عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 05-12-2022, 03:50 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,953
الدولة : Egypt
افتراضي شيء من التفكير النقدي العربي القديم: ابن سلام الجمحي أنموذجا (1)

شيء من التفكير النقدي العربي القديم: ابن سلام الجمحي أنموذجا (1)
يوسف ادريدك






مقدمة:

لقد حاولتُ في هذا البحث المتواضع أن أُسلِّط الضوء على أهمِّ القضايا التي تطرَّق إليها "ابن سلَّام الجمحي" في كتابه"طبقات فحول الشعراء"، ولعلَّ أهمَّ القضايا في هذا الكتاب هي قضية تصنيف الشعراء، وقضية الانتحال، ومناقشتي لهاتين القضيتين سوف تتمُّ في ضوء ما جاء في الكتاب، وفي ضوء ما جاء في بعض الكتابات النقدية التي عاصرت "ابن سلام"، دون أن أُغفِلَ الحديث عن هذه القضايا من زاوية النقد الحديث.



المحور الأول:

قراءة في الجزء الأول من كتاب "طبقات فحول الشعراء":

كثيرةٌ هي القضايا التي ناقشها "ابن سلَّام الجمحي" في مقدِّمة كتابه "طبقات فحول الشعراء"، وأهمُّ هذه القضايا هي قضية الشعر الموضوع الذي يُضيفه الرواة للشعراء الجاهليِّين وليس للجاهليين، وحديثُه عن انتحال الشعر في عصره كان طبيعيًّا، وخصوصًا ونحن في المراحل الأولى لتدوين الشعر، فنبَّه بعض الرواة على أنَّ هناك شعرًا مصنوعًا ك"خلف الأحمر"، و"المفضَّل الضبِّي".



والذي يهمُّنا من هذا أن صاحب الطبقات برهَنَ على الشعر المصنوع، وكان "ابن سلَّام" يعتمد في ذلك على ما شاع عند العلماء من أفكار وأقوال، فــ"يونس بن حبيب" - كما جاء في مقدمة الكتاب - يتَّهم "حمادًا" الراويةَ بالكذب، قال "ابن سلام": "وكان أولَ مَنْ جمع أشعار العرب وساق أحاديثها "حمادٌ" الراوية، وكان غيرَ موثوق به، كان ينحل شعر الرجل غيره، ويزيد في الأشعار كما أخبرني "أبو عبيدة" عن "يونس" قال: قدم "حماد" البصرة على "بلال بن أبي بردة"، فقال: "ما أطرفتني شيئًا"، فعاد إليه فأنشده القصيدة التي في شعر "الحطيئة" مديح "أبي موسى"، فقال: "ويحك، يمدح "الحطيئة" "أبا موسى" ولا أعلمُ به، وأنا أروي "للحطيئة"! ولكن دعْها تذهب في الناس"، نا "ابن سلام" قال: سمعتُ "يونس" يقول: العجب لمن يأخذ عن "حماد"، كان يكذب ويلحن ويكسر"[1].



و"أبو عبيدة" يخبر أن "دؤاد بن متمم بن نويرة" قدم البصرة، فأتاه هو و"ابن نوح" فسألاه عن شعر أبيه "مُتمِّم"، " فلما نَفِد شعْرُ أبيه، جعل يزيد في الأشعار ويَصْنعُها لنا، وإذا كلامٌ دون كلام "متمِّم"، وإذا هو يحتذي على كلامه فيذكُر المواضعَ التي ذكرها "مُتمِّم"، والوقائعَ التي شَهِدها، فلمَّا توالى ذلك، عَلِمنا أنه يفتعِلُه"[2].



بعد أن عرض "ابن سلام" لقضية الشعر الموضوع في مقدمة كتابه، أخذ مثالًا بعينه وحاول تفنيده، فهو يعيب على "محمد بن إسحاق" صاحب السيرة أنه هجَّن الشعر وأفسَدَه، وأورد في كتابه أشعارًا لرجال لم يقولوا شعرًا قطُّ، ونساءٍ لم يقُلْنَ شعرًا قطُّ؛ بل أكثر من ذلك، أورَدَ أشعارًا لـ"عاد وثمود"؛ حيث قال: "ولم يكن ذلك له عذرًا - يقصد ابن إسحاق - فكتب في السِّيَر أشعار الرجال الذين لم يقولوا شعرًا قطُّ، وأشعار النساء فضلًا عن أشعار الرجال، ثم جاوَزَ ذلك إلى عادٍ وثمودَ"[3].



وقد أبطل "ابن سلَّام" ما قاله "ابن إسحاق" بأدلة أربعة، وهنا تكمُن طبيعة مناقشته لأهم القضايا التي عالجها في مقدمة كتابه، وأول هذه الأدلة هو دليل نقليٌّ، وهو القرآن الكريم، فالله عز وجل يقول: ﴿ وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى ﴾ [النجم: 50، 51]، وقال في عاد: ﴿ فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ ﴾ [الحاقة: 8]، وقال ﴿ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ ﴾ [إبراهيم: 9]"[4]، فإذا كان الله عز وجل قد أهلك عادًا وثمودَ فمَنْ حمل هذا الشعر وأدَّاه منذ ألوف من السنين؟!



فهذا سؤال طرحه "ابن سلام" من أجل أن يُثبت أن هذا الشِّعر الذي نسبه "ابن إسحاق" لرجال من عادٍ وثمودَ هو شعر منحول، ثم بالإضافة إلى هذا الدليل النقلي أكَّد "ابن سلام" على أن اللغة العربية لم تكن موجودةً في عهد عادٍ، قال: "قال "يونس بن حبيب": أوَّل من تكلَّم بالعربية "إسماعيلُ بنُ إبراهيم"، وأخبرني "مِسْمَع بن عبدالملك" أنه سمع "محمد بن علي" - هو "ابن الحسين" - يقول - قال "أبو عبيدالله": لا أدري أرفعه أم لا، ولا أظنه قد رفعه -: أوَّل من تكلَّم بالعربية ونسي لسان أبيه إسماعيلُ بنُ إبراهيم"[5]، و"إسماعيل" كان بعد عادٍ، فكيف لشعر أن يوجد بلُغةٍ لم تكن موجودةً؟!



ثم يؤكِّد "ابن سلَّام" أن عادًا من اليمن، وأن لليمانيين لسانًا آخَر، ويستدلُّ على ذلك بقول "عمرو بن العلاء": "العرب كلُّها ولد إسماعيل إلَّا حِمْير وبقايا جُرْهُم"[6]، وقال أيضًا: " قال "أبو عمرو بن العلاء": ما لسان حِمْير وأقاصي اليمن اليومَ بلساننا، ولا عربيَّتُهم بعربيَّتِنا"[7].



ثم يعود "ابن سلَّام" ليؤكِّد على أن وجود القصيدة في الشعر العربيِّ لم يزدهر إلا بوجود بعض الشعراء، وأن العهد الذي عاشوا فيه قريب من الإسلام، فيقول: "ولم يكن لأوائل العرب من الشعر إلَّا الأبيات يقولها الرجل في حاجته، وإنما قُصِّدت القصائدُ وطُوِّل الشعرُ على عهد عبدالمطلب، وهاشم بن عبدمناف، وذلك يدلُّ على إسقاط شعر عادٍ وثمودَ وحِمْير وتُبَّع"[8]، ويقول في موقع آخر: "وكان أوَّلَ من قصَّد القصائد، وذكَرَ الوقائع المهلْهِلُ بن ربيعة التَّغْلبي في قتل أخيه كُلَيب"[9].



وفي ثنايا مقدمة الكتاب وقف "ابن سلام" على قضية ضياع الشعر، ويعود ذلك حسب "ابن سلام" إلى الحروب التي هلك فيها كثيرٌ من حمَلة الشعر، قال "ابن سلام": "قال "ابن عون" عن "ابن سيرين" قال: قال "عمر بن الخطاب": كان الشعر عِلْمُ قومٍ لم يكن لهم علمٌ أصحُّ منه، فجاء الإسلام فتشاغلت عنه العرب وتشاغلوا بالجهاد وغزو فارس والروم"[10]، ويقول في ذلك "عمرو بن العلاء": "ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقلُّه، ولو جاءكم وافرًا لجاءكم عِلْمٌ وشِعْرٌ كثيرٌ"[11].



والقضية الثالثة المهمة التي شكَّلت القسط الأكبر من مؤلَّف "ابن سلام": حديثُه عن الشعراء، وجعلهم طبقاتٍ، ولم يذهب إلى الشعر نفسه ليُظهر جماله الفنيَّ؛ إنما ذهب إلى الشعراء أنفسهم، ذاكرًا لهم ما يراه جيدًا، دون أن يذكُر سبب الجودة، فالمقياس الذي اعتمده "ابن سلام" هو كثرةُ الشعر وجودته، فبقدر كثرة شعر الشاعر وإجادته، تكون منزلتُه في أن يُوضَع في الطبقة السابعة أو الثامنة وهلُمَّ جرًّا؛ فقد وضع "ابنُ سلَّام" "الأسودَ بن يَعْفُر" في الطبقة الخامسة من الجاهليِّين، وقال فيه: "وله واحدةٌ طويلةٌ رائعةٌ لاحقةٌ بأجْودِ الشعر، لو كان شَفَعها بمثلها قدَّمناه علىمرتبته"[12]، ويقول في شعراء المدينة : "وأشعرهم حسان بن ثابت، وهو كثير الشعر جيده"[13].



