عرض مشاركة واحدة
  #7  
قديم 05-12-2022, 04:29 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,450
الدولة : Egypt
افتراضي رد: السمات الفنية في شعر النابغة الجعدي

السمات الفنية في شعر النابغة الجعدي




د. إبراهيم عوض








ولا جرمَ من أن وصفه للهلكى من أهله بأن الدهر قد شرب عليهم وأكل هو من الصور الرائعة، صحيح أننا نستخدم الآن هذا التعبير دون أن نلتفت إلى ما فيه من خيال، وذلك لكثرة دورانه على الألسن وأسلات الأقلام، ولكننا لو خرجنا من طوق الإلف الحديدي ونظرنا إليه بتأنٍّ لَبَانَ لنا تعبيرًا جميلًا موحيًا مؤثرًا.

إن تصويرَ الدهرِ وقد تربَّع عليهم وأخذ يأكل ويشرب على راحته، ولا يبالي سقوطَ فتات الخبزِ وبقع الإدام والدسم عليهم لهو من وَثَبَات الخيال:
سَألتني عن أناسٍ هلكوا ♦♦♦ شرب الدهر عليهم وأكل[65]
••••


ومثل هذه الصورة طرافةً قولُه يصف مشيب رأسه:
وعممتني بقايا الدهر من قُطن ♦♦♦ فقد أُنضج ذا فرقين ميالا[66]
••••
حيث شبه شعره الأبيض بالقطن، وهو تشبيه لا أذكر أني قابلته في هذا السياق في شعر ذلك العصر.
كذلك فإن في قوله "ممن لا تعُد" في البيت التالي:
من الجنود وممن لا تعُدُّ، فلا ♦♦♦ تفخر بما كان فيه الناس أمثالا[67]
••••
خروجًا على المألوف من قولهم: "لا يُعد ولا يُحصى"، والتحوير في العبارة يبدو ضئيلًا لا قيمة له، لكن تحويل الكلام من صيغة المبنى للمجهول إلى المعلوم وإسناده بالذات إلى ضمير المخاطب قد أكسب الكلام حيويَّة وجعل القارئ أو السامع جزءًا من الكلام، أو كما نقول الآن: وضعه في قلب الصورة، وصار الكلام بذلك ذا خصوصية بعد أن كان عامًّا مجردًا.
وأيضًا فإن وصفَه ليوم عصيب أوقعَ قومُه فيه بأعدائهم في إحدى المعارك بأنه "يَوْم... غير ذي متنفس" هو من الأوصاف النابضة الغنية، إذ هو وصف قابل لأكثر من تفسير: فقد يكون المعنى أن أحدًا لا يستطيع التنفس فيه؛ إذ إن حرَّ الحرب وثقل الهزيمة وما أصاب نفوس الأعداء فيها من غمٍّ وذلةٍ قد كظم الأنفاس، أو أنهم من رعبهم قد حبسوا أنفساهم توجسًا من المصائب التي يتوقعون سقوطها على رؤوسهم، وهيبةً لقوم الشاعر، ومما يخلع على العبارة مزيدًا من الطرافة استخدامُ الشاعر للمصدر الميمي "متنفس"، وهو مصدر قليل الاستخدام، وبخاصة مع الأفعال المكونة من أكثر من ثلاثة أحرف، بدلًا من المصدر العادي: "تنفُّس". يقول النابغة:
ويوم شديد غير ذي مُتنفس ♦♦♦ أصم على من كان يُحسب راقيا[68]
••••


وفي الشعر العربي القديم كنايات متعددة للدلالة على التأبيد، مثل: "ما حنَّت ورقاء" و"ما أقام ثهلان/ ثبير/ عسيب".[69] و"ما أهل الحجيج ولبوا"... إلخ. أما قول النابغة: "ما غرد راكب" فيبدو لي شيئًا طريفًا:
تعالوا نُحالف صامتًا ومزاحمًا ♦♦♦ عليهم نصارًا ما تغرَّد راكب[70]
••••
هذا، وفي البيت التالي صورة ما أبدع! وما أروع!:
بالأرض أستاههم عجزًا، وأتفهمُ ♦♦♦ عند الكواكب بغيًا، يا لذا عجبا[71]
ولا أحسب هذا الكلام محتاجًا من جانبي إلى تعليق.
••••


