رد: دراسة للخطب في الجاهلية
دراسة للخطب في الجاهلية (2)
د. إبراهيم عوض
ومما لا يطمئن له قلب الباحث في خُطب الجاهليين ورود عبارات لا يمكن أن تكون من كلامهم ولا صدرت عنهم، كما في الشاهد التالي، وهو من خطبة عامر بن الظرب العدواني حين خطبت ابنته عمرة؛ إذ جاء فيها قوله لقومه: "فهل لكم في العلم العليم؟ قيل: ما هو؟ قد قلتَ فأصبتَ، وأخبرت فصدقتَ، فقال: أمورًا شتى وشيئًا شيًّا، حتى يرجع الميت حيًّا، ويعود لا شيء شيًّا"؛ إذ من المستبعد تمامًا أن يعرف الجاهليون مصطلح الـ"لا شيء" هذا، فهو لفظ منحوت لا أظنه أبدًا قد سُك ونزل إلى ساحة الكلام قبل العصر العباسي! بيد أن هذا لا يعني بالضرورة أن يكون النص كله مشكوكًا فيه، فإني لا أجد في نفسي شيئًا ذا بال من أن تكون هذه الخطبة، فيما عدا الكلمة المذكورة، قد قالها ذلك الرجل الجاهلي، إما كما هي أمامنا الآن أو بعد أن تكون الذاكرة أو الأقلام قد مستها بعض المس خلال رحلتها من عصر ما قبل الإسلام إلى عصر التدوين، وبخاصة أن قد رواها لنا أمثال الميداني والجاحظ وابن عبدربه حسبما ذكر أحمد زكي صفوت في ذيلها، فضلًا عن أن السجع فيها ليس متكلَّفًا ولا مطردًا، كما في بعض الخطب الأخرى.
كما أن في بعض تلك الخطب ترفًا ثقافيًّا وأدبيًّا لا يقدر عليه الجاهليون، ومن ثم كنا لا نطمئن إليها، لنأخذ مثلًا النص التالي: "كان قيس بن رفاعة يفِدُ سنة إلى النعمان اللخمي بالعراق، وسنة إلى الحارث بن أبي شمر الغساني بالشام، فقال له يومًا وهو عنده: يا بن رفاعة، بلغني أنك تفضل النعمان عليَّ، قال: وكيف أفضله عليك أبيت اللعن؟ فوالله لقفاك أحسن من وجهه، ولأمك أشرف من أبيه، ولأبوك أشرف من جميع قومه، ولشمالك أجود من يمينه، ولحرمانك أنفع من نداه، ولقليلك أكثر من كثيره، ولثمادك (أي قليل مائك) أغزر من غديره، ولكرسيك أرفع من سريره، ولجدولك أغمر من بحوره، وليومك أفضل من شهوره، ولشهرك أمد من حوله، ولحولك خير من حقبه (الحقب: القرن)، ولزندك أورى (أسرع إلى الاشتعال) من زنده، ولجندك أعز من جنده، وإنك لمن غسان أرباب الملوك، وإنه لمن لخم الكثير النوك (الكثير الحمقى)، فكيف أفضله عليك؟"، فمما لا يطمئن له القلب في قول قيس بن رفاعة للحارث بن أبي شمر العبارة التالية: "وليومك أفضل من شهوره، ولشهرك أمد من حوله، ولحولك خير من حُقبه"؛ إذ إن صياغة مثل تلك العبارة تحتاج إلى ما لا يحسنه الجاهليون من تنوُّق وترفُّه فكري وأسلوب يتمثل في التصاعد بالمعنى من اليوم إلى الشهر إلى الحول إلى الحقب في تسلسل جذاب تأخذ كل حلقة فيه بيد جارتها في شكل فني لا نظير له لدى الجاهليين، أما سائر الخطبة فلا أجد فيه شيئًا يبعث على الريبة.
وإذا كان هناك من الخطب والأحاديث ما يرهقه السجع والجناس والموازنة وغير ذلك من زخارف البديع مما لا نعرفه في كلام الجاهليين ولا الإسلاميين، فإن هناك على العكس من ذلك خطبًا وأحاديث تخلو تمامًا من مثل ذلك التكلف، أو تكتفي من تزاويق البديع بالقليل الذي يسبغ على الكلام شيئًا من الرونق دون إسراف، كما في المثال التالي من الحوار الذي دار بين قيس بن خُفاف البرجمي وحاتم الطائي: "أتى أبو جبيل قيس بن خفاف البرجمي حاتم طيِّئ في دماء حملها عن قومه فأسلموه فيها وعجز عنها، فقال: والله لآتين من يحملها عني، وكان شريفًا شاعرًا، فلما قدم عليه قال: إنه وقعت بين قومي دماء فتواكلوها، وإني حملتها في مالي وأملي، فقدمت مالي، وكنت أملي، فإن تحملها فرب حق قد قضيته، وهم قد كفيته، وإن حال دون ذلك حائل لم أذمم يومك، ولم أيْئَس من غدك، ثم أنشأ يقول:
حملتُ دماءً للبراجمِ جمَّةً 
فجئتُك لمَّا أسلمتني البراجمُ 
وقالوا سفاهًا: لِمْ حملتَ دماءنا؟ 
فقلت لهم: يكفي الحَمالةَ حاتمُ 
متى آتِه فيها يقل ليَ: مرحبًا 
وأهلًا وسهلًا، أخطأَتْك الأشائمُ 
فيحملها عني، وإن شئتُ زادني 
زيادة مَن حنَّتْ إليه المكارمُ 
يعيش الندى ما عاش حاتمُ طيِّئٍ 
فإن مات قامت للسخاء مآتمُ 
ينادين: مات الجودُ مَعْك فلا نرى 
مجيبًا له ما حامَ في الجوِّ حائمُ 
وقال رجالٌ: أنهب العام ماله 
فقلتُ لهم: إني بذلك عالمُ 
ولكنه يُعطي مِنَ امْوال طيِّئٍ 
إذا جلف المالَ الحقوقُ اللوازمُ 
فيُعطي التي فيها الغِنى وكأنَّه 
لتَصْغيره تلك العطيَّةَ جارمُ 
بذلك أوصاه عديٌّ وحَشْرجٌ 
وسعدٌ وعبدالله، تلك القماقمُ 
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 25-11-2022 الساعة 08:06 PM.
|