رد: دراسة للخطب في الجاهلية
دراسة للخطب في الجاهلية (1)
د. إبراهيم عوض

فرفع إليه رأسه وقال: عبدالمسيح، على جمل مُشيح (أي سريع)، إلى سطيح، وقد أوفى على الضريح، بعثك ملك بني ساسان، لارتجاج الإيوان، وخمود النيران، ورؤيا الموبذان، رأى إبلًا صعابًا، تقود خيلًا عرابًا، قد اقتحمت في الواد، وانتشرت في البلاد، يا عبدالمسيح، إذا كثرت التلاوة، وظهر صاحب الهراوة، وفاض وادي السماوة، وغاضت بحيرة ساوة، وخمدت نار فارس، فليست بابل للفرس مقامًا، ولا الشام لسطيح شامًا، يملك منهم ملوك وملكات، عدد سقوط الشرفات، وكل ما هو آتٍ آت، ثم قال:
إن كان ملكُ بني ساسان أفرَطهم 
فإن ذا الدهرَ أطوارًا دهاريرُ 
منهم بنو الصرح بهرامٌ وإخوتُه 
والهرمزان وسابورٌ وسابور 
فربما أصبحوا يومًا بمنزلةٍ 
تهاب صولَهم الأُسْدُ المهاصير 
حَثُّوا المطيَّ وجدُّوا في رحالهمو 
فما يقوم لهم سَرْج ولا كُور 
والناس أولادُ علَّات، فمن علِموا 
أن قد أقلَّ فمحقورٌ ومهجور 
والخير والشرُّ مقرونانِ في قرَن 
فالخير متَّبَعٌ، والشر محذور 
ثم أتى كسرى فأخبره بما قاله سطيح، فغمه ذلك، ثم تعزى فقال: إلى أن يملك منا أربعة عشر ملكًا يدور الزمان، فهلكوا كلهم في أربعين سنة، وكان آخر من هلك منهم في أول خلافة عثمان رضي الله عنه".
6- عُفيراء الكاهنة تعبر رؤيا مرثد بن عبدكلال: "روي أن مرثد بن عبدكلال قفل من غزاةٍ غزاها بغنائم عظيمة، فوفد عليه زعماء العرب وشعراؤها وخطباؤها يهنئونه، فرفع الحجاب عن الوافدين وأوسَعَهم عطاءً واشتد سروره بهم، فبينما هو كذلك إذ نام يومًا فرأى رؤيا في المنام أخافته وأذعرته وهالته في حال منامه، فلما انتبه أنسيها حتى لم يذكر منها شيئًا وثبت ارتياعه في نفسه بها، فانقلب سروره حزنًا، واحتجب عن الوفود حتى أساؤوا به الظن، ثم إنه حشر الكهان فجعل يخلو بكاهن كاهن، ثم يقول له: أخبرني عما أريد أن أسألك عنه، فيجيبه الكاهن بأنْ لا علم عندي، حتى لم يدع كاهنًا علمه إلا كان إليه منه ذلك، فتضاعف قلقه، وطال أرقه، وكانت أمه قد تكهنت، فقالت له: أبيت اللعن أيها الملك! إن الكواهن أهدى إلى ما تسأل عنه؛ لأن أتباع الكواهن من الجان، ألطفُ وأظرف من أتباع الكهان، فأمر بحشر الكواهن إليه وسألهن كما سأل الكهان، فلم يجد عند واحدة منهن علمًا مما أراد علمه، ولما يئس من طلبته سلا عنها، ثم إنه بعد ذلك ذهب يتصيد فأوغل في طلب الصيد وانفرد عن أصحابه فرفعت