عرض مشاركة واحدة
  #4  
قديم 27-11-2022, 11:06 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,695
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شعر النابغة الجعدي وموضوعاته


أولئك أخداني مضوا لسبيلهم
وأصبحت أرجو بعدهم أن أُعمَّرا

وما عُمُري إلا كدعوة فارط
دعا راعيًا ثم استمرَّ فأدبرا


وهي كذلك تنضح بالأسى واللوعة اللذين يحاول الشاعر أن يخففهما بالالتفات إلى الماضي، عكس حركة الزمن في طريقه بالبشر نحو الفناء، وكأنه إذ يفعل ذلك إنما يفر من الموت، وهيهات! ألا ما أشجى قوله: "ومن حاجة المحزون أن يتذكرا"؛ ذلك أنه إذا ثقلت علينا وطأة الحاضر فإننا نعالجها باستحضار الذكريات البهيجة كنوع من المعادلة، مثل من يسف بعض السكر ليطرد المرارة التي في فمه.

وما أشجى كذلك الكناية في قوله: "أرى اليوم منهم ظاهر الأرض مقفرًا"، ومعناها بطبيعة الحال أنهم مدفونون تحت الأرض في باطن الثرى، إلا أنها، إلى جانب هذا، تومئ بأنه أخذ يتلفت حوله يمينًا وشمالًا ويقطع الأرض، الأرض كلها، جيئة وذهابًا لعله أن يراهم فلا يجد لهم من أثر.

وهنا يلتفت إلى الماضي هروبًا من كابوس الحاضر المزعج، وعندئذ تتبدل الحال غير الحال، فيسود جو كله نشوة وحبور: إن أولئك الأصحاب كالدنانير، بما توحيه كلمة "الدينار" من النفاسة واللمعان، وهو ليس أي دينار، إنه دينار قيصري، ولكلمة "القيصر" ظلالها المعروفة من السَّطوة وسَعة السلطان، ثم هذا الملك الذي "يردّ عليهم كأسه وشواءه مناصفة"، أي عز هذا؟! إنه لا يقدم لهم مجرد الطعام والشراب، بل يمد إليهم الشراب من كأسه هو، والشواء من اللحم الذي يأكله هو، وفوق ذلك يقدمهما إليهم مناصفة لا يؤثِر نفسه عليهم بشيء، والشاعر حريص على أن يذكر نسب ذلك الملك: فأخواله آل جفنة، وأعمامه آل امرئ القيس، تانك الأسرتان المعروفتان بالعز والمجد والسلطان، ثم يمضي الشاعر في تعداد الخُلَع والطُّرف وصنوف الإكرام التي أتحفهم بها ذلك الملك الأثيل.

على أن الشاعر يعود من تطوافه بدروب الماضي الحالمة إلى أرض الحاضر، فتعود معه الأحزان: لقد مضى أصحابه وتركوه، وهو، بما رُكب فيه من غريزة حب الحياة والأمل، يرجو مع ذلك أن يطول عمره فلا يغادر الدنيا سريعًا كما فعلوا.

وتنتهي الأبيات بذلك البيت الذي لا أذكر أني سبق أن لقيت مثله، على الأقل في شعر من تقدموا الجَعْدي:
وما عُمُري إلا كدعوةِ فارطٍ ♦♦♦ دعا راعيًا ثم استمرَّ فأدبرا

والذي يصور فيه قصر الحياة بصورة دعاء من يتقدم الرعاة إلى الماء ليهيئ لهم الدِّلاء ويملأ الحوض بالماء أن "قد انتهيتُ من إعداد كل شيء" ثم يمضي ويتركهم، فكذلك العمر: صيحة في القفر سرعان ما تضيع في جنبات العدم ولا يبقى منها ولا حتى الصدى!

أما الأبيات التالية، وهي في الحسرة على انصرام الشباب وانصراف الغواني عنه، فتصوِّر عجز الشاعر بين أمرين مستحيلين، يقول:
تذكرتُ ذكرى من أميمةَ بعدما
لقيتُ عناءً مِن أميمة عانيا

فلا هي ترضى دون أمردَ ناشئٍ
ولا أستطيع أن أردَّ شبابيا

وقد طال عهدي بالشباب وأهله
ولاقيتُ رَوْعات يُشِبْنَ النواصيا

بدت فعل ذي ودٍّ، فلما تبعتها
تولَّت وأبقت حاجتي في فؤاديا

وحلَّتْ سواد القلب، لا أنا باغيًا
سواها، ولا عن حبِّها متراخيا

ولو دام منها وصلُها ما قلَيْتُها
ولكنْ كفى بالهَجْر للحب شافيا

وما رابها مِن ريبة غير أنها
رأَتْ لمَّتي شابت وشاب لداتيا



وماذا يستطيع الشاعر، أو يستطيع غيره، في هذا الموقف؟ إن أميمة لا تريده إلا شابًّا نضرًا، وهو ببساطة يقول: إنه لا يستطيع أن يعيد نفسه شابًّا، ومن ذا الذي يستطيع؟ لا أحد، ثم هو لا يستطيع ألا يحبها؛ إذ الحب والكره لا يخضعان لإرادة الإنسان، بل هما شعوران يُفرضان عليه فرضًا، وكذلك لا يستطيع أن يستبدل بحبها حب غيرها، ومع ذلك فإنه يقول: إن طول هجرها إياه وعدم مبالاتها به ويأسه منها، كل ذلك قد أضعف مع الزمن حبَّه لها، ثم يعود مرة أخرى في ختام الأبيات إلى الإشارة إلى سبب هجرها له وأنه الشيب، وعودته إلى هذا الموضوع مرة أخرى تَشِي بإيلامه الشديد له وإلحاح ذلك الألم عليه، وبديع منه أن يذكر شيب لداته بجنب شيبه، وكأنه يقول: "إذا كنتُ قد شِبتُ فلم أشِبْ وحدي"، محاولةً منه للتعزي ودرء الملامة عن نفسه؛ إذ الشيب سنة الحياة، لا ينجو منه إنسان، وليس أمرًا إراديًّا يمكننا أن نفعله أو نتركه.
يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 19.05 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 18.42 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (3.30%)]