عرض مشاركة واحدة
  #6  
قديم 22-11-2022, 05:28 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,362
الدولة : Egypt
افتراضي رد: دراسة للخطب في الجاهلية

دراسة للخطب في الجاهلية (2)



د. إبراهيم عوض




وهناك ضربٌ آخر من الخطب المنسوبة للعصر الجاهلي تثير نوعًا آخر من التساؤلات، وهي الخطب التي يقال: إن بعضًا من وجوه العرب ورؤسائهم قد ألقوها في قصر العاهل الكسروي بالمدائن وبمحضر منه، ودار الجدال بينه وبينهم حول المقارنة بين فضائل العرب وغيرهم من الأمم بما فيها فارس نفسها؛ إذ يتساءل الإنسان: هل من المعقول أن يجرؤ أولئك العرب، الذين لم تكن لهم في ذلك الحين دولة تحميهم من بطش كسرى إذا فكر في البطش بهم، على أن يتفاخروا في وجهه ذلك الفخر المجلجل الذي يرفع العرب فوق كل الأمم؟ ثم إن الرواية تذكر أن وفودًا من الصين والهند والروم كانت موجودة في ذلك الاجتماع تتبادل التفاخر والتباهي بأصولها وأعراقها، فهل كان هناك في تلك الأزمان ما يمكن ببساطة، ودون افتئات على حقائق الحوادث لو صح ما تقوله لنا الروايات، أن نسميه: "حوار القوميات" أو "حوار الحضارات"؟ ولكن فلنقرأ أولًا شيئًا من هذه الخطب وقصتها؛ حتى يكون الكلام عن بينة، تقول الرواية:
"قدم النعمان بن المنذر على كسرى، وعنده وفود الروم والهند والصين، فذكروا من ملوكهم وبلادهم، فافتخر النعمان بالعرب وفضلهم على جميع الأمم لا يستثني فارس ولا غيرها، فقال كسرى - وأخذته عزة الملك -: يا نعمان، لقد فكرت في أمر العرب وغيرهم من الأمم، ونظرت في حالة من يقدم عليَّ من وفود الأمم فوجدت للروم حظًّا في اجتماع ألفتها وعظم سلطانها وكثرة مدائنها ووثيق بنيانها وأن لها دينًا يبين حلالها وحرامها، ويرد سفيهها ويقيم جاهلها، ورأيت الهند نحوًا من ذلك في حكمتها وطبها مع كثرة أنهار بلادها وثمارها، وعجيب صناعتها وطيب أشجارها ودقيق حسابها وكثرة عددها، وكذلك الصين في اجتماعها وكثرة صناعات أيديها وفروسيتها وهمتها في آلة الحرب وصناعة الحديد وأن لها ملكًا يجمعها، والترك والخزر، على ما بهم من سوء الحال في المعاش وقلة الريف والثمار والحصون وما هو رأس عمارة الدنيا من المساكن والملابس، لهم ملوك تضم قواصيهم وتدبر أمرهم، ولم أرَ للعرب شيئًا من خصال الخير في أمر دين ولا دنيا ولا حزم ولا قوة، ومع أن مما يدل على مهانتها وذلها وصغر همتها محلتهم التي هم بها مع الوحوش النافرة والطير الحائرة، يقتلون أولادهم من الفاقة، ويأكل بعضهم بعضًا من الحاجة، قد خرجوا من مطاعم الدنيا وملابسها ومشاربها ولهوها ولذاتها، فأفضل طعام ظفر به ناعمهم لحوم الإبل التي يعافها كثير من السباع؛ لثقلها وسوء طعمها وخوف دائها، وإن قرى أحدهم ضيفًا (أي أطعمه) عدها مكرمة، وإن أطعم أكلة عدها غنيمة، تنطق بذلك أشعارهم وتفتخر بذلك رجالهم، ما خلا هذه التَّنُوخية التي أسس جدي اجتماعها وشد مملكتها ومنعها من عدوها، فجرى لها ذلك إلى يومنا هذا، وإن لها مع ذلك آثارًا ولبوسًا وقرى وحصونًا وأمورًا تشبه بعض أمور الناس، يعني اليمن، ثم لا أراكم تستكينون على ما بكم من الذلة والقلة والفاقة والبؤس حتى تفتخروا وتريدوا أن تنزلوا فوق مراتب الناس! قال النعمان: أصلح الله الملك، حق لأمةٍ الملكُ منها أن يسمو فضلها ويعظم خطبها وتعلو درجتها، إلا أن عندي جوابًا في كل ما نطق به الملك في غير رد عليه ولا تكذيب له، فإن أمنني من غضبه نطقت به، قال كسرى: قل، فأنت آمن.