له أبيات من ذرا جبل (أي في ظل جبل)، وكان قد لفحه الهجير فعدل إلى الأبيات وقصد بيتًا منها كان منفردًا عنها، فبرزت إليه منه عجوز فقالت له: انزل بالرحب والسعة، والأمن والدعة، والجفنة المدعدعة (الممتلئة عن آخرها)، والعُلبة المترعة، فنزل عن جواده ودخل البيت، فلما احتجب عن الشمس وخفقت عليه الأرواح (أي النسائم) نام فلم يستيقظ حتى تصرَّم الهجير، فجلس يمسح عينيه، فإذا هو بين يديه فتاة لم يرَ مثلها قوامًا ولا جمالًا، فقالت: أبيت اللعن أيها الملك الهمام، هل لك في الطعام؟ فاشتد إشفاقه وخاف على نفسه لما رأى أنها عرَفته، وتصامَّ عن كلمتها، فقالت له: لا حذر، فداك البشر، فجدُّك (حظك) الأكبر، وحظنا بك الأوفر، ثم قربت إليه ثريدًا وقديدًا وحيسًا، وقامت تذب عنه حتى انتهى أكله، ثم سقته لبنًا صريفًا وضريبًا، فشرب ما شاء، وجعل يتأملها مقبلة ومدبرة، فملأت عينيه حُسنًا، وقلبه هوًى، فقال لها: ما اسمك يا جارية؟ قالت: اسمي عُفيراء، فقال لها: يا عفيراء، من الذي دعوته بالملك الهمام؟ قالت: مرثد العظيم الشان، حاشر الكواهن والكهان، لمعضلة بعد عنها الجان، فقال: يا عفيراء، أتعلمين تلك المعضلة؟ قالت: أجل أيها الملك، إنها رؤيا منام، ليست بأضغاث أحلام، قال الملك: أصبت يا عفيراء، فما تلك الرؤيا؟ قالت: رأيت أعاصير زوابع، بعضها لبعض تابع، فيها لهب لامع، ولها دخان ساطع، يقفوها نهر متدافع، وسمعت فيما أنت سامع، دعاء ذي جرس صادع: هلموا إلى المشارع، فرَوِيَ جارع، وغرق كارع، فقال الملك: أجل، هذه رؤياي، فما تأويلها يا عفيراء؟ قالت: الأعاصير الزوابع ملوك تبابع، والنهر علمٌ واسع، والداعي نبيٌّ شافع، والجارع ولي تابع، والكارع عدو منازع، فقال الملك: يا عفيراء، أسلمٌ هذا النبي أم حرب؟ فقالت: أقسم برافع السماء، ومنزل الماء، من العماء، إنه لمُطل الدماء، ومُنَطِّق العقائل نُطُق الإماء، فقال الملك: إلامَ يدعو يا عفيراء؟ قالت: إلى صلاة وصيام، وصلة أرحام، وكسر أصنام، وتعطيل أزلام، واجتناب آثام، فقال الملك: يا عفيراء، إذا ذبح قومه فمن أعضاده؟ قالت: أعضاده غطاريف يمانون، طائرهم به ميمون، يغزيهم فيغزون، ويدمث بهم الحزون، وإلى نصره يعتزون، فأطرق الملك يؤامر نفسه في خِطْبتها، فقالت: أبيت اللعن أيها الملك! إن تابعي غيور، ولأمري صبور، وناكحي مثبور، والكلف بي ثبور، فنهض الملك وجال في صهوة جواده، وانطلق فبعث إليها بمائة ناقة كوماء".
ونبدأ بحديث خُنافر، وفي هذا الحديث نلاحظ ما يلي: أن رئي خنافر قد تركه في عَمايته فلم يعلمه بأن نبيًّا جديدًا ظهر بدعوته في بلاد العرب، إلى أن أصبح الناس في تلك البلاد كلهم يعلمون ذلك، اللهم إلا خنافرًا، فعندئذ، وعندئذ فقط، تذكر شصار صاحبه الكاهن المسكين النائم على أذنه لا يدري خبر الإسلام رغم أن نوره كان قد دخل اليمن وأضحى لدولته فيها رسول من لدن النبي الكريم هو معاذ بن جبل رضي الله عنه، ترى ما دور شصار إذًا إذا لم يكن ما أنبأ به خنافرًا إلا خبرًا يعرفه القاصي والداني؟ إن معنى هذا أن شيطان خنافر قد هجره هجرًا غير جميل طوال ما يقرب من عشرين سنة؛ أي: منذ بدء النبوة إلى وقت دخول الإسلام اليمن في أواخر حياته صلى الله عليه وسلم، فكيف كان خنافر يمارس كهانته إذًا دون رئي من الجن؟ أم تراه توقف عن ممارستها كل تلك الفترة؟ لكن هل يمكن أن يكون ذلك؟ وهل يمكن أن يستعيض كاهن عن كهانته بالسرقة والإغارة على إبل الآخرين، وبخاصة أن خنافرًا لم يكن، كما هو بيِّن من القصة، ذا عزوة تمنعه من طلب القبائل المعتدى عليها وعملها على الثأر منه؟ كذلك ليس هناك سبب مفهوم لهجر شصار لصاحبه كل تلك المدة، وهذه ثغرة في القصة تحتاج إلى ما يملؤها، كما أن تهديده له بأنه إذا لم يعتنق الإسلام مثله فلن يراه مرة أخرى هو تهديد لا معنى له؛ لأن معنى هذا التهديد أن شصار لن يساعد خنافرًا في كهانته، مع أننا نعرف جيدًا أن الإسلام يكفِّر الكهان ويحاربهم دون هوادة، وهو ما يعني بكل وضوح أن اللقاء بينهما من الآن فصاعدًا سيكون لقاءً مجرَّمًا ومحرَّمًا أشد التجريم والتحريم، وهذا إن قبل الجني أن يقوم بدوره القديم المناقض لعقيدته الجديدة التي يدعو إليها خنافرًا! فكما ترى هذه ثغرة أخرى في القصة يصعب بل يستحيل سدها، ثم أليست القصة تريد أن تقول: إن شصار قد أتاه بخبر الغيب، فأي غيب هذا الذي كان يعرفه الجميع في أرجاء الجزيرة الأربعة؟ بل لماذا لم يعرف شصار بدوره بنبأ الإسلام إلا من إخوان له من الجن كانوا قد آمنوا قبله؟ ولماذا يا ترى كانوا يزجرونه عن سماع القرآن الذي كانوا يتلونه؟ ألم يأتِ القرآن لهداية الجن والإنس؟ فهل ما يتناسب مع هذه الغاية أن يزجر عنه من يريد سماعه؟ فكيف يعرف إذًا ما جاء فيه من هدى ونور؟ إن سورة "الجن" والآيات 29 - 32 من سورة "الأحقاف" تحدثاننا عن سماع نفر من الجن للقرآن من الرسول عليه السلام دون أن يزجرهم زاجر، فلماذا جرى الأمر في قصتنا هذه على خلاف ذلك؟ ولماذا كان هؤلاء النفر من الجن من أهل الشام لا من أهل اليمن؟ أترى القصة تريد أن تقول: إن "الشيخ البعيد سره باتع"؟ أم تريد أن تجري على سُنة المثل القائل: "من أين أذنك يا جحا؟" كذلك ألم ينصح شصار لخنافر بأن يأتي النبي في المدينة؟ فلماذا اكتفى خنافرنا بلقاء معاذ بن جبل بعد كل هذا الكلام المشوق لرؤية النبي الكريم؟ يا له من كاهن كسول! بل لماذا أراد صنعاء من الأصل، ولم يأتِ لها ذكر في الحوار بينه وبين رئيه؟!
ثم إذا كان الأمر على ما ترويه القصة، فهل كان خبر خنافر ليغيب عن كُتُب الحديث؟ كذلك لو كان ما قرأناه هنا صحيحًا لقد كان خبر ذلك الكاهن اليمني سلاحًا بتارًا في الدعاية لهذا الدين، فلماذا لم يستغله المسلمون؟ صحيح أنه إنما أسلم، كما رأينا، بأخرة، لكن لا شك أن خبره كان يمكن أن يكون ذا نفع جزيل في معركة الدعاية، بحيث يسهل إنجاز المهمة الباقية، وهي القضاء على فلول الوثنية في بلاد العرب، تلك الوثنية التي لم تكن قد خمدت تمامًا حتى بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام، وانفجرت متخذة شكل ردة مستطيرة، ثم مصطلح "السجع المتكلف"، هذا المصطلح البلاغي الذي لم يعرفه العرب قبل عصر الازدهار الثقافي في العصر العباسي، من أين يا ترى للعرب الجاهليين بمعرفته؟ بل إن في الخطبة سجعًا متكلفًا لا قِبل للجاهليين به، كما هو واضح في المثال التالي: "خطاب كبار، جاء من عند الملك الجبار، فاسمع يا شصار، عن أصدق الأخبار، واسلك أوضح الآثار، تنجُ من أُوار النار"، علاوة على هذه البهلوانية البلاغية الفنية الجميلة المتمثلة في هاتين الجملتين اللتين تبادلهما الكاهن والجني: "قال: اسمع أقل، قلت: قل أسمع"، والتي يصعب عليَّ أن أتصورها من شيم الأدب الجاهلي، ليس ذلك فحسب، فهذا الكلام المنسوب للجن، هل يمكن أن نصدقه؟ إن الجن عالم خفي لا نعرف نحن البشر عنه شيئًا سوى ما جاء في الوحي، كما هو الحال فيما أنبأ به رب العزة من كلامهم عندما استمعت طائفة منهم إلى القرآن الكريم لأول مرة، أما ما عدا هذا فأنا لا أستطيع أن أهضم شيئًا منه، كما هو الحال هنا، وبخاصة أنه كلام عربي، فهل الجن يتحدثون العربية، ويصطنعون السجع والجناس وسائر المحسِّنات البديعية أيضًا؟ وبطبيعة الحال لا يمكن القول بأنهم في سورتي "الأحقاف" و"الجن" قد استخدموا كذلك لسان بني يعرب؛ إذ الواقع أن ما نقرؤه هناك من كلامهم إنما هو ترجمة لما قالوه بلغتهم التي لا ندري نحن البشر عنها شيئًا.
على أن القضية لما تنتهِ عند هذا الحد؛ إذ نقرأ قوله: "كان رئيي في الجاهلية لا يكاد يتغيب عني، فلما شاع الإسلام فقدته مدة طويلة، وساءني ذلك، فبينا أنا ليلة بذلك الوادي نائمًا إذ هوى هويَّ العُقاب، فقال: خنافر؟ فقلت: شصار؟ فقال: اسمع أقل، قلت: قل أسمع، فقال: عِهْ تغنم، لكل مدة نهاية، وكل ذي أمد إلى غاية، قلت: أجل، فقال: كل دولة إلى أجل، ثم يتاح لها حول، انتُسخت النِّحَل، ورجعت إلى حقائقها الملل، إنك سجير (أي صديق) موصول، والنصح لك مبذول، وإني آنست بأرض الشأم نفرًا من آل العُذام (يقصد أنه قابل قبيلة من الجن)، حُكامًا على الحكام، يذبرون ذا رونق من الكلام، ليس بالشعر المؤلف، ولا السجع المتكلف، فأصغيت فزُجرت، فعاودت فظُلفت (أي منعت)، فقلت: بمَ تُهَيْنِمون؟ وإلام تعتزون؟ قالوا: خطاب كبار، جاء من عند الملك الجبار، فاسمع يا شصار، عن أصدق الأخبار، واسلك أوضح الآثار، تنجُ من أوار النار، فقلت: وما هذا الكلام؟ فقالوا: فرقان بين الكفر والإيمان، رسول من مُضر، من أهل المدر، ابتُعث فظهر، فجاء بقول قد بهر، وأوضح نهجًا قد دثر، فيه مواعظ لمن اعتبر، ومَعاذ لمن ازدجر، ألف بالآي الكبر، قلت: ومن هذا المبعوث من مُضر؟ قال: أحمد خير البشر، فإن آمنت أعطيت الشبر (أي الخير)، وإن خالفت أصليت سقر، فآمنت يا خنافر، وأقبلت إليك أبادر، فجانب كل كافر، وشايع كل مؤمن طاهر، وإلا فهو الفراق، لا عن تلاق، قلت: من أين أبغي هذا الدين؟ قال: من ذات الإحرين (أي الحجارة السود)، والنفر اليمانين، أهل الماء والطين"، ومعنى هذا الكلام أن خنافرًا، كما هو واضح من مفتتح حديثه، كان يعرف بمجيء الإسلام منذ البداية، لكننا نفاجأ، من خلال أسئلته عن الدين الجديد والرسول الذي جاء به والكتاب الذي نزل عليه، بأنه لم يكن يعرف شيئًا من ذلك بالمرة، فكيف يسوغ في العقل هذا؟
ولقد تصادف بعد كتابة هذه الملاحظات بأيام، أن كنت أقرأ ما كتبه الدكتور جواد علي عن سجع الكهان في كتابه: "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام"، فوجدته يقول عن هذه القصة: إنها "خبر يرجع سنده إلى ابن الكلبي، وقد ذكر في "الأخبار المنثورة" لابن دريد أنه (أي خنافرًا) أسلم على يد معاذ بن جبل باليمن، لا أدري كيف حفظه ابن الكلبي ورواه عن والده، الذي صنعه ووضعه، إلا أن يكون والده قد حضر المحاورة فكان يسجلها، وهو ما يُعد من المستحيلات"؛ أي إن في العلماء العرب من لا يطمئنون مثلي إلى هذه القصة، وإن كان من السهل الجواب على هذا السؤال في حد ذاته بالقول بأن والد ابن الكلبي، وإن لم يحضر واقعة إسلام خنافر والحوار الذي دار بينه وبين شصار قبلها، قد سمعها مع هذا ممن سمعها بدوره من فم ذلك الكاهن، وعلى هذا فالأفضل هنا اللصوق بالأدلة التي اعتمدت أنا عليها بدلًا من الالتجاء إلى التشكيك في ذمة الرواة.
أما فيما يخص حديث شافع الصدفي فغريب أن يقول ذلك الكاهن: إن مُلك بني غسان أعظم من ملك التبابعة، على الرغم من أن الغساسنة لم يكونوا سوى مملكة صغيرة على حدود الروم لا قيمة لها حقيقية، على حين أن التبابعة كانوا يحكمون دولة كبيرة كاليمن ذات اتساع وتاريخ وحضارة معروفة لم يكن لدويلة غسان منها شيء! ثم غريب أيضًا أن تترك القصة التوراة والإنجيل وتذهب إلى الزبور لتقول: إنه قد وردت فيه البشارة بنبينا الكريم، مع أنه لم يأتِ في القرآن ولا في الحديث أن بشارة مثل هذه موجودة في الزبور! وبالنسبة لسطيح ونبوءته لربيعة اللخمي هل يجوز في العقول أن يجرؤ كاهن كسطيح على أن يجبه الملك ويُدخل الغم عليه بقول الحقيقة له كاملة ودون توشية، مع أنه كان في مندوحة عن هذا؛ إذ لم تكن النبوءة المزعجة لتقع قبل بضعة وسبعين عامًا يكون هو نفسه خلالها أو الملك قد مات، وكان الله يحب المحسنين؟ وهذا إن جاز لنا أن نصدق أن سطيحًا يمكن أن يعرف شيئًا من أمور الغيب المحجوب عن البشر والجن والملائكة جميعًا؟ ثم أليس غريبًا ألا يجد كسرى من بين كهانه في مملكته الطويلة العريضة من يستطيع أن يعبر له رؤياه حتى يرسل فيها لكاهن من كهان العرب؟ كذلك من غير المعقول أن يجرؤ كاهن على أن يجبه رسول كسرى بهذا التفسير المزعج للرؤيا، ثم يجبه هذا به عاهله دون محاولة من جانبه لتلطيف وقع الأمر، ودعنا الآن من التحوير في تعبير الرؤيا، كما قلنا من قبل عن رؤيا عاهل اليمن، تلك الرؤيا التي قام سطيح هو أيضًا بتفسيرها! ومن الغريب في الأمر أن أيًّا من كبار رجال فارس، حين بدأ الفتح الإسلامي لبلادهم، لم يتذكر رؤيا عاهلهم هذه، مع أنها ليست من الأشياء التي يمكن أن تنسى بسهولة؛ نظرًا لخطورة موضوعها والظروف التي رُئيت وفسرت فيها كما لاحظنا، وإلا فكيف وصلتنا هذه الرؤيا وتفسيرها إذا كانت قد امَّحَت من الذاكرة الفارسية؟ ثم لا ينبغي أن يفوت انتباهنا ما جاء في تعبير شق أنمار للرؤيا من عبارات وعقائد قرآنية كقوله: ﴿ يَوْمُ الْفَصْلِ ﴾ (الذي ورد في سورة "المرسلات"، وقوله أيضًا: "ورب السماء والأرض... إن ما أنبأتك به لحق؟"؛ (المأخوذ من سورة "الذاريات"، وقوله: "يوم الميقات"، (وهو مقلوب العبارة القرآنية: "ميقات يوم معلوم الموجودة في سورة "الواقعة)، بالإضافة إلى دعاء الأموات للقيام من رقدهم للحشر والحساب!
كذلك هل يُعقل أن ترفض عفيراء خِطبة الملك لها؟ إن ما قالته في تعليل هذا الرفض لا يدخل العقل طبعًا بحال! ثم متى ذبح النبي قومه؟ وهل الأنصار وحدهم هم الذين نصروه؟ فأين ذهب الصِّدِّيق إذًا والفاروق وذو النورين وأبو الحسنين والحمزة وجعفر وزيد بن حارثة وأسامة بن زيد وبلال الحبشي وصهيب الرومي وسلمان الفارسي وعبدالله بن سلام وخالد وعمرو وأبو سفيان والمغيرة وأبو دجانة والنابغة الجعدي وأبو موسى الأشعري وأبو هريرة وخنافر وعمرو بن معد يكرب وآلاف بعد آلاف مثلهم من غير الأنصار، من قريش ومن خارج قريش، من العرب ومن وراء العرب رضي الله عنهم جميعًا؟ أما ارتجاج الديوان الكِسْروي وانطفاء النيران في معابد زرادشت وجفاف بحيرة ساوة وما إلى ذلك فنعدي عنها؛ لأنها لا حقيقة لها في واقع التاريخ؛ ولذلك لم تتعرض لها كتب المسلمين الأوائل بشيء، وهو ما يذكرنا بأسطورة انشقاق الهيكل عند وقوع الصَّلب طبقًا لرواية مؤلِّفي (أو بالأحرى: ملفِّقي) الأناجيل! ثم لا ينبغي أن نتجاهل الوتيرة الواحدة التي تجري عليها كل هذه الأحاديث؛ إذ يقوم كل منها على السؤال من جانب تُبَّع، والجواب من جانب الكاهن أو الكاهنة بلا أي تغيير، حذوك النعل بالنعل!
(... يتبع)
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 25-11-2022 الساعة 05:27 AM.
|