شيء من التفكير النقدي العربي القديم: ابن سلام الجمحي أنموذجا (1)
يوسف ادريدك
الملاحظ أن كلمات مِن قِبَل ديباجة الشعر، ورونق الكلام، وجزالة البيت - مصطلحات غير واضحة الدلالة، ولعلَّها كانت تدلُّ على صفات محددة لدى "ابن سلام"، فالشيء الذي يجعلها غير محددة هو: هل شعر النابغة وحده يتميَّز بهذه الصفات؟ فيُمكن أن نأخذ أي قصيدة ونقول فيها هذا الكلام.
وأما أهل النظر كما جاء في "طبقات فحول الشعراء"، فقدَّموا "زهيرًا"؛ لأنه كان كما قال "ابن سلام": "وقال أهل النظر كان "زهير" أحكمَهم شعرًا، وأبعدَهم من سخف، وأجمعَهم لكثيرٍ من المعنى في قليلٍ من المنطق، وأشدَّهم مبالغةً في المدح"[19].
أمَّا في الطبقة الثانية، فقد وضع فيها "ابن سلام" "أوس بن حجر"، و"بشر بن أبي خازم الأسدي"، و"كعب بن زهير"، والشاعر "الحطيئة"، فــ "ابن سلام" في هذه الطبقة يعدُّ "أوس بن حجر" نظيرَ الأربعة المتقدِّمين، إلَّا أنه وضعه في هذه الطبقة؛ لأنه اقتصر على أربعة في كل واحدة.
ووضع في الطبقة الثالثة: "أبا ليلى نابغة بني جعدة" وهو "قيس بن عبدالله"، و"أبا ذؤيب الهذلي"، و"الشماخ بن ضرار"، و"لبيد بن ربيعة".
وتغيب المعايير التي وجدنا ابن سلام يُقدِّم أفراد الطبقة الأولى بسببها في تقييم شعراء الطبقات اللاحقة، ويبرُز لدينا مجموعةُ معاييرَ تبدو في أغلبها مبهمةً غيرَ واضحةٍ؛ "فالحطيئة" وُضِع في الطبقة الثانية؛ لأنه "متين الشعر، شرود القافية، وكان راوية لزهير"[20]، وأما أفراد الطبقة الثالثة، "فأبو ذؤيب" كان "شاعرًا فحلًا، لا غميزة فيه ولا وهن"[21]، و"الشماخ" كان "شديد متون الشعر، أشد أسر كلام من لبيد، وفيه كزازة، ولبيد أسهل منه منطقًا"[22]، لا يمكن أن نقول في هذا الكلام سوىأنها مجموعة آراء انطباعية، لعلَّها غير مفهومة إلَّا عند صاحبها.
ومن المقاييس المهمة في إلحاق الشاعر بالفحول، ووضعه في طبقة معينة: مقياس الكمِّ، وهو مبدأ اعتمده "ابن سلام" في تصنيف الشعراء، فقد وضع في الطبقة الرابعة "طرفة بن العبد" و"عبيد بن الأبرص"، و"علقمة بن عبدة"، و"عدي بن زيد"، وذكر أن موضعهم مع الأوائل، وإنما أخلَّ بهم قلَّةُ شعرهم عند الرواة؛ حيث قال: "وهم أربعة رهط فحول شعراء موضعهم مع الأوائل؛ وإنما أخلَّ بهم قلَّةُ شعرهم بأيدي الرواة"[23]، وكذلك فعل في الطبقة السابعة حين وضع فيها "سلامة بن جندل" و"حصين بن الحمام" و"المتلمس" و"المسيب بن علس بن عمرو بن قمامة"، ونبَّه على أن قلَّة شعرهم هي سبب تأخيرهم، وذلك عندما قال: "أربعة رهط محكمون، في أشعارهم قلة، فذاك الذي أخَّرهم"[24].
فعلى الرغم من تأكيد "ابن سلام" أن الشعر العربيَّ قد ضاع جزء لا يُستهان به منه، فإنه وضع هؤلاء الشعراء في هاتين المرتبتين لقلَّة شعرهم المتداول، ولم تشفع لهم جودة أشعارهم الباقية في التقدُّم في سلَّم الطبقات.
