الخطابة في العصر الجاهلي
د. إبراهيم عوض
ولا شك أن هذه الأمثال تدل على دقة ملاحظة العرب الجاهليين في عالم الحيوان والطير مما لا نعرف نحن الآن عشر معشاره رغم التقدم العلمي والثقافي الذي تحقق للبشرية منذ ذلك الحين، وإن كان هناك بعض الأخطاء في تلك الملاحظات، وهو أمر طبيعي؛ إذ إن العرب ليسوا بدعًا بين البشر؛ فهم يجمعون في معلوماتهم بين الخطأ والصواب، ولكن يكفيهم شرفًا وفضلًا أنهم كانوا بهذه الدقة وذلك التبصر فيما لاحظوه على ما حولهم من حيوان وطير كثير العدد، كما رأينا في الأمثال التي سلفت، وفيما عرفوه من الفروق بين الذكر عن الأنثى في الطباع والخصائص؛ كالجمل والناقة، طبقًا لما جاء في المثل القائل: "استنوق الجمل"، "أو "حمار استأتن"؛ (أي ظهرت على كل منهما علامات الأنوثة، فاقترب الأول أن يكون ناقة، والثاني أن يكون أتانًا)، وتخصيص اسم لكل عُمُر من أعمار الحيوان: فالحُوار هو ولد الناقة، والفصيل هو الشاب من الإبل، على عكس الناب، التي هي الناقة المسنة، ثم الشارف، التي تأتي بعد ذلك، وهناك الدرص والحسل والسمع والفرعل والهجرس والجحش والظبي والمسهر والخرنق والجرو والحلم، وهي صغار الفأر والضب والذئب والضبع والقرد والحمار والغزال والحصان والأرنب والكلب والقراد على التوالي، كذلك هناك الجمل والناقة، والأنوق والرخمة، والأسد واللبؤة، والحصان والفرس، والحمار والأتان، والهِقل والنعامة، والذئب والجهيزة، وهما الذكر والأنثى من كل حيوان من هؤلاء... وهلم جرًّا.وقد رأينا كيف استطاعوا التمييز بين طباع كل حيوان وغيره حتى في مسائل التبول، ورائحة الفم، والعطش أو الري، والاهتداء إلى المسكن أو الضلال عنه، والعزة أو الذلة مثلًا، وإن اشتركت بعض الحيوانات في هذه السمة أو تلك من تصرفاتها... مما مر بيانه من الأمثال التي أوردناها آنفًا، ويمكن أن يلحق بذلك ما تحدثت عنه الأمثال من شجر ونبات: "ترى الفتيان كالنخل، ولا ينبيك ما الدَّخْل"؛ (أي إن المهم هو مخبر الإنسان لا مظهره)، "أشبه شَرْجٌ شَرْجًا لو أن أسيمرًا"، (والأسيمر: تصغير "أسمر"، وهي جمع "سمرة"، نوع من الشجر ينبت في بلاد العرب)، "إنك لا تجني من الشوك العنب"، "عصبتُه عَصْبَ السَّلَمة"، (والسلم: نوع آخر من شجر العرب، وهو شجر شائك يستعمل ورقه وقشره في الدباغ، ويسمى ورقه: "القرظ")، "أرخِ يديك واسترخِ، إن الزناد من مَرْخ"، "في كل شجرة نار، واستمجد المَرْخ والعَفَار"، (والمَرْخ والعَفَار: شجرتان تقدح أغصانهما لاستخراج النار منها)، "أشعث من قتادة"، (وهو شجر كثير الشوك)، "مرعى ولا كالسعدان"، (شوك تأكله الإبل فيغزر لبنها)، "أخبث من ذئب الغضى"، (والغضى: شجر جيد للوقود).ومِن معارف الجاهليين الطبيعية التي تعكسها أمثالهم ما له علاقة بالبيئة الجغرافية والفلكية؛ فمن ذلك قولهم: "أبعد من العيُّوق"، "أتلى من الشِّعرى"؛ (لأنها تتلو الجوزاء)، "أريها السها، وتريني القمر"، "أرق من رقراق السراب"، "أطول صحبة من الفرقدين"؛ (لأنهما نجمان لا يفترقان)، و"بنات نعش"، (كواكب معروفة)، "برق خُلَّب"، (وهو البرق الكاذب الذي لا يعقبه مطر)، "أرِنيها نمرة، أُرِكَها مطَرة"، (ومعناه أن السحابة إذا كان فيها سواد وبياض فمعنى هذا أنها ستمطر، وهذا يدل على خبرة بأنواع السحاب ومقدرة على التفرقة بين الممطر منها وغير الممطر، وينبغي ألا يغيب عن بالنا أن بلادهم كانت تعتمد على المطر في المقام الأول؛ إذ ليس فيها أنهار، كما هو الحال في مصر، ومن ثم كانت معرفتهم الدقيقة بكل ما يتعلق بالمطر والسحاب، وبخاصة أن السماء كانت مفتوحة أمام أعينهم لا يسترها عنهم ساتر، فقد كانوا يعيشون في خيام منصوبة في العراء لا في بيوت تعوق أعينهم عن النظر الحر المرتاح إلى الفضاء والأفق والسماء).لقد كان الماء قضية حياة أو موت، ومن هنا مثلًا نراهم يقولون: "أن تَرِدَ الماءَ بماءٍ أكيس"؛ لمعرفتهم أنهم متى انقطعوا عن الماء في باديتهم المتناوحة التي كثيرًا ما يعز فيها عنصر الحياة الأول فقد يهلكون، وبالمثل نقرأ في المثل التالي أن "آخرها (أي آخر الإبل الواردة على الماء للسقي) أقلها شربًا"؛ إذ ترد وