
05-12-2022, 03:56 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,657
الدولة :
|
|
رد: الأسطورة والسرد وجمالية الشعر: دراسة في قصيدة لأمية بن أبي الصلت
الأسطورة والسرد وجمالية الشعر: دراسة في قصيدة لأمية بن أبي الصلت
عبدالواحد الدحمني
جمالية القصيدة ومكونات السرد:
إن للقصيدة الشعرية صياغتها الجمالية الخاصة، وبلاغتها المتميزة من قبيل الصور الشعرية واللغة الإيحائية والإيقاع الموسيقي و...، لكن هذه البلاغة تلتقي في جوانب كثيرة مع بلاغة الأنواع السردية الأخرى وتستجيب لمعاييرها، فتعتمد الخيال، وتوظف اللغة التقريرية وتستند إلى التراث الحكائي الأسطوري وتعتمد على مكونات السرد.. الشيء الذي يجعل النص الشعري منفتحا على إبداعات جمالية أخرى.
أ- اللغة الشعرية والفضاء:
والمتأمل لعوالم النص الجمالية، والمتفحص لانبنائه الداخلي، ليكشف أننا أمام قصة شعرية تبدو بسيطة للغاية، لكن هذه البساطة لا تمنع من تضافر جملة من العناصر السردية ساهمت في إبراز المحكي الشعري، فـ"كل قصيدة... في مستوى من المستويات محكي"[17]، والنص إلى جانب احتوائه على المكونات الأسطورية، فإنه يتميز بأسلوب قصصي حكائي؛ باعتبار "الأسطورة... قبل شيء حكاية"[18] تبرر وجود العالم وتعلل أصل الأشياء والكائنات، لهذا نجد الشاعر بوصفه راويا يحكي خبرا أسطوريا في قصة شعرية تتميز باستثمار العديد من عناصر السرد.
يكشف النص عن وجود قوتين فاعلتين في النص تنتميان إلى جنس الحيوان، إضافة إلى راو يحكي تفاصيل الأحداث على لسانهما، ويتدرج في نقلها إلى المتلقي معتمدا أسلوب الحوار مع التركيز على دواخل شخصياته الحكائية، ليصل بعد ذلك إلى ذروة الأحداث، حيث طال انتظار الديك ويئس من عودة الغراب، الذي أضحى محلقا في الأجواء، بعدما كان لا يبرح الأرض، وبعد أن خان صديقه وتركه مرهونا لا يقدر على رد الدين.
وإذا كانت هذه الأحداث يضطلع بها كل من الديك والغراب، فإنها تفرض فضاء مكانيا وزمنيا تجري فيهما، والشاعر منذ البداية يحدد المكان "الحواني" ويورده بصيغة الجمع تأكيد منه على كثرة تردد هاتين الشخصيتين على مثل هذه الأمكنة.
إن الحانة أو "الحواني" هو المكان الحقيقي الذي تقع فيه الأحداث بين الديك والغراب إلا أنه مع توالي الأحداث نكشف عن انفراد الديك بهذا المكان بعد أن تركه الغراب؛ ومن ثم تصبح "الحواني" مكانا لرهن الديك.
وعند التدقيق في النص الشعري الذي بين أيدينا نلاحظ أن المكان يشكل نقطة رئيسة لبلوغ المقاصد الخفية منه، فأحداث النص تتموضع في حيز بيئي واحد يتجلى في الحانة، لكن السارد لا يعمد إلى مد القارئ بمعلومات عنه، وكأنه بذلك يؤكد على تجاوز البعد الطبيعي للمكان، تاركا للقارئ فرصة التأويل؛ وبالتأكيد إذا كان هذا المكان في الواقع يدل على المتعة واللذة والحرية، فهو في هذا النص قد سلب من سماته الإيجابية وأضحى رمزا للحبس والقيد، بل إنه يوحي بالشر ويورث الشقاء، لقد كان سببا في فقدان الديك لجناحيه.
وإضافة إلى الفضاء السابق نقف على مكان آخر مجازي هو الأرض؛ يقول الشاعر:
وَأَمْسى الغرابُ يَضْربُ الأرضَ كلَّها ♦♦♦ عَتِيقاً وأَضْحى الدِّيكُ في القِدِّ عانيا
فالأرض أصبحت ملكا للغراب وحده، بعد أن خان الديك وغدر به.
أما الزمن فيتضح أنه يتسم بالطول، حيث يبتدئ من الليل ويستمر إلى طلوع الصبح ليمتد بعد ذلك إلى مالا نهاية؛ ويمكن أن نتلمس ذلك في ما يلي:
• (ولا تدر كنك الشمس عند طلوعها).
• (فلا تيأسن إني مع الصبح باكرا).
• (طال عليه الليل أن لا مغاديا).
• (فلما أضاء الصبح طرب صرخة).