وقد تحدَّث أيضًا عن أثر البيئة في الشعر فكان "عدي بن زيد" ليِّن اللسان، سهل المنطق؛ لماذا؟ لأنه كان يسكُن الحيرة ويراكن الريف، أليس ذلك صريحًا في إيمان "ابن سلام" ومَنْ تقدَّمَه بأثر البيئة في الشعر والشعراء؟

ويقول أيضًا: "وبالطائف شعر، وليس بالكثير"؛ لماذا؟ لماذا لم يكثر الشعر في الطائف أيام الجاهلية؟ قال ابن سلام: "وبالطائف شعر وليس بالكثير، وإنما يكثُر الشعر بالحروب التي تكون بين الأحياء؛ نحو حرب الأوس والخزرج، أو قوم يُغيرون ويُغار عليهم"[14]، ويقول: "والذي قلَّل شعر قريش أنه لم يكن بينهم نائرة، ولم يحاربوا، وذلك الذي قلَّل شعر عمان وأهل الطائف"[15].



سبق أن قلتُ: إنَّ قضية تصنيف الشعراء أخذت الحيِّز الأكبر من الكتاب، فقد وضع "ابن سلام" في الطبقة الأولى من شعراء الجاهلية: "امرأ القيس" و"النابغة الذبياني" و"زهير بن أبي سلمى" و"الأعشى"، ويعتمد "ابن سلام" في تقديمه لهؤلاء الشعراء على آراء النُّقَّاد القدامى دون أن يضيف إليها أيَّ جديدٍ، فمثلًا يقول في شعراء هذه الطبقة: "أنا "أبو خليفة" قال: أنا "ابن سلام" قال: أخبرني "يونس بن حبيب" أن علماء البصرة كانوا يُقدِّمون "امرأ القيس بن حُجْر"، وأهل الكوفة كانوا يُقدِّمون "الأعشى"، وأن أهل الحجاز والبادية كانوا يُقدِّمون "زهيرًا" و"النابغة""[16]، أما النابغة الذبياني، فيظهر أن هنالك إجماعًا على تقديمه على سائر الشعراء منذ العصر الجاهلي، حين جُعِل حَكَمًا على الشعراء في سوق عُكاظ.



فإذا تحوَّلنا إلى أسباب تقديم هؤلاء الشعراء، وجدنا من أسباب تقديم "امرئ القيس" أنه سبق الشعراء إلى تشبيهات وصور فنية تَبِعه فيها الآخرون؛ كالبكاء على الديار، واستيقاف الصَّحْب، وتشبيه النساء بالظباء والبيض، والخيل بالعِقْبان والعِصي، ويُضاف إلى هذا كله أنه جدَّد في طريقة القول الشعري حين فصل بين النسيب والمعنى، وأن شعرَه قريبُ المأخذ، قال "ابن سلام": "ولكنه - يعني امرأ القيس - سبق العرب إلى أشياء ابتدعها، استحسنتها العرب واتَّبعته فيها الشعراء، منها استيقاف صَحْبه، والبكاء في الديار، ورقَّة النسيب، وقربُ المأخذ، وشبَّه النساء بالظباء والبيض، وشبَّه الخيل بالعِقْبان والعصي وقيد الأوابد، وأجاد في التشبيه، وفصل بين النسيب وبين المعنى، وكان أحسن طبقته تشبيهًا"[17].



فأول معيار يجعل الشاعر في طبقة متقدِّمة مرتبطٌ بقدرة الشاعر على طَرْق موضوعات جديدة، وابتداع صور فنية تفتح أُفُق الإبداع أمام الشعراء الآخرين.




وأما كون "النابغة الذبياني" من الطبقة الأولى، فيستند "ابن سلام" في ذلك إلى قول من يحتج لشعرية النابغة حيث قال: "وقال من احتج للنابغة: كان أحسنهم ديباجةَ شِعْرٍ، وأكثرهم رَوْنق كلام، وأجزلهم بيتًا، كأن شعرَه كلامٌ ليس فيه تكلُّف، والمنطق على المتكلِّم أوسعُ منه على الشاعر، والشاعر يحتاج إلى البناء والعَرُوض والقوافي، والمتكلِّم مُطلَقٌ يتخيَّرُ الكلام"[18].
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.


التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 05-12-2022 الساعة 08:50 PM.
رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 24.09 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 23.43 كيلو بايت... تم توفير 0.66 كيلو بايت...بمعدل (2.74%)]