر علاقته بموسى -عليه السلام- فور مخالفته للشرط، ولو فعل ذلك لما كان مخطئًا؛ بل هذا هو مقتضى الشرط بينهما، ولكن الخضر أحسن إليه فقبل عذره وعفا عنه، وهذا يدلنا على أن المخطئ عليه أن يتحمل نتيجة خطئه، وأن يكون مستعدًا لتحمل التبعات، وفي الوقت نفسه يجمل بصاحب الحق أن يعفو ويغفر.
لذلك شعر موسى -عليه السلام- بالحرج بعد ما عفا عنه الخضر مرتين، فأراد أن يقطع دائرة الاعتذار المتكرر بأن يُلزم نفسه بالفراق عند المخالفة، فقال له: {إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا}؛ لذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: {وَدِدْنَا أَنَّ مُوسَى كَانَ صَبَرَ، فَقَصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ خَبَرِهِمَا}.
3- الفراق المؤلم
قال الله -تعالى-: {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا}: الملاحظ هنا: أن الخضر لم يعاتب موسى -عليه السلام-، بل انتقل مباشرة إلى تطبيق الأمر الذي ألزم به موسى -عليه السلام- نفسه، وهو: الفراق إذا تكرر السؤال، ورغم أن موسى -عليه السلام- هو الذي ألزم نفسه بالشرط، إلا أنه لم يطق أن يلتزم به؛ لأنه رأى بعينه أمورًا ظاهرة النكارة -في نظره- ولا يمكنه أن يسكت عنها، ثم انتقل السياق بعد ذلك إلى إبراز الحِكَم الخفيّة من وراء هذه الأفعال حتى يعلمها موسى -عليه السلام-، وقد قصَّها الله علينا لنتعلم منها أيضًا ما خفي من أمر هذه الأحداث.
فوائد من المشهد
- رغم أن موسى -عليه السلام- وافق على شرط الصحبة مع الخضر، وتعهد على نفسه بالسمع والطاعة، إلا أن التجربة العملية لها وقع مختلف، وعند أول احتكاك مع الحالة الواقعية لم يتحمَّل -عليه السلام- السكوت الذي تعهد به قبل انطلاق الرحلة، وإنما أنكر عليه ما رآه بطريقة تلقائية، وهذا يعلمنا أن التجربة العملية دائمًا لها وقع مختلف.
- عندما أيقن موسى -عليه السلام- بمخالفته للشرط المتفق عليه بينهما، بادر إلى الاعتذار، وهذا خلق كريم منه -عليه السلام- يدل على تواضعه وطيب معدنه، فلم يستنكف أن يعترف بالخطأ وأن يتأسف عليه، وهذا درس تربوي بليغ لكل مَن يقرأ القصة، فإذا كان الأنبياء يبادرون بالاعتذار عند وقوع الخطأ منهم ولو نسيانًا، فكيف بغيرهم؟!
- اعتذار موسى -عليه السلام- يدلنا على أن الاعتذار لا يقلل مِن شأن الإنسان، بل يزيده رفعة وشموخًا؛ فخُلُق الاعتذار لا يقوى عليه إلا الأسوياء الأنقياء، أما المتكبرون فإنهم دائمًا يأنفون مِن الاعتذار والإقرار بالخطأ.
- مِن لطائف اعتذار موسى -عليه السلام-: أنه طلب من الخضر إعفاءه من إيقاع العقوبة به، فقد كان من الممكن أن ينهي الخضر علاقته بموسى -عليه السلام- فور مخالفته للشرط، ولو فعل ذلك لما كان مخطئًا، بل هذا هو مقتضى الشرط بينهما، ولكن الخضر قبل عذره، وهذا يدلنا على أن المخطئ عليه أن يتحمل نتيجة خطئه، وأن يكون مستعدًا لتحمل التبعات، وفي الوقت نفسه يجمل بصاحب الحق أن يعفو ويغفر.
أحمد الشحات