وقد جسد السارد من خلال الزمن معاناة الديك الدائمة وكأنه يريد إثبات أن هذه المعاناة لا بداية لها ولا نهاية، صحيح أن القصة الشعرية تمتلك زمنها الخاص المختلف عن الزمن التاريخي رغم أنها تأخذ الكثير من سماته، إلا أن هذا الزمن المنحصر في البيت الشعري أو في النص الشعري القصصي بصفة عامة، تضطلع اللغة الشعرية فيه بدور هام يتمثل أساسا في تصوير إحساس الغراب بالخيانة وإبراز القهر الذي اعتراه من تصرفات الغراب.
ولعل أهم ما يميز اللغة الشعرية في ذكر الفضاء، أنها لا تشكل وجودا قائما بذاته، وإنما يطمح الشاعر من خلالها إلى التعبير عما تحس به الذات من مشاعر وتدركه من مشاكل وتناقضات؛ فالشعر يتجاوز التعبير عن الذات إلى الحديث عن هموم الآخرين وتصوير معاناتهم وفق أسلوب قصصي متميز. كما أن هذه اللغة الحكائية النابعة من جنس الشعر تجنح إلى التركيز والإيجاز بحكم طبيعة الشعر، مما يجعل الشاعر يذعن لمقومات الشعر فيما يصوغه من قصص شعرية، "ولعل أبرز سمة واضحة تميز الأسلوب القصصي في الشعر من نظيره في النثر، هي أن لغة الشعر تنأى عن الجزئيات والتفاصيل التي تصرف الفكر عن التدبر والاعتبار"[19]، فاعتماد سمة الإيجاز وما يجري مجراها من حذف فضول الكلام والاختصار سمات توخى الشاعر من خلالها رواية الأحداث، إيمانا منه أن الصناعة الشعرية القصصية قائمة في أحد وجوهها على الحذف والإيجاز خلافا للنثر الذي يفرض الإطالة وتقصي دقائق الأشياء.
ب- الشاعر ووظيفة القص:
يبدو السارد لهذه القصة الشعرية عارفا بتفاصيل الأحداث والشخصيات؛ إذ لا يكتفي بالوصف الخارجي ورصد تصرفات كل شخصية، بل يعمد إلى اكتناه نفسيتهما، والكشف عما يختلجها من أحاسيس الخيبة والرهن والانهزام (الديك)، والغدر والخيانة والانتصار (الغراب)، وذلك في أسلوب سردي متدرج، يعتمد تقنية الرؤية من الخلف التي تفرض أن "يكون السارد أكثر معرفة من الشخصية"[20]؛ فالسارد/الشاعر عارف بما يختلج نفوس شخصياته الحكائية من رغبات، إلا أنه لا يشارك في الأحداث؛ بل يساهم في تنظيميها معتمدا ضمير الغائب.
كما أن السارد يلجأ في بناء الأحداث ورسم الشخصيات إلى الحوار، وإذا كان الحوار-عادة ما- يتم بين شخصيتين إنسانيتين أو أكثر؛ فإن أمية في هذه القصيدة يقتصر في إدراج الحوار بين الحيوانيين بهدف إبراز تصرفات كل واحد على حدة، وهو في ذلك يروم كشف تصرفات الغراب تجاه الديك يقول الشاعر على لسان الديك والغراب:
أَمَنْتُكَ لاَ تَلْبَتْ مِنَ الدَّهْرِ سَاعَةً
وَلا نِصْفَهَا حَتّى تَؤُوبَ مُآبِيا 
وَلا تُدْرِ كَنِكَ الشَّمْسُ عِنْدَ طُلُوعِها
فَأَغْلَقُ فِيهم أَوْ يَطولُ ثَوَائيا 
فَرَدَّ الغُرابُ والرِداءُ يَحوزُهُ
إِلى الدِّيكِ وَعِداً كَاذِباً وَأَمانيا 
... فَلاَ تَيْأَسْنَ إِنِّي معَ الصُّبْح بَاكراً
أُوَافي غدا نحو الحَجيجِ الغَوَاديا 
فأسلوب الحوار في هذه الأبيات يبرز أحاسيس الغراب ونيته في المكر والخديعة، كما أن هذا الأسلوب يعمل على نقل ما يروج في ذهن كل شخصية من أفكار، ويكشف في النهاية عن تجسيد أفعال الغراب الدنيئة والتأكيد على معاناة الديك، كما يعمل على مشاركة المتلقي في الأحداث وتأكيد موقف العرب-عموما- من الغراب.