وقد تكرر عند النابغة استمداده الصورة من عالم الملابس:
تردَّيت ثوبَ الذل يوم لقيتها ♦♦♦ وكان ردائي نخوةً وتجبرا[72]
••••
إذا ما الضَّجيع ثَنَى جيدَها ♦♦♦ تثنَّت عليه، فكانت لباسا[73]
••••
فالحمد لله إذ لم يأتني أجلي ♦♦♦ حتى لبست من الإسلام سربالا[74]
••••
لقد وسمتك وسمًا لا يغيِّبه ♦♦♦ ثَوْبَاك يبرقُ في الأعناق أحوالا[75]
••••
لو تستطيعون أن تلقوا جلودكمُ ♦♦♦ وتجعلوا جلد عبدالله سربالا[76]
••••
ولبست م الإسلام ثوبًا واسعًا ♦♦♦ من سيب لا حَرِمٍ ولا مَنَّانِ[77]
••••
وفي غير قليلٍ من الأحيان يلجأ النابغة الجعدي في وصفه لمنظر أو موقف ما إلى إيراد بعض التفاصيل التي تجعل الصورة تكاد تنطق، ومن هذا قوله في وصف معركة دارت بين قبيلته وأعدائهم:
بِطَعْنٍ كتشهاقِ الجِحاشِ شهيقُه
وضربٍ له ما كان من سَاعِدٍ خلا

فلم أر يوما كان أكثر باكيًا
ووجهًا ترى فيه الكآبة مجتلى

ومفتصلًا عن ثدْيِ أمٍّ تحبه
عزيز عليها أن يفارقْنَ مفتلى

وأشمط عريانًا يُشدُّ كتافُه
يُلامُ على جهدِ القتالِ وما ائتلى[78]


••••
ومثل ذلك تصويره التالي لرحيل القبيلة، حيث يذكر الأصوات المختلفة من غناء ونداء للإبل ونقر وحُداء، حتى ليخيَّلَ للسامع أو القارئ أنه يسمع بأذنيه هذا كلَّه ويشاهد رحيل القبيلة بأمِّ عينيه. ولا ينبغي أن نسهو عن استخدامه ضميرَ المخاطب هنا أيضًا:
إذا ظعنوا يومًا سمعت خلالَهم
غناءً وتأييهًا ونقرًا وحاديا

ورنة هتاف العشيِّ مكبل
ينازعُه الأوتارَ مَنْ ليس راميا[79]



ويجري في الطريق نفسها البيت التالي:
ولم يُمس بالسيدان نبح لسامع ♦♦♦ ولا ضوء نار إن تنوَّر راكب[80]
••••
وإنَّ من أمتع اللوحاتِ الشعرية هذه اللوحة التي تعرض علينا صورة أحد خصوم قبيلة الشاعر متروكة جثتُه في العراء إثر المعركة طعامًا للضباع وقد انحشرت في إِلْيتِه الحربة التي قُتل بها، وانكسرت في جسده قناةُ الرمح التي سُددت إليه:
تركُوا عمرانَ مجندلًا
لضباع حوله رزمه

في صلاه أَلَّةٌ حُشُرٌ
وقناة الرمح منقصمه[81]


••••


إن هذه التفصيلاتِ لها كل الخطر في الشعر والأدب، إنها تجسم المشهد وتنفخ فيه الحياة.
وفي النابغة بساطة في التعبير عن مشاعره دون تحرُّجٍ، فهو يقول مثلًا: إنه إذا لم يستطع أن يرى حبيبته فإنه يجد شفاء نفسه في رؤية أَيٍّ من جيرانها، إن سعادته في الحب تتحقق بأدنى ملابسة:
تقضى زمان الوَصْل بيني وبينها
ولم ينقضِ الشوقُ الذي كان أكبرا

وَإِنِّي لأَستَشفي برُؤيةِ جارِها
إِذا ما لِقَاؤُها عَليَّ تَعَذَّرا[82]


••••



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.


التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 11-12-2022 الساعة 11:26 AM.
رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 39.30 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 38.64 كيلو بايت... تم توفير 0.66 كيلو بايت...بمعدل (1.68%)]