قال النعمان: أما أمتك أيها الملك فليست تنازع في الفضل لموضعها الذي هي به من عقولها وأحلامها وبسطة محلها وبحبوحة عزها وما أكرمها الله به من ولاية آبائك وولايتك، وأما الأمم التي ذكرت فأي أمة تقرنها بالعرب إلا فضلتها؟ قال كسرى: بماذا؟ قال النعمان: بعزها ومنعتها وحسن وجوهها وبأسها وسخائها وحكمة ألسنتها وشدة عقولها وأنفتها ووفائها: فأما عزها ومنعتها فإنها لم تزل مجاورة لآبائك الذين دوخوا البلاد ووطدوا الملك وقادوا الجند، لم يطمع فيهم طامع، ولم ينلهم نائل، حصونهم ظهور خيلهم، ومهادهم الأرض، وسقوفهم السماء، وجُنَّتهم السيوف، وعدتهم الصبر؛ إذ غيرها من الأمم إنما عزها من الحجارة والطين وجزائر البحور، وأما حسن وجوهها وألوانها فقد يُعرف فضلهم في ذلك على غيرهم من الهند المنحرفة والصين المنحفة والروم والترك المشوهة المقشرة، وأما أنسابها وأحسابها فليست أمة من الأمم إلا وقد جهلت آباءها وأصولها وكثيرًا من أولها، حتى إن أحدهم ليسأل عمن وراء أبيه دنيًا (أي بعده مباشرة) فلا ينسبه ولا يعرفه، وليس أحد من العرب إلا يسمي آباءه أبًا فأبًا، حاطوا بذلك أحسابهم وحفظوا به أنسابهم، فلا يدخل رجل في غير قومه، ولا ينتسب إلى غير نسبه، ولا يُدعى إلى غير أبيه، وأما سخاؤها فإن أدناهم رجلًا الذي تكون عنده البكرة والناب عليها بلاغه في حموله وشبعه وريه فيطرقه الطارق الذي يكتفي بالفلذة ويجتزئ بالشربة فيعقرها له ويرضى أن يخرج عن دنياه كلها فيما يكسبه حسن الأحدوثة وطيب الذكر، وأما حكمة ألسنتهم فإن الله تعالى أعطاهم في أشعارهم ورونق كلامهم وحسنه ووزنه وقوافيه مع معرفتهم الأشياء وضربهم للأمثال وإبلاغهم في الصفات ما ليس لشيء من ألسنة الأجناس، ثم خيلُهم أفضل الخيل، ونساؤهم أعف النساء، ولباسهم أفضل اللباس، ومعادنهم الذهب والفضة، وحجارة جبالهم الجزع، ومطاياهم التي لا يبلغ على مثلها سفر، ولا يقطع بمثلها بلد قفر، وأما دينها وشريعتها فإنهم متمسكون به حتى يبلغ أحدهم من نسكه بدينه أن لهم أشهرًا حرمًا وبلدًا محرمًا وبيتًا محجوجًا ينسكون فيه مناسكهم ويذبحون فيه ذبائحهم فيلقى الرجل قاتل أبيه أو أخيه وهو قادر على أخذ ثأره وإدراك رغمه منه فيحجزه كرمه ويمنعه دينه عن تناوله بأذى، وأما وفاؤها فإن أحدهم يلحظ اللحظة ويومئ الإيماءة، فهي ولثٌ (أي عهد) وعقدة لا يحلها إلا خروج نفسه، وإن أحدهم يرفع عودًا من الأرض فيكون رهنًا بدينه فلا يغلق رهنه ولا تخفر ذمته، وإن أحدهم ليبلغه أن رجلًا استجار به، وعسى أن يكون نائيًا عن داره، فيصاب، فلا يرضى حتى يُفني تلك القبيلة التي أصابته، أو تفنى قبيلته لما أخفر من جواره، وإنه ليلجأ إليهم المجرم المحدِث من غير معرفة ولا قرابة فتكون أنفسهم دون نفسه، وأموالهم دون ماله، وأما قولك أيها الملك: "يئدون أولادهم" فإنما يفعله من يفعله منهم بالإناث؛ أنفةً من العار وغيرة من الأزواج، وأما قولك: إن أفضل طعامهم لحوم الإبل على ما وصفت منها، فما تركوا ما دونها إلا احتقارًا لها، فعمدوا إلى أجلها وأفضلها، فكانت مراكبهم وطعامهم مع أنها أكثر البهائم شحومًا وأطيبها لحومًا وأرقها ألبانًا وأقلها غائلة وأحلاها مضغة، وإنه لا شيء من اللحمان يعالج ما يعالج به لحمها إلا استبان فضلها عليه، وأما تحاربهم وأكل بعضهم بعضًا وتركهم الانقياد لرجل يسوسهم ويجمعهم فإنما يفعل ذلك من يفعله من الأمم إذا أنِسَتْ من نفسها ضعفًا وتخوفت نهوض عدوها إليها بالزحف، وإنه إنما يكون في المملكة العظيمة أهل بيت واحد يُعرف فضلهم على سائر غيرهم فيُلقون إليهم أمورهم وينقادون لهم بأزمَّتِهم، وأما العرب فإن ذلك كثير فيهم، حتى لقد حاولوا أن يكونوا ملوكًا أجمعين مع أنفتهم من أداء الخراج والوطث (أي الوطء) بالعسف، وأما اليمن التي وصفها الملك فإنما أتى جد الملك إليها الذي أتاه عند غلبة الجيش له على ملك متسق وأمر مجتمع فأتاه مسلوبًا طريدًا مستصرخًا، ولولا ما وتر به من يليه من العرب لمال إلى مجال، ولوجد من يجيد الطعان ويغضب للأحرار من غلبة العبيد الأشرار، فعجب كسرى لما أجابه النعمان به، وقال: إنك لأهل لموضعك من الرياسة في أهل إقليمك، ثم كساه من كسوته، وسرحه إلى موضعه من الحِيرة.

فلما قدم النعمان الحِيرة، وفي نفسه ما فيها مما سمع من كسرى من تنقص العرب وتهجين أمرهم، بعث إلى أكثم بن صيفي وحاجب بن زرارة التميميين وإلى الحارث بن عباد وقيس بن مسعود البكريين وإلى خالد بن جعفر وعلقمة بن علاثة وعامر بن الطفيل العامريين وإلى عمرو بن الشريد السلمي وعمرو بن معد يكرب الزبيدي والحارث بن ظالم المري، فلما قدموا عليه في الخورنق قال لهم: قد عرفتم هذه الأعاجم وقرب جوار العرب منها، وقد سمعت من كسرى مقالات تخوفت أن يكون لها غور، أو يكون إنما أظهرها لأمر أراد أن يتخذ به العرب خولًا (أي خدَّامًا) كبعض طماطمته (الطماطمة: الذين لا يحسنون الكلام) في تأديتهم الخراج إليه كما يفعل بملوك الأمم الذين حوله، فاقتص عليهم مقالات كسرى وما رد عليه، فقالوا: أيها الملك، وفقك الله! ما أحسن ما رددت، وأبلغ ما حججته به! فمرنا بأمرك وادعنا إلى ما شئت، قال: إنما أنا رجل منكم، وإنما ملكت وعززت بمكانكم وما يتخوف من ناحيتكم، وليس شيء أحب إليَّ مما سدد الله به أمركم وأصلح به شأنكم وأدام به عزكم، والرأي أن تسيروا بجماعتكم أيها الرهط وتنطلقوا إلى كسرى، فإذا دخلتم نطق كل رجل منكم بما حضره ليعلم أن العرب على غير ما ظن أو حدثته نفسه، ولا ينطق رجل منكم بما يغضبه؛ فإنه ملك عظيم السلطان كثير الأعوان مترف معجب بنفسه، ولا تنخزلوا له انخزال الخاضع الذليل، وليكن أمر بين ذلك تظهر به وثاقة حلومكم وفضل منزلتكم وعظيم أخطاركم، وليكن أول من يبدأ منكم بالكلام أكثم بن صيفي، ثم تتابعوا على الأمر من منازلكم التي وضعتكم بها، فإنما دعاني إلى التقدمة إليكم علمي بميل كل رجل منكم إلى التقدم قبل صاحبه، فلا يكوننَّ ذلك منكم فيجد في آدابكم مطعنًا؛ فإنه ملك مترف وقادر مسلط، ثم دعا لهم بما في خزائنه من طرائف حلل الملوك، كل رجل منهم حلة، وعممه عمامة، وختمه بياقوتة، وأمر لكل رجل منهم بنجيبة مهرية وفرس نجية، وكتب معهم كتابًا: أما بعد، فإن الملك ألقى إليَّ من أمر العرب ما قد علم، وأجبته بما قد فهم مما أحببت أن يكون منه على علم، ولا يتلجلج في نفسه أن أمة من الأمم التي احتجزت دونه بمملكتها وحمت ما يليها بفضل قوتها تبلغها في شيء من الأمور التي يتعزز بها ذوو الحزم والقوة والتدبير والمكيدة، وقد أوفدت، أيها الملك، رهطًا من العرب لهم فضل في أحسابهم وأنسابهم وعقولهم وآدابهم، فليسمع الملك وليغمض عن جفاء إن ظهر من منطقهم، وليكرمني بإكرامهم وتعجيل سراحهم، وقد نسبتهم في أسفل كتابي هذا إلى عشائرهم، فخرج القوم في أهبتهم حتى وقفوا بباب كسرى بالمدائن، فدفعوا إليه كتاب النعمان فقرأه وأمر بإنزالهم إلى أن يجلس لهم مجلسًا يسمع منهم، فلما أن كان بعد ذلك بأيام أمر مرازبته ووجوه أهل مملكته فحضروا وجلسوا على كراسيَّ عن يمينه وشماله، ثم دعا بهم على الولاء والمراتب التي وصفهم النعمان بها في كتابه، وأقام الترجمان ليؤدي إليه كلامهم ثم أذن لهم في الكلام.

فقام أكثم بن صيفي فقال: إن أفضل الأشياء أعاليها، وأعلى الرجال ملوكها، وأفضل الملوك أعمها نفعًا، وخير الأزمنة أخصبها، وأفضل الخطباء أصدقها، الصدق منجاة، والكذب مهواة، والشر لجاجة، والحزم مركبٌ صعب، والعجز مركب وطيء، آفة الرأي الهوى، والعجز مفتاح الفقر، وخير الأمور الصبر، حسن الظن ورطة، وسوء الظن عصمة، إصلاح فساد الرعية خير من إصلاح فساد الراعي، من فسدت بطانته كان كالغاص بالماء، شر البلاد بلاد لا أمير بها، شر الملوك من خافه البريء، المرء يعجز لا المحالة، أفضل الأولاد البررة، خير الأعوان من لم يُراءِ بالنصيحة، أحق الجنود بالنصر من حسنت سريرته، يكفيك من الزاد ما بلغك المحل، حسبك من شر سماعه، الصمت حُكمٌ، وقليل فاعله، البلاغة الإيجاز، من شدد نفر، ومن تراخى تألف، فتعجب كسرى من أكثم، ثم قال: ويحك يا أكثم! ما أحكمك وأوثق كلامك لولا وضعك كلامك في غير موضعه، قال أكثم: الصدق ينبئ عنك لا الوعيد، قال كسرى: لو لم يكن للعرب غيرك لكفى، قال أكثم: رب قول أنفَذ من صول.

ثم قام حاجب بن زرارة التميمي فقال: وَرِيَ زندك، وعلت يدك، وهِيب سلطانك، إن العرب أمة قد غلظت أكبادها واستحصدت مِرَّتها ومنعت درتها، وهي لك وامقة ما تألفتها، مسترسلة ما لاينتها، سامعة ما سامحتها، وهي العلقم مرارة، والصاب غضاضة، والعسل حلاوة، والماء الزلال سلاسة، نحن وفودها إليك، وألسنتها لديك، ذمتنا محفوظة، وأحسابنا ممنوعة، وعشائرنا فينا سامعة مطيعة، إن نؤب لك حامدين خيرًا فلك بذلك عموم محمدتنا، وإن نذم لم نخص بالذم دونها، قال كسرى: يا حاجب، ما أشبه حجر التلال بألوان صخرها! قال حاجب: بل زئير الأسد بصولتها، قال كسرى: وذلك.

