عرض مشاركة واحدة
  #9  
قديم 27-11-2022, 11:09 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,430
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شعر النابغة الجعدي وموضوعاته

• • •
إذا افتخر الأزديُّ يومًا فقل له:
تأخَّر فلن يجعل لك الله مفخَرا

فإن تُرِد العَليا فلستَ بأهلها
وإن تبسط الكفينِ بالمجد تقصُرا

إذا أدلج الأزديُّ أدلج سارقًا
فأصبح مخطومًا بلوم معزَّرا



وبالمناسبة، فقد اخترت الرواية الثانية، ولو كنت اخترت الأولى لكانت قعقعة الفخر أدوى وأعنف تفجُّرًا، وإن الإنسان ليتساءل: ماذا كان قوم النَّابغة يظنون أنهم قد جاؤوا إلى النبي ليفعلوا؟ لقد جاؤوا ليُعلنوا إسلامهم، لا ليهددوا ويقعقعوا، ولكن هكذا كانت طبيعة العرب، بل وما زالت كذلك للأسف، وإن الأغاني والأناشيد التي تبثها الإذاعات العربية الآن في الافتخار بالبطولات وتهديد الأعداء خير دليل على ذلك، مع ما نعرفه نحن العرب قبل غيرنا من هواننا وعجزنا وذلتنا وخزينا وضراعتنا أمام أعدائنا، وبَلادتنا نحو الإهانات الشنيعة التي توجه لأوطاننا وأعراضنا وديننا، ولكن النبي الكريم قد قابل كل ذلك من الشاعر بصدره الواسع وحلمه الكريم وفهمه العميق للطبيعة العربية، وحين وصل النَّابغة إلى أقصى نقطة في الفخر المدمدم بقومه قائلًا:
بلغنا السما مجدًا وجودًا وسؤددًا ♦♦♦ وإنا لنبغي فوق ذلك مَظْهرَا

كان كل ما عقب عليه السلام به على ذلك أن سأله: "إلى أين المظهر يا أبا ليلى؟"، وكأنه عليه السلام يريد أن ينبهه إلى أنه لا غاية لأحد بعد هذه الغاية؛ إذ ماذا بعد السماء؟ ولكن الشاعر اللبق سرعان ما أجاب محولًا وجهة الكلام إلى الآخرة بعد أن كان في الدنيا، فقال: "إلى الجنة يا رسول الله"، فدعا له الرسول بالخير بعد أن نبهه أن يقول: "إن شاء الله".

هذا، وقد مضت أبياته في مديح ابن الزبير في الفصل السابق، ويبقى من الحديث عن الأغراض الشعرية عند النَّابغة الميمية المنسوبة إليه، ومطلعها:
الحمدُ للهِ لا شريكَ له ♦♦♦ من لم يقُلْها فنفسَه ظلما

والتي جُمعت من المظان المختلفة فبلغت واحدًا وعشرين بيتًا، وهي غريبة على شعر النَّابغة الذي سَلِم لنا؛ إذ كلها في المعاني الدينية من توحيد لله واعتراف بقدرته وعظمته، وتأمل في مجالي السماوات والأرض ومعجزة الخلق والحياة والنمو، وتذكير بمصائر بعض الأمم ممن أهلكهم الله وكانوا أقوى قوة وصولة وغنى، أو أرغم أنوفهم وأخضعهم للعرب، وخوف من الحساب والنار، وحكاية لقصة نوح، وإن ضاع معظم الأبيات التي تتضمنها ولم يبقَ منها إلا بيتان هما آخر بيتين في القصيدة.

والقصيدة فوق ذلك أقرب إلى النظم منها إلى النثر، وإن كان د. شوقي ضيف يصفها بأنها "موعظة بليغة"[8].

وقد اختلف حول نسبة هذه القصيدة[9]، فنسبها بعضهم إلى أمية بن أبي الصلت، وبعضهم إلى النَّابغة الجَعْدي، وبعض آخرون إلى نابغة بني شيبان، وفي الفصل التالي نتناول هذه المسألة.

تحديد نسبة قصيدة: "الحمد لله لا شريك له":
ورد في "طبقات فحول الشعراء" أن النَّابغة الجَعْدي لما أذن له عثمان أن يعود إلى بلاده على أن يرجع مرة أخرى إلى المدينة بعد أجلٍ أجَّله له "خرج من عنده فدخل على الحسن بن علي فودَّعه، فقال له الحسن: أنشدنا من بعض شعرك، فأنشده:
الحمد لله لا شريك له ♦♦♦ من لم يقُلْها فنفسَه ظلما