صحيح أن هذه المكونات الفنية السابقة تستمد قوتها من انتمائها إلى جنس السرد، لكن الشاعر ينزع نحو صياغتها باستحضار المكونات الأساس لجنس الشعر؛ فتوظيف الشخصيات والحبكة والفضاء والحوار والرؤية السردية... تلتحم جميعها لتشكيل صورة عامة للخيانة، وللتعبير عنها في الحياة الإنسانية، مما يدفع المتلقي إلى الاقتناع أنه أمام نص شعري قصصي له مقوماته الفنية الشعرية التي تحقق جنسه، ولكنه منفتح على مكونات أجناس أخرى؛ وبالتالي يمكن اعتباره نصا شعريا قصصيا محكيا سرديا، ولعل هذا التصور قد يدفع بنا إلى إعادة دراسة جنس الشعر العربي القديم وتقسيمه إلى نوعين هما:
وبطبيعة الحال لا نغفل وجود مكونات مشتركة بينهما، وفي هذه الحالة يمكننا الاعتماد على العناصر المهيمنة في كلا النوعين.
دلالة الغراب وجدلية التماثل والتميز:
لاحظنا كيف أن الشاعر أمية عمل على استثمار أسطورة الديك والغراب وفق رؤية جمالية وإنسانية صور من خلالها صفتي الخيانة والغدر، دون أن يكرر الأسطورة كما رواها الرواة، ولما كان الأمر كذلك وجب النظر إلى النص القصصي الشعري باعتباره نتاج سياق ثقافي مرتبط بالتراث الضارب بجذوره في التاريخ الديني والأسطوري والشعري...، ولزم أن تتم قراءته وفق التماثل والتميز والاتباع والابتداع للكشف عن جماليته الشعرية، "ولا غرو.. أن تتداخل عناصرهما تداخلا منسجما يعطي النصوص الأدبية -حتى لو تقاربت معانيها، وتشابهت مبانيها، وتماثلت ملابساتها - ذوقا خاصا، وطعما متميزا، لأن لكل شاعر طريقته في القول، ومذهبه في الشعر، وأسلوبه في الصياغة والنسج"[21].
وعلى هذا النحو يغدو توظيف دلالة الغراب عند الشعراء وفقا للمقصدية التي يريدها كل واحد؛ بحيث أمامهم تراث ديني وذخيرة حكائية تشكل مورد الإلهام الشعري، ومصدرا لنظم الشعر وفقا لطريقة إبداعية وجمالية تجعل من هموم الإنسان من أولوياتها الفنية.
وانطلاقا من هذا التصور فقد ورد -أولا- ذكر للغراب في قصة ابني آدم قابيل وهابيل؛ فلما قتل قابيل هابيل ندم على فعله فضمه إليه حتى تغيرت رائحته، وعكفت عليه الطير والسباع تنتظر حتى يرمي به فتأكله، ولم يزل يحمله حتى جاء غرابان فاقتتلا أمام قابيل، فقتل أحدهما الآخر، فعمد إلى الأرض يحفر له بمنقار فيها، ثم ألقاه ودفنه وجعل يضع عليه التراب حتى واراه؛ يقول الله سبحانه وتعالى (فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه قال يا ويليتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين)[22]، وبذلك يكون الغراب صاحب رسالة نبيلة؛ فهو الذي علم قابيل وذله إلى كيفية دفن أخيه، إلا أن هذه الصورة الإيجابية غير مستقرة؛ فالحيوان نفسه هو من خان سيدنا نوح عليه السلام كما سبقت الإشارة إلى ذلك، وفي سياق هذه الوضعية غير الثابتة التي يمكننا أن نسميها بالتماثل والتميز؛ نجد أمية بن أبي الصلت يجعل من الغراب دلالة على الشؤم والغدر والخيانة، وهو في ذلك يحافظ على السمات والأفعال التي تميز بها الغراب في قصة سيدنا نوح عليه السلام. ويسير على مذهبه الشعري في التصوير السلبي للغراب الشاعر النابغة الذبياني؛ حيث يقول[23]:
زَعَمَ الغُرَابُ بأَنَّ رِحْلتَنا غداً ♦♦♦ وَبِذَاكَ خَبَرَنا الغُدافُ الأَسْوَدُ[24]
إن النابغة يرى في نعيب الغراب نذير شؤم وفراق لمن يحب، فالغراب يسبب بنعيبه الرحيل، وقد كان العرب "يتطيرون به، ويسمونه حاتما؛ لأنه يحتم عندهم بالفراق"[25] إلا أن هذه الدلالة الرمزية للغراب قد نجد من يجعها في خدمة أغرضه ومقاصده الخاصة، فتصبح رمزا لغويا للانتقاص من الآخرين والحط من قيمتهم والتشفي بهم؛ وهذا ما قام به عبد الله بن الزبعرى قبل إسلامه "يوم أحد"؛ يقول[26]:
يَا غُرابَ البَيْنِ أَسْمَعْتَ فَقُلْ
إِنَّما تنطقُ شيئاً قَدْ فُعِلْ 
لَيْتَ أَشْيَاخِي ببدرٍ شَهَدوا
جَزعَ الخَزْرَجِ من وَقعِ الأَسَلْ  إذا أخذنا النِّصفَ من سَادَتهم
وَعَدَلْنَا مَيْلَ بَدْرٍ فاعتدلْ
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|