ثم قام الحارث بن عباد البكري فقال: دامت لك المملكة باستكمال جزيل حظها وعلو سنائها، من طال رشاؤه كثر متحه، ومن ذهب ماله قل منحه، تناقل الأقاويل يعرِّف اللب، وهذا مقام سيوجف بما ينطق به الركب وتعرف به كُنْهَ حالنا العجم والعرب، ونحن جيرانك الأدنون، وأعوانك المعينون، خيولنا جمة، وجيوشنا فخمة، إن استنجدتنا فغير ربض، وإن استطرقتنا فغير جهض، وإن طلبتنا فغير غمض، لا ننثني لذعر، ولا نتنكر لدهر، رماحنا طوال، وأعمارنا قصار، قال كسرى: أنفس عزيزة، وأمة ضعيفة، قال الحارث: أيها الملك، وأنى يكون لضعيف عزة، أو لصغير مرة؟ قال كسرى: لو قصر عمرك لم تستولِ على لسانك نفسك، قال الحارث: أيها الملك، إن الفارس إذا حمل نفسه على الكتيبة مغررًا بنفسه على الموت فهي منيَّة استقبلها، وجنان استدبرها، والعرب تعلم أني أبعث الحرب قدمًا، وأحبسها وهي تَصَرَّفُ بها، حتى إذا جاشت نارها وسعرت لظاها وكشفت عن ساقها جعلت مقادها رمحي، وبرقها سيفي، ورعدها زئيري، ولم أقصر عن خوض خضخاضها حتى أنغمس في غمرات لججها، وأكون فلكًا لفرساني إلى بحبوحة كبشها فأستمطرها دمًا، وأترك حماتها جزر السباع وكل نسر قشعم (أي: أقتلهم وأتركهم للسباع والنسور تنهش جثثهم)، ثم قال كسرى لمن حضره من العرب: أكذلك هو؟ قالوا: فعالُه أنطق من لسانه، قال كسرى: ما رأيت كاليوم وفدًا أحشد، ولا شهودًا أوفد.

ثم قام عمرو بن الرشيد السلمي فقال: أيها الملك، نَعِمَ بالك، ودام في السرور حالك، إن عاقبة الكلام متدبرة، وأشكال الأمور معتبرة، وفي كثيرٍ ثِقْلة، وفي قليل بُلْغة، وفي الملوك سورة العز، وهذا منطق له ما بعده، شرف فيه مَن شرف، وخمل فيه من خمل، لم نأتِ لضيمك، ولم نَفِدْ لسخطك، ولم نتعرض لرِفدك (أي عطائك)، إن في أموالنا منتقدًا، وعلى عزنا معتمدًا، إن أورينا نارًا أثقبنا، وإن أَوِدَ دهر بنا اعتدلنا، إلا أنا مع هذا لجوارك حافظون، ولمن رامك كافحون، حتى يحمد الصدَر، ويستطاب الخبر، قال كسرى: ما يقوم قصد منطقك بإفراطك، ولا مدحك بذمك، قال عمرو: كفى بقليل قصدي هاديًا، وبأيسر إفراطي مخبرًا، ولم يلم مَن غرَبت نفسه عما يعلم، ورضي من القصد بما بلغ، قال كسرى: ما كل ما يعرف المرء ينطق به، اجلس.

ثم قام خالد بن جعفر الكلابي فقال: أحضر الله الملك إسعادًا، وأرشده إرشادًا، إن لكل منطق فرصة، ولكل حاجة غصة، وعي المنطق أشد من عي السكوت، وعثار القول أنكأ من عثار الوعث، وما فرصة المنطق عندنا إلا بما نهوى، وغصة المنطق بما لا نهوى غير مستساغة، وتركي ما أعلم من نفسي ويعلم من سمعني أني له مطيق أحب إليَّ من تكلفي ما أتخوف ويتخوف مني، وقد أوفدنا إليك ملكنا النعمان، وهو لك من خير الأعوان، ونعم حامل المعروف والإحسان، أنفسنا بالطاعة لك باخعة، ورقابنا بالنصيحة خاضعة، وأيدينا لك بالوفاء رهينة، قال له كسرى: نطقتَ بعقل، وسموتَ بفضل، وعلوت بنُبْل.

ثم قام علقمة بن علاثة العامري فقال: نهجت لك سبل الرشاد، وخضعت لك رقاب العباد، إن للأقاويل مناهج، وللآراء موالج، وللعويص مخارج، وخير القول أصدقه، وأفضل الطلب أنجحه، إنا، وإن كانت المحبة أحضرتنا والوفادة قربتنا، فليس مَن حضرك منا بأفضل ممن عزب عنك، بل لو قِست كل رجل منهم وعلمت منهم ما علمنا لوجدت له في آبائه ذنيًا أندادًا وأكفاءً، كلهم إلى الفضل منسوب، وبالشرف والسؤدد موصوف، وبالرأي الفاضل والأدب النافذ معروف، يحمي حماه، ويُروي نداماه، ويذود أعداه، لا تخمد ناره، ولا يحترز منه جاره، أيها الملك، من يبلُ العرب يعرف فضلهم، فاصطنع العرب؛ فإنها الجبال الرواسي عزًّا، والبحور الزواخر طميًا، والنجوم الزواهر شرفًا، والحصى عددًا، فإن تعرف لهم فضلهم يعزوك، وإن تستصرخهم لا يخذلوك، قال كسرى - وخشي أن يأتي منه كلام يحمله على السخط عليه -: حسبك! أبلغتَ وأحسنت!

ثم قام قيس بن مسعود الشيباني فقال: أطاب الله بك المراشد، وجنبك المصائب، ووقاك مكروه الشصائب (الشدائد)، ما أحقنا، إذ أتيناك، بإسماعك ما لا يحنق صدرك، ولا يزرع لنا حقدًا في قلبك! لم نقدَمْ أيها الملك لمساماة، ولم ننتسب لمعاداة، ولكن لتعلم أنت ورعيتك ومن حضرك من وفود الأمم أنا في المنطق غير محجمين، وفي الناس غير مقصرين، إن جورينا فغير مسبوقين، وإن سومينا فغير مغلوبين، قال كسرى: غير أنكم إذا عاهدتم غير وافين (وهو يعرض به في تركه الوفاء بضمانه السواد)، قال قيس: أيها الملك، ما كنتُ في ذلك إلا كوافٍ غُدر به، أو كخافر أخفر بذمته، قال كسرى: ما يكون لضعيف ضمان، ولا لذليل خفارة، قال قيس: أيها الملك، ما أنا فيما أخفر من ذمتي أحق بإلزامي العار منك فيما قتل من رعيتك، وانتهك من حرمتك، قال كسرى: ذلك لأن من ائتمن الخانة (رأى الخونة)، واستنجد الأثمة، ناله من الخطأ ما نالني، وليس كل الناس سواء، كيف رأيت حاجب بن زرارة؟ لِمَ يُحكم قواه فيبرم، ويعهد فيوفي، ويعِد فينجز؟ قال: وما أحقه بذلك! وما رأيته إلا لي، قال كسرى: القوم بُزُلٌ (البازل: الناقة المسنة)، فأفضلها أشدها.

ثم قام عامر بن الطفيل العامري فقال: كثر فنون المنطق، ولبس القول أعمى من حندس الظلماء، وإنما الفخر في الفعال، والعجز في النجدة، والسؤدد مطاوعة القدرة، وما أعلمك بقدرنا، وأبصرك بفضلنا، وبالحري إن أدالت الأيام، ثابت الأحلام، أن تحدث لنا أمورًا لها أعلام، قال كسرى: وما تلك الأعلام؟ قال: مجتمع الأحياء من ربيعة ومضر، على أمرٍ يُذكر، قال كسرى: وما الأمر الذي يُذكر؟ قال: ما لي علمٌ بأكثر مما أخبرني به مخبر، قال كسرى: متى تكاهنت يا بن الطفيل؟ قال: لست بكاهن، ولكني بالرمح طاعن، قال كسرى: فإن أتاك آتٍ من جهة عينك العوراء، ما أنت صانع؟ قال: ما هيبتي في قفاي بدون هيبتي في وجهي، وما أذهب عيني عبث، ولكن مطاوعة العبث.
يتبع
اليوم, 07:06 PM
ابو وليد البحيرى
رد: دراسة للخطب في الجاهلية
فقال له حاتم: إن كنتُ لأحب أن يأتيني مثلك من قومك، هذا مرباعي من الغارة على بني تميم، فخذه وافرًا، فإن وفى بالحَمالة، وإلا أكملتها لك، وهو مائتا بعير سوى بنيها وفصالها، مع أني لا أحب أن تُويِس قومك بأموالهم، فضحك أبو جبيل وقال: لكم ما أخذتم منا، ولنا ما أخذنا منكم، وأي بعير دفعته إليَّ ليس ذنبه في يد صاحبه فأنت منه بريء، فدفعها إليه وزاده مائة بعير، فأخذها وانصرف راجعًا إلى قومه، فقال حاتم في ذلك:

أتاني البُرْجُميُّ أبو جُبَيْل
لهمٍّ في حَمالتِه طويلِ

فقلتُ له: خذ المرباع رهوًا
فإني لستُ أرضى بالقليل

على حالٍ ولا عوَّدتُ نفسي
على علَّاتها عِلَلَ البخيلِ

فخُذْها إنها مائتا بعيرٍ
سوى النابِ الرذيَّةِ والفَصِيلِ

فلا مَنٌّ عليك بها فإني
رأيتُ المنَّ يُزري بالجَزيلِ

فآبَ البُرْجميُّ، وما عليه
مِنَ اعْباءِ الحَمالةِ مِن فَتيلِ

يجُرُّ الذيلَ ينفُضُ مِذْرَوْيه
خفيف الظَّهرِ مِن حملٍ ثقيلِ


وهذا فضلًا عن النكهة الواقعية التي تفعم النص كله مما يعضد اقتناعي بأن تلك الحكاية بما فيها من حوار وشعر صحيحة غير مفتعلة، ومن ثم أقبلها وأنا مطمئن إلى حد كبير.

ومثلهما في ذلك النص التالي، وهو من حوار دار بين قبيصة بن نعيم وامرئ القيس الشاعر والملك المشهور في مقتل والد الأخير: "قدم على امرئ القيس بن حجر الكندي بعد مقتل أبيه رجال من قبائل بني أسد، وفيهم قبيصة بن نعيم، يسألونه العفو عن دم أبيه، فخرج عليهم في قَباءٍ وخف وعمامة سوداء، وكانت العرب لا تعتم إلا في الترات (أي عند الثأر)"، فلما نظروا إليه قاموا له وبدر إليه قبيصة فقال: إنك في المحل والقدر والمعرفة بتصرف الدهر وما تحدثه أيامه وتنتقل به أحواله بحيث لا تحتاج إلى تذكير من واعظ ولا تبصير من مجرب، ولك من سؤدد منصبك وشرف أعراقك وكرم أصلك في العرب محتِدٌ يحتمل ما حُمل عليه من إقالة العثرة ورجوع عن الهفوة، ولا تتجاوز الهمم إلى غاية إلا رجعت إليك فوجدت عندك من فضيلة الرأي وبصيرة الفهم وكرم الصفح ما يطول رغباتها ويستغرق طلباتها، وقد كان الذي كان من الخطب الجليل الذي عمَّت رزيتُه نزارًا واليمن، ولم تخصص بذلك كندة دوننا، للشرف البارع كان لحجر: التاج والعمة فوق الجبين الكريم، وإخاء الحمد وطيب الشيم، ولو كان يُفدى هالك بالأنفس الباقية بعده لما بخلت كرائمنا بها على مثله، ولكنه مضى به سبيل لا يرجع أخراه على أولاه، ولا يلحق أقصاه أدناه، فأحمد الحالات في ذلك أن تعرف الواجب عليك في إحدى خلال ثلاث: إما أن اخترت من بني أسد أشرفها بيتًا وأعلاها في بناء المكرمات صوتًا، فقدناه إليك بنِسْعة تذهب مع شفرات حسامك بباقي قصرته، فنقول: رجل امتحن بهالك عزيز فلم يستل سخيمته إلا تمكينه من الانتقام، أو فداء بما يروح على بني أسد من نعمها، فهي ألوف تجاوز الحسبة، فكان ذلك فداء رجعت به القضب إلى أجفانها لم يرددها تسليط الإحن على البُرَآء، وإما أن وادعتنا إلى أن تضع الحوامل فتسدل الأزر، وتعقد الخمر فوق الرايات، فبكى امرؤ القيس ساعة ثم رفع رأسه فقال: لقد علمت العرب أنه لا كفء لحجر في دم، وأني لن أعتاض به جملًا ولا ناقة فأكتسب به سُبة الأبد، وفت العضد، وأما النظرة فقد أوجبتها الأجنة في بطون أمهاتها، ولن أكون لعطبها سببًا، وستعرفون طلائع كندة من بعد ذلك تحمل في القلوب حنقًا، وفوق الأسنة علقًا:
إذا جالت الحربُ في مأزقٍ ♦♦♦ تصافحُ فيه المنايا النفوسَا