وقد وضع في الطبقة الخامسة كلًّا من "خداش بن زهير"، و"الأسود بن يَعْفُر"، و"أبي يزيد المخبل بن ربيعة"، و"تميم بن أبي مقبل"، ووضع في الطبقة السادسة من الشعراء الجاهليين: "عمرو بن كلثوم"، و"الحارث بن حلِّزة"، و"عنترة بن شداد"، و"سويد بن أبي كاهل"، ووضع في الطبقة الثامنة كلًّا من "عمرو بن قميئة"، و"النمر بن تولب"، و"أوس بن غلفاء الهجيمي"، و"عوف بن عطية بن الخرع"، ووضع في الطبقة التاسعة كلًّا من "ضابئ بن الحارث"، و"سويد بن كراع العكلي"، و"الحويدرة" واسمه "قطبة بن محصن"، و"سحيم"، ووضع في الطبقة العاشرة كلًّا من "أمية بن حرتان"، و"حريث بن محفظ"، و"الكميت"، و"عمرو بن شأس".
ومن خلال الوقوف على كل طبقة،نُلاحظ أن معايير الفحولة في الطبقة الأولى يجري أغلبها وفق أسس موضوعية إذا ما قُورنت بمعايير الطبقات اللاحقة، "فـ "امرؤ القيس" هو أول من سبق الشعراء إلى صور شعرية جديدة، و"زهير بن أبي سلمى" أقدرُ على إيجاز القول والمبالغة فيه، و"الأعشى" أكثر الشعراء عَرُوضًا وقصائدَ طويلةً، على حين أن معايير الفحولة في الطبقات الأخرى مُبهمة، وتعتمد على أُسُس لا تنتمي إلى الشعر.
بعد أن أنهى "ابن سلام" عرضه للطبقات العشر، وتبيان الأُسُس التي تُميِّز كلَّ شاعر عمَّا سواه، وتجعله في طبقته التي هو فيها، انتقل إلى طبقة أصحاب المراثي التي تضمُّ "مُتمِّم بن نويرة" و"الخنساء" و"أعشى باهلة" واسمه "عامر بن الحارث" و"كعب بن سعد الغنوي"، وتظهر "الخنساء" الشاعرة الوحيدة في كل طبقات "ابن سلام"، مما يعني أنها تخطَّت حاجز الفحولة الذي رسمه المؤلِّف وانضمَّت - وهي الأُنثى - إلى قائمة الفحول الخاصة بالشعراء وحدهم؛ لأن أهميتها الشعرية جعلت من المستحيل تخطيها في هذا المجال، أو إغفال ذكر اسمها.
وأما طبقة شعراء القرى العربية، فتضمُّ خمسة شعراء من المدينة، وتسعةً من مكةَ، وخمسةً من الطائف، وثلاثةً من البحرين، وعلى هذا يكون المجموع اثنين وعشرين شاعرًا، أشهرهم: "حسان بن ثابت" و"قيس بن الخطيم" من المدينة، و"عبدالله بن الزَّبعرى" و"ضرار بن الخطاب" من مكة، و"أُمية بن أبي الصلت "و"أبو محجن الثقفي" من الطائف، و"المثقَّب العبدي" و"الممزَّق العبدي" من البحرين، ويُشير "ابن سلَّام" إلى أن أشعر هذه الطبقة "حسان بن ثابت".
وتأتي طبقة شعراء اليهود في نهاية هذا القسم، وتضم ثمانية شعراء، أشهرهم: "السموءل بن عادياء" و"كعب بن الأشرف" و"سعية بن العريض"، وليس في هذه الطبقة ما يُشير إلى مسوِّغ يُمكن أن يوضع الشعراء في هذه الطبقات استنادًا إليه، إلا أن المقاييس الواضحة هنا هي الموضوع الشعري والمكان والديانة.
----------------------------------------
[1] محمد بن سلام الجمحي البصري؛ طبقات فحول الشعراء، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ص 24.
[2] نفسه، ص 23 - 24.
[3] نفسه، ص 8.
[4] محمد بن سلام الجمحي البصري: طبقات فحول الشعراء، دار الكتب العلمية بيروت لبنان، ص 8.
[5] نفسه، ص 8.
[6] نفسه، ص 8.
[7] نفسه، ص 8.
[8] نفسه، ص 18.
[9] نفسه، ص 22.
[10] نفسه، ص 17.
[11] نفسه، ص 17.
[12] نفسه ص 54.
[13] نفسه، ص 84.
[14] محمد بن سلام الجمحي، طبقات فحول الشعراء، تحقيق: أبي فهر محمود محمد شاكر، دار النشر المدني بجدة، ص 261.
[15] نفسه، ص 261.
[16] محمد بن سلام الجمحي البصري؛ طبقات فحول الشعراء، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ص 25 - 26.
[17] نفسه، ص 27.
[18] نفسه، ص 27.
[19] نفسه، ص 29.
[20] نفسه، ص 34.
[21] نفسه، ص 47.
[22] نفسه، ص 47.
[23] نفسه، ص 49.
[24] نفسه، ص 58.