فقال له: يا أبا ليلى، ما كنا نروي هذه الأبيات إلا لأمية بن أبي الصلت، قال: يا بن رسول الله، والله إني لأول الناس قالها، وإن السروق من سرق أمية شعره"[10]، وفي "الاستيعاب" لابن عبدالبر أن هذه القصيدة بما فيها من ضروب دلائل التوحيد والإقرار بالبعث والجزاء والجنة والنار وصفة بعض ذلك تنحو نحو شعر أمية بن أبي الصلت، وزاد ابن عبدالبر أنه "قيل: إن هذا الشعر لأمية، ولكنه صححه يونس بن حبيب وحماد الراوية ومحمد بن سلام وعلي بن سليمان الأخفش للنابغة الجَعْدي"[11]، كما ورد في "الأغاني" و"الخزانة" أن النَّابغة قد قال هذه القصيدة في الجاهلية[12].
كذلك فإنها موجودة في ديوان النَّابغة الشيباني، الشاعر الأموي.

فما وجه الصواب في ذلك كله؟
أولًا: أحب أن أؤكد أن هذه القصيدة لا يمكن أن تكون جاهلية؛ لأكثر من سبب: فمعانيها كلها تقريبًا - وكذلك كثير جدًّا من ألفاظها وعباراتها - قرآنية، فكأن الشاعر قد وضع القرآن نصب عينيه وأخذ بعض آياته وصاغها شعرًا، ولو كانت القصيدة جاهلية فمعنى ذلك ببساطة أن القرآن قد اقتبسها وأدخلها في آياته بعد أن نثرها، وهو ما لا يمكن أن يكون، ولست أقول هذا لمجرد أنني مسلم يعزُّ عليَّ أن أسلم بهذا حتى لا أسيء إلى كتابي المقدس، ولكن لأن هذا لو حدث لثارت ثائرة الكفار وارتجت الجزيرة العربية كلها؛ لأنه سيكون دليلًا قاطعًا على أن محمدًا كان يستمد قرآنه من كلام البشر، إن كل ما اتهم الكفار به الرسول عليه السلام في هذا الصدد أنه كان يستمع إلى بعض الرقيق الأعجمي في مكة ويضمن ما يتعلمه منهم في القرآن، ولم يذكروا النَّابغة ولا أمية قط، ثم أكانت نفس النَّابغة تطاوعه على الدخول في الإسلام وهو يرى قصيدته قد أُخذت وادُّعي أنها وحي إلهي؟! بل إنني قد بينت من قبل أن من المستبعد للغاية أن النَّابغة كان في الجاهلية متحنفًا على دين إبراهيم يستغفر الله ويصوم ويتجنب الخمر والأوثان، ومن ثم فهذا الشعر غريب عليه آنذاك، أما لو كانت الأبيات لأمية فلا ريب أنها كانت ستصبح فرصة العمر لهذا الرجل الحاقد على الرسول لنزول الوحي عليه بدلًا منه، كما كان يطمع ويتوقع، ولكان قد شنَّ حربًا على الرسول ودينِه لا ترحم[13].

هذا سبب، والثاني: أن في القصيدة عددًا غير قليل من أسماء الله الحسنى وصفاته مما لم يكن للجاهليين عهد ببعضه، وهي "المولج الليل في النهار... والخافض الرافع، الخالق البارئ، المصور...".

وثمة سبب آخر قاطع في أنها لا يمكن أن تكون جاهلية البتة، بل ولا يمكن أن يكون قد قالها أمية، وهو أن فيها ذكرًا لفتح بلاد فارس وخضوعهم لسلطان العرب، وهذا الحدث لم يقع بطبيعة الحال إلا في عهد عمر بن الخطاب، وقد مات أمية قبل ذلك بزمن طويل[14]، تقول القصيدة:
يا أيها الناسُ، هل ترَون إلى
فارس بادت وخدُّها رغِمَا؟

أمسوا عبيدًا يرعَون شاءَكم
كأنما كان مُلكهم حُلُمَا



إذًا فالقصيدة قد قيلت بعد الإسلام لا جدال في ذلك، وبالتالي لا يمكن أن تكون لأمية، فهل يمكن أن يكون صاحبها هو النَّابغة الشيباني؟
إنني أستبعد هذا جدًّا؛ ذلك أن هذه الإشارة إلى زوال ملك فارس، وعلى هذا النحو الذي في القصيدة ينمُّ عن أن العرب كانوا لا يزالون به حديثي عهد؛ فالشاعر يتحدث عنه حديث المبهور، وهذا أمر طبيعي، قد اشترك النَّابغة في فتح فارس، ورأى بنفسه كيف انهارت الإمبراطورية الفارسية تحت الضربات الإسلامية وخضع الفرس للعرب بعد أن كانوا هم السادة أصحاب السلطان، أما في عصر نابغة بني شيبان فكان قد مضى على ذلك زمن طويل ولم يعد العرب يرون فيه شيئًا غير عادي؛ فقد اتسعت إمبراطوريتهم شرقًا وغربًا واكتسحت البلاد والأمم، وأصبح فتح فارس من ذكريات الماضي، إن من الطبيعي أن يشير نابغة بني شيبان، أثناء مديحه للوليد بن عبدالملك، إلى فتح طرندة في آسيا الصغرى مثلًا في عهد ذلك الخليفة الأموي ويتحدث عن الروم[15]، لكن ليس من الطبيعي أن يترك أحداث عصره ويذهب يتحدث عن القضاء على دولة الأكاسرة.

ثم إن نظم آيات القرآن على هذا النحو يدل هو أيضًا على أن نزول القرآن كان لا يزال غضًّا، إن الشعراء العرب لم يكفوا على طول الأعصار عن الاقتباس من القرآن الكريم، لكن ليس بهذا الالتصاق بألفاظه وعباراته ومعانيه.

وإلى جانب هذا، فإن أقدم مؤرخي الأدب العربي - كابن قتيبة وابن سلام والأغاني - قد ذكروا هذه القصيدة للنابغة الجَعْدي، لا للنابغة الشيباني، وقد أخذ الدارسون المحدثون بهذه النسبة، ولم أجد أحدًا من الذين رجعت إليهم - وأنا بصدد إعداد هذه الدراسة - قد ذكرها لنابغة بني شيبان، اللهم إلا د. سامي مكي العاني، الذي جعلها له في كتابه "الإسلام والشعر" (مع القول في الهامش: إنها منسوبة إلى الجَعْدي في "الشعر والشعراء")، ثم عاد في نفس الكتاب فنسبها دون تردد إلى نابغة بني جعدة دون أن يشير إلى النَّابغة الشيباني أدنى إشارة[16].


[1] انظر مقدمة "شعر النابغة الجعدي"/ ج - د.

[2] انظر مثلًا ابن سلام/ طبقات فحول الشعراء/ 1/ 128، والمرزباني/ معجم الشعراء/ تحقيق عبدالستار أحمد فراج/ البابي الحلبي/ القاهرة/ 1960م/ 195.

[3] للدكتور خليل إبراهيم أبو ذياب رأي مختلف في وصف النابغة للخيل، وقد أطال القول في ذلك، انظر كتابه "النابغة الجعدي - حياته وشعره"/ 223 وما بعدها.

[4] المرزباني/ الموشح/ 93، وانظر "شعر النابغة الجعدي"/ 175/ هامش 28.

[5] إذا النفس لم ترتح إليه.

[6] هناك رواية أخرى للشطرة الثانية من البيت في "لسان العرب" كالآتي: "إذا كذبت خلة المخلب". والمخلب: الناقة. وكذبت خلتها: ذهب لبنها؛ انظر "شعر النابغة الجعدي"/ 25/ هامش 42. ولكني أخذت بالرواية المثبتة في القصيدة؛ لأنها من رواية البحتري في "حماسته"؛ انظر تخريج القصيدة في ص/ 12 بالهامش، والبحتري أسبق من "لسان العرب" بكثير، علاوة على أن تسمية لبن الناقة بالخلة مما لا يسوغ.

[7] انظر "شعر النابغة الجعدي"/ 26/ هامش 44.

[8] العصر الإسلامي/ 103.

[9] القصيدة موجودة في "شعر النابغة"/ 132 - 134.

[10] طبقات فحول الشعراء/ 1/ 127 - 128، وقد ورد هذا الخبر بنصه تقريبًا في "الأغاني" 4/ 130، إلا أنه فيها قد دخل على الحسن والحسين، لا على الحسن وحده.

[11] الاستيعاب/ 3/ 553، وانظر أيضًا: البغدادي/ خزانة الأدب/ 514.

[12] نفس الموضعين في الهامشين السابقين.

[13] وأيضًا لا يمكن أن يكون قد قالها بعد الإسلام، وإلا لكان معنى ذلك أن هذا الحاقد الذي كان يتأجج بغضًا للرسول ودينه قد طاوعته نفسه للتأثر بالقرآن الذي نزل على الرسول والاقتباس منه بهذه السعة وهذا الالتصاق في قصيدة من قصائده، بكل ما يدل عليه هذا للقاصي والداني من اعترافه بعظمة ذلك القرآن، إلى حد أن يتخذه هو، أمية بن أبي الصلت، مثلًا أعلى له يأخذ منه ويستلهمه.

[14] مات في السنة الثانية أو التاسعة للهجرة. انظر البغدادي/ خزانة الأدب/ 1/ 121 - 122.

[15] ديوان نابغة بني شيبان/ دار الكتب المصرية/ 1351هـ - 1932م/ 52 - 53.

[16] انظر "الإسلام والشعر"/ عالم المعرفة (66)/ الكويت/ 1403هـ - 1983م/ 87، 252.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 25.08 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 24.45 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.50%)]