أتقيمون أم تنصرفون؟ قالوا: بل ننصرف بأسوأ الاختيار، وأبلى الاجترار، بمكروه وأذية، وحرب وبلية، ثم نهضوا عنه، وقبيصة يتمثل:
لعلَّك أن تستوخِمَ الوِرْدَ إن غدَتْ ♦♦♦ كتائبُنا في مأزقِ الحرب تُمطِرُ

فقال امرؤ القيس: لا والله، ولكن أستعذبه، فرويدًا ينفرج لك دجاها عن فرسان كندة وكتائب حمير، ولقد كان ذِكرُ غير هذا بي أولى إذ كنت نازلًا بربعي، ولكنك قلت فأوجبت، فقال قبيصة: ما يُتوقَّع فوق قدر المعاتبة والإعتاب، فقال امرؤ القيس: هو ذاك".

وكذلك هذه الخطبة التي قالها عبدالمطلب بن هاشم جد النبي عليه السلام في حضرة سيف بن ذي يزن حين ذهب إليه وفد العرب يهنئونه بانتصاره على الأحباش وإخراجه إياهم من بلاده: "لما ظفر سيف بن ذي يزن بالحبشة أتته وفود العرب وأشرافها وشعراؤها تهنئه وتمدحه، ومنهم وفد قريش، وفيهم عبدالمطلب بن هاشم، فاستأذنه في الكلام، فأذن له، فقال: إن الله تعالى أيها الملك أحلك محلًّا رفيعًا، صعبًا منيعًا، باذخًا شامخًا، وأنبتك منبتًا طابت أَرُومته، وعزت جرثومته، وثبت أصله، وبسق فرعه، في أكرم معدن، وأطيب موطن، فأنت، أبيت اللعن، رأس العرب وربيعها الذي به تخصب، وملكها الذي به تنقاد، وعمودها الذي عليه العماد، ومعقلها الذي إليه يلجأ العباد، سلفك خير سلف، وأنت لنا بعدهم خير خلف، ولن يهلك من أنت خلفه، ولن يخمل من أنت سلفه، نحن، أيها الملك، أهل حرم الله وذمته، وسدنة بيته، أشخصنا إليك الذي أبهجك بكشف الكرب الذي فدحنا، فنحن وفد التهنئة لا وفد المرزئة".

ومثلها في ذلك خطبة أبي طالب عم النبي عندما ذهب معه لخِطبة خديجة بنت خويلد له، وهذا نصها: "خطب أبو طالب حين زواج النبي بالسيدة خديجة فقال: الحمد لله الذي جعلنا من زرع إبراهيم وذرية إسماعيل، وجعل لنا بلدًا حرامًا وبيتًا محجوجًا، وجعلنا الحكام على الناس، ثم إن محمد بن عبدالله ابن أخي من لا يُوازن به فتى من قريش إلا رجح عليه برًّا وفضلًا وكرمًا وعقلًا ومجدًا ونبلًا، وإن كان في المالِ قُلٌّ فإنما المال ظل زائل، وعارية مسترجعة، وله في خديجة بنت خويلد رغبة ولها فيه مثل ذلك، وما أحببتم من الصداق فعليَّ".
يتبع


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.


التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 25-11-2022 الساعة 08:08 PM.
رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 35.58 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 34.92 كيلو بايت... تم توفير 0.66 كيلو بايت...بمعدل (1.85%)]