عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 27-11-2022, 09:46 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,390
الدولة : Egypt
افتراضي رد: حياة النابغة الجعدي وشخصيته

ولعلَّ هذه النقطة في مسألة تعمير النَّابغة هي النقطة الوحيدة التي تتقلقل في صدري؛ إذ يبدو لي غريبًا أن يظل إنسان محتفظًا بصفاء عقله وجيشان مشاعره ونشاط موهبته الشعرية إلى هذا العمر المتأخر، ولكن ماذا يمكنني أن أفعل وهذا شعر الرجل بين أيدينا وليس ثمة سبب يدعوني إلى الشك فيه، ولست واجدًا شيئًا يمكن أن أسوِّغَ به أمام ضميري القول بصنع هذا الشعر ونحله للنابغة؟ ثم مَن ذلك الناحل؟ وما مصلحته في ذلك؟ أو ما دافعه إليه؟ وهل يسُوغ في العقل أن نقول: إنه قد تكرر منه هذا النحل؟ ذلك أن الأشعار التي يتحدث الشاعر فيها عن طول عمره متعددة - كما رأينا.
ذلك، وقد حُكيت أشعار عن أناس أعلى من هذه السن بكثير، مثل أنس بن مدرك، وهو شاعر مخضرم أيضًا كالنَّابغة، قال:
إذا ما امرؤٌ عاش الهنيدة سالمًا
وخمسين عامًا بعد ذلك وارْبعَا

تبدل مُرَّ العيش مِن بعد حُلْوه
وأوشَك أن يبلى وأن يتسعسعا

ويأذى به الأدنى ويرضى به العِدا
إذا صار مِثل الرأي أحدَبَ أخضعَا

رهينة قعر البيت ليس يريمُه
لقًى ثاويًا لا يبرح المهد مضجعَا

يخبِّرُ عمَّن مات حتى كأنما
رأى الصَّعب ذا القرنين أو رَاءَ تُبَّعَا[5]

والهنيدة هي المائة، ومعنى ذلك أنه قال هذه الأبيات وقد جاوزها بأربعة وخمسين عامًا.
هذا، ويبدو أن صحته لم تتخاذل رغم هذه السن العالية؛ إذ يحكون عنه أنه لما وفد على عبدالله بن الزبير ومدحه أعطاه هذا أوساقًا من الحب والتمر، فكان يأخذ الحب شحيحًا لم يطحن بعد ويأكله، ومعنى هذا أن أسنانه كانت لا تزال سليمة، فإذا بقيت الأسنان بهذه المتانة فلا بد أن تكون صحة صاحبها متماسكة على الأقل.
وقد نص القدماء نصًّا على أن أسنانه ظلت سليمة رغم طول عمره، وأرجعوا ذلك إلى دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم له عندما أنشده رائيَّتَه الشهيرة عام الوفود؛ إذ قال مفاخرًا بقبيلته:
بلَغْنا السماء مجدنا وجدودنا *** وإنا لنبغي فوق ذلك مظهَرَا
فسأله النبي عليه السلام مستغربًا: "إلى أين يا أبا ليلى؟"، فردَّ في ثقة: إلى الجنة يا رسول الله، فدعا له الرسول قائلًا: "لا يفضض اللهُ فاكَ".
وسواء أكانت قوة أسنانه وسلامتها رغم ذلك العمر المديد مرجعها إلى دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام له أم كانت قوة طبيعية (وفي هذه الحالة يكون كلام الرسول مجرد تعبير مجازي عن شدة إعجابه بالشعر ولباقة صاحبه في الرد)[6]، فإن مِن الصعب جدًّا علينا أن نقبل ما جاء في بعض الروايات من أنه بسبب هذه الدعوة كان إذا سقطت له سن نبتت مكانها غيرها؛ إذ إن في هذا مخالفة تامة لما نعرفه عن هذا الأمر، فالمعروف أن الإنسان لا تنبت له أسنان بعد مرحلة الصِّبا، اللهم إلا ما يسمونه "ضرس العقل".
فإذا حاولنا استقصاء ما جاء في سيرة حياته عن أحداث تلك الحياة مرحلة مرحلة لفَت نظرَنا أن أخباره في الجاهلية تكاد أن تكون في حكم المعدومة، ففيما عدا إشاراته السريعة والعارضة في قصائده عن منادمته مثلًا للمنذر بن محرق أو معاصرته لمرض الخُنان وما إلى ذلك لا نعثر على شيء، اللهم إلا ما يقال من أنه كان يجلس في الجاهلية في الموسم بعكاظ فتتحاكم إليه الشعراء، فقدمت الخنساء يومًا فأنشدَتْه مرثيتها الرائية في أخيها صخر، فحكم لها بأنها أفضل شاعرة في النساء قائلًا: "أنت أشعر من كل ذات ثديين"، فأجابته مِن فورها: "ومن كل ذي.."، تريد أنها أشعر من الرجال أيضًا[7]، ولا أدري مدى صحة ذلك[8]، وكذلك أنه كان ممن فكَّر في الجاهلية وأنكر الخمر والسُّكر وما تفعل بالعقل، وهجر الأزلام والأوثان، وقال كلمته التي أولها:
الحمدُ للهِ لا شريك له *** مَن لم يقُلْها فنَفْسه ظلَما[9]
وكان يذكر دين إبراهيم والحنيفية ويصوم ويستغفر ويتوقع أشياء لعواقبها.
وقد نقل بعض المعاصرين ذلك الكلام نَقْلَ المصدِّق له، منهم: جرجي زيدان[10]، والشيخان أحمد الإسكندري ومصطفى عناني [11]، والسيد أحمد الهاشمي[12]، ومحقق الديوان[13]، ود. يحيى الجبوري[14]، ود. محمد طاهر درويش [15]، ود. عمر فروخ[16]، ود. محمد خضر [17]، ود. عفيف عبدالرحمن [18]، ود. محمود حسن أبو ناجي[19]، ود. خليل إبراهيم أبو ذياب [20].
يتبع


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 18.27 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 17.64 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (3.44%)]