
25-11-2022, 06:54 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,690
الدولة :
|
|
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (414)
سُورَةُ الْفُرْقَانِ .
صـ 11 إلى صـ 18
وأما الأمر الثالث منها : وهو كونهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ، فقد جاء مبينا في مواضع من كتاب الله ; كقوله تعالى : قل من رب السماوات والأرض قل الله قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا [ 13 \ 16 ] وكقوله تعالى : أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون [ 7 \ 191 - 192 ] ومن لا ينصر نفسه فهو لا يملك لها ضرا ولا نفعا . وقوله تعالى : والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون [ 7 \ 197 ] [ ص: 11 ] وقوله تعالى : وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها الآية [ 7 \ 195 - 197 ] .
وفيها الدلالة الواضحة على أنهم لا يملكون لأنفسهم شيئا ، وقوله تعالى : وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه الآية [ 22 \ 73 ] إلى غير ذلك من الآيات .
وأما الرابع والخامس والسادس من الأمور المذكورة : أعني كونهم لا يملكون موتا ، ولا حياة ، ولا نشورا . فقد جاءت أيضا مبينة في آيات من كتاب الله ; كقوله تعالى : الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون [ 30 \ 40 ] .
فقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون يدل دلالة واضحة على أن شركاءهم ليس واحد منهم يقدر أن يفعل شيئا من ذلك المذكور في الآية ، ومنه الحياة المعبر عنها بـ : خلقكم ، والموت المعبر عنه بقوله : ثم يميتكم ، والنشور المعبر بقوله : ثم يحييكم ، وبين أنهم لا يملكون نشورا بقوله : أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون [ 21 \ 21 ] . وبين أنهم لا يملكون حياة ولا نشورا ، في قوله تعالى : قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده الآية [ 10 \ 34 ] . وبين أنه وحده الذي بيده الموت والحياة في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا [ 3 \ 145 ] وقوله تعالى : ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها الآية [ 63 \ 11 ] وقوله تعالى : إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر الآية [ 31 \ 4 ] وقوله تعالى : كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم الآية [ 2 \ 28 ] وقوله تعالى : قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين الآية [ 40 \ 11 ] إلى غير ذلك من الآيات . وهذا الذي ذكرنا من بيان هذه الآيات بعضها لبعض معلوم بالضرورة من الدين .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ، أظهر الأقوال فيه أن المعنى : لا يملكون لأنفسهم دفع ضرر ولا جلب نفع ; كما قاله القرطبي [ ص: 12 ] وغيره . وغاية ما في هذا التفسير حذف مضاف دل المقام عليه ، وهو كثير في القرآن وفي كلام العرب ، وقد أشار إليه في " الخلاصة " بقوله :
وما يلي المضاف يأتي خلفا عنه في الإعراب إذا ما حذفا وقيل المعنى : لا يقدرون أن يضروا أنفسهم ، أو ينفعوها بشيء ، والأول هو الأظهر ، أي : وإذا عجزوا عن دفع ضر عن أنفسهم وجلب نفع لها فهم عن الموت والحياة والنشور أعجز ; لأن ذلك لا يقدر عليه إلا الله جل وعلا .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ولا نشورا ، اعلم أن النشور يطلق في العربية إطلاقين :
الأول : أن يكون مصدر نشر الثلاثي المتعدي ، تقول : نشر الله الميت ينشره نشرا ونشورا .
والثاني : أن يكون مصدر نشر الميت ينشر نشورا لازما ، والميت فاعل نشر .
والحاصل أن في المادة ثلاث لغات ، الأولى : أنشره رباعيا بالهمزة ينشره بضم الياء إنشارا ، ومنه قوله تعالى : ثم إذا شاء أنشره [ 80 \ 22 ] وقوله تعالى : وانظر إلى العظام كيف ننشزها [ 2 \ 259 ] بضم النون وبالراء المهملة في قراءة نافع ، وابن كثير ، وأبي عمرو ، وهو مضارع أنشره . والثانية : نشر الله الميت ينشره بصيغة الثلاثي المتعدي ، والمصدر في هذه اللغة النشر والنشور ، ومنه قوله هنا : حياة ولا نشورا ، أي لا يملكون أن ينشروا أحدا ، بفتح الياء وضم الشين . والثالثة : نشر الميت بصيغة الثلاثي اللازم ، ومعنى أنشره ونشره متعديا : أحياه بعد الموت ، ومعنى نشر الميت لازما : حيي الميت وعاش بعد موته ، وإطلاق النشر والنشور على الإحياء بعد الموت ، وإطلاق النشور على الحياة بعد الموت معروف في كلام العرب ، ومن إطلاقهم نشر الميت لازما فهو ناشر ، أي : عاش بعد الموت ، قول الأعشى :
لو أسندت ميتا إلى نحرها عاش ولم ينقل إلى قابر
حتى يقول الناس مما رأوا يا عجبا للميت الناشر
ومن إطلاق النشور بمعنى الإحياء بعد الموت ، مصدر الثلاثي المتعدي ، قوله هنا : [ ص: 13 ] ولا نشورا ، أي : بعثا بعد الموت ، ومن إطلاقهم النشور بمعنى الحياة بعد الموت مصدر الثلاثي اللازم ، قول الآخر :
إذا قبلتها كرعت بفيها كروع العسجدية في الغدير
فيأخذني العناق مبرد فيها بموت في عظامي
أو فتور فنحيا تارة ونموت أخرى ونخلط ما نموت بالنشور
فقد جعل الغيبوبة من شدة اللذة موتا ، والإفاقة منها نشورا ، أي : حياة بعد الموت .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : واتخذوا من دونه آلهة ، حذف فيه أحد المفعولين ، أي : اتخذوا من دونه أصناما آلهة ; كقوله تعالى : وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة الآية [ 6 \ 74 ] والآلهة جمع إله ، فهو فعال مجموع على أفعلة ، لأن الألف التي بعد الهمزة مبدلة من همزة ساكنة هي فاء الكلمة ، كما قال في " الخلاصة " :
ومدا أبدل ثاني الهمزين من كلمة إن يسكن كآثر وأتمن
والإله المعبود فهو فعال بمعنى مفعول ، وإتيان الفعال بمعنى المفعول جاءت منه أمثلة في اللغة العربية كالإلاه بمعنى المألوه ، أي : المعبود ، والكتاب بمعنى المكتوب ، واللباس بمعنى الملبوس ، والإمام بمعنى المؤتم به ، ومعلوم أن المعبود بحق واحد ، وغيره من المعبودات أسماء سماها الكفار ما أنزل الله بها من سلطان : وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون [ 10 \ 66 ] إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان الآية 53 \ 23 ] .
قوله تعالى وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلما وزورا . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الذين كفروا وكذبوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا في هذا القرآن العظيم ، الذي أوحاه الله إليه : إن هذا إلا إفك افتراه ، أي : ما هذا القرآن إلا كذب اختلقه محمد - صلى الله عليه وسلم - وأعانه عليه على الإفك الذي افتراه قوم آخرون ، قيل : اليهود ، وقيل : عداس مولى حويطب بن عبد العزى ، ويسار مولى العلاء بن الحضرمي ، وأبو فكيهة الرومي ، قال ذلك النضر بن الحر العبدري .
[ ص: 14 ] وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أن الكفار كذبوه وادعوا عليه أن القرآن كذب اختلقه ، وأنه أعانه على ذلك قوم آخرون جاء مبينا في آيات أخر ; كقوله تعالى : وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب [ 38 \ 4 ] وقوله تعالى : وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون [ 16 \ 101 ] وقوله تعالى : بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج ، وقوله تعالى : وكذب به قومك وهو الحق الآية [ 6 \ 66 ] والآيات في ذلك كثيرة معلومة .
وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أنهم افتروا على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أنه أعانه على افتراء القرآن قوم آخرون جاء أيضا موضحا في آيات أخر ; كقوله تعالى : ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر [ 16 \ 103 ] وقوله تعالى : فقال إن هذا إلا سحر يؤثر [ 74 \ 24 ] أي : يرويه محمد - صلى الله عليه وسلم - عن غيره إن هذا إلا قول البشر [ 74 \ 25 ] وقوله تعالى : وليقولوا درست [ 6 \ 105 ] كما تقدم إيضاحه في " الأنعام " ، وقد كذبهم الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة فيما افتروا عليه من البهتان بقوله : فقد جاءوا ظلما وزورا ، قال الزمخشري : ظلمهم أن جعلوا العربي يتلقن من الأعجمي الرومي كلاما عربيا أعجز بفصاحته جميع فصحاء العرب ، والزور هو أن بهتوه بنسبة ما هو بريء منه إليه ، انتهى . وتكذيبه جل وعلا لهم في هذه الآية الكريمة ، جاء موضحا في مواضع أخر من كتاب الله ; كقوله تعالى : لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين [ 16 \ 103 ] كما تقدم إيضاحه في سورة " النحل " ، وقوله : وكذب به قومك وهو الحق [ 6 \ 66 ] وقوله تعالى : فقال إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر سأصليه سقر وما أدراك ما سقر الآية [ 74 \ 24 - 27 ] لأن قوله : سأصليه سقر بعد ذكر افترائه على القرآن العظيم يدل على عظم افترائه وأنه سيصلى بسببه عذاب سقر ، أعاذنا الله وإخواننا المسلمين منها ، ومن كل ما قرب إليها من قول وعمل .
واعلم : أن العرب تستعمل جاء وأتى بمعنى : فعل ، فقوله : فقد جاءوا ظلما ، أي : فعلوه ، وقيل : بتقدير الباء ، أي : جاءوا بظلم ، ومن إتيان أتى بمعنى فعل قوله تعالى : لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ، أي : بما فعلوه . وقول زهير بن أبي سلمى : [ ص: 15 ]
فما يك من خير أتوه فإنما توارثه آباء آبائهم قبل
واعلم بأن الإفك هو أسوأ الكذب ، لأنه قلب للكلام عن الحق إلى الباطل ، والعرب تقول : أفكه بمعنى قلبه ، ومنه قوله تعالى في قوم لوط : والمؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات ، وقوله : والمؤتفكة أهوى [ 53 \ 53 ] وإنما قيل لها مؤتفكات ; لأن الملك أفكها ، أي : قلبها ; كما أوضحه تعالى بقوله : جعلنا عاليها سافلها [ 11 \ 82 ] .
قوله تعالى : وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما . ذكر جل وعلا في الأولى من هاتين الآيتين أن الكفار ، قالوا : إن هذا القرآن أساطير الأولين ، أي : مما كتبه وسطره الأولون كأحاديث رستم وأسفنديار ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمعه ، وأخذه من تلك الأساطير ، وأنه اكتتب تلك الأساطير ، قال الزمخشري : أي كتبها لنفسه وأخذها ، كما تقول : استكب الماء واصطبه إذا سكبه وصبه لنفسه وأخذه ، وقوله : فهي تملى عليه ، أي : تلقى إليه ، وتقرأ عليه عند إرادته كتابتها ليكتبها ، والإملاء إلقاء الكلام على الكاتب ليكتبه ، والهمزة مبدلة من اللام تخفيفا ، والأصل في الإملاء الإملال باللام ، ومنه قوله تعالى : فليكتب وليملل الذي عليه الحق الآية [ 2 \ 28 ] .
وقوله : بكرة وأصيلا ، البكرة : أول النهار ، والأصيل : آخره .
وما ذكره جل وعلا في هذه الآية من أن الكفار ، قالوا : إن القرآن أساطير الأولين ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - تعلمه من غيره وكتبه جاء موضحا في آيات متعددة ; كقوله تعالى : وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين [ 18 \ 31 ] .
وقد ذكرنا آنفا الآيات الدالة على أنهم افتروا عليه أنه تعلم القرآن من غيره ، وأوضحنا تعنتهم وكذبهم في ذلك في سورة " النحل " ، ودلالة الآيات على ذلك في الكلام على قوله تعالى : لسان الذي يلحدون إليه أعجمي ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
[ ص: 16 ] ومن الآية الدالة على كذبهم في قوله : اكتتبها فهي تملى عليه ، قوله تعالى : وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون [ 29 \ 84 ] وقوله تعالى : الذين يتبعون الرسول النبي الأمي ، إلى قوله تعالى : فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي [ 7 \ 157 - 158 ] والأمي هو الذي لا يقرأ ولا يكتب ، وما ذكر جل وعلا في الآية الأخيرة من قوله : قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض الآية ، جاء أيضا موضحا في آيات أخر ; كقوله تعالى : قل نزله روح القدس من ربك الآية [ 16 \ 102 ] وقوله تعالى : قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله الآية [ 2 \ 97 ] وقوله تعالى : وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين [ 26 \ 192 - 195 ] وقوله تعالى : ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه [ 20 \ 114 ] وقوله تعالى : لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه [ 75 \ 16 - 19 ] وقوله تعالى : فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون تنزيل من رب العالمين [ 69 \ 38 - 43 ] وقوله تعالى : تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلا [ 20 \ 4 ] إلى غير ذلك من الآيات .
وقوله هنا : الذي يعلم السر في السماوات والأرض ، أي : ومن يعلم السر ، فلا شك أنه يعلم الجهر .
ومن الآيات الدالة على ما دلت عليه هذه الآية الكريمة ، من كونه تعالى يعلم السر في السماوات والأرض ، قوله تعالى : وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى [ 20 \ 7 ] وقوله تعالى : وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور [ 67 \ 13 ] وقوله تعالى : ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب [ 9 \ 78 ] وقوله تعالى : أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون [ 43 \ 80 ] وقوله تعالى : ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم [ 32 \ 6 ] وقوله تعالى : واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه واعلموا أن الله الآية [ 2 \ 235 ] وقوله تعالى : وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين [ ص: 17 ] [ 27 \ 75 ] والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : إنه كان غفورا رحيما ، قال فيه ابن كثير : هو دعاء لهم إلى التوبة والإنابة ، وإخبار لهم بأن رحمته واسعة ، وأن حلمه عظيم ، وأن من تاب إليه تاب عليه ، فهؤلاء مع كذبهم ، وافترائهم ، وفجورهم ، وبهتانهم ، وكفرهم ، وعنادهم ، وقولهم عن الرسول والقرآن ما قالوا يدعوهم إلى التوبة والإقلاع عما هم فيه إلى الإسلام والهدى ; كما قال تعالى : لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم [ 5 \ 73 - 74 ] ، وقال تعالى : إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق [ 85 \ 10 ] .
قال الحسن البصري : انظروا إلى هذا الكرم والجود ، قتلوا أولياءه ، وهو يدعوهم إلى التوبة والرحمة ، انتهى كلام ابن كثير - رحمه الله تعالى - وما ذكره واضح .
والآيات الدالة على مثله كثيرة ; كقوله تعالى : قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف [ 8 \ 38 ] ، وقوله تعالى : وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا الآية [ 20 \ 82 ] إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الكفار قالوا في نبينا - صلى الله عليه وسلم - : ما لهذا الذي يدعي أنه رسول ، وذلك كقول فرعون في موسى : إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون [ 26 \ 27 ] أي : ما له يأكل الطعام كما نأكله ، فهو محتاج إلى الأكل كاحتياجنا إليه ، ويمشي في الأسواق أي لاحتياجه إلى البيع والشراء ، ليحصل بذلك قوته ، يعنون أنه لو كان رسولا من عند الله لكان ملكا من الملائكة لا يحتاج إلى الطعام ، ولا إلى المشي في الأسواق ، وادعاء الكفار أن الذي يأكل كما يأكل الناس ، ويحتاج إلى المشي في الأسواق ، لقضاء حاجته منها ، لا يمكن أن يكون رسولا ، وأن الله لا يرسل إلا ملكا لا يحتاج للطعام ولا للمشي في الأسواق ، جاء موضحا في آيات كثيرة ، وجاء في آيات أيضا تكذيب الكفار في دعواهم هذه الباطلة .
[ ص: 18 ] فمن الآيات الدالة على قولهم مثل ما ذكر عنهم في هذه الآية ، قوله تعالى : وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون [ 23 \ 33 - 34 ] وقوله تعالى : وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا [ 17 \ 94 ] وقوله تعالى عنهم : فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا الآية [ 23 \ 47 ] وقوله تعالى : أبشرا منا واحدا نتبعه الآية [ 54 \ 24 ] وقوله : فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا وتولوا واستغنى الله الآية [ 64 \ 6 ] وقوله تعالى : قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا [ 14 \ 10 ] . ومن الآيات التي كذبهم الله بها في دعواهم هذه الباطلة ، وبين فيها أن الرسل يأكلون ويمشون في الأسواق ويتزوجون ويولد لهم ، وأنهم من جملة البشر ، إلا أنه فضلهم بوحيه ورسالته ، وأنه لو أرسل للبشر ملكا لجعله رجلا ، وأنه لو كانت في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين ، لنزل عليهم ملكا رسولا ، لأن المرسل من جنس المرسل إليهم ، قوله تعالى في هذه السورة الكريمة : وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق [ 25 \ 20 ] وقوله تعالى : ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية [ 13 \ 38 ] وقوله تعالى : أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى [ 12 \ 109 ] أي ولم نجعلهم ملائكة ، لأن كونهم رجالا وكونهم من أهل القرى ، صريح في أنهم ليسوا ملائكة ، وقوله تعالى : ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون [ 6 \ 9 ] وقد أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يقول للكفار : إنه بشر ، وإنه رسول . وذلك لأن البشرية لا تنافي الرسالة في قوله تعالى : قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا [ 17 \ 93 ] وقوله تعالى : قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا [ 18 \ 110 ] وقوله تعالى : قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه الآية [ 41 \ 6 ] . وبين جل وعلا أن الرسل قالوا مثل ذلك في قوله : لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده الآية [ 14 \ 11 ] وقال تعالى : قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا [ 17 \ 95 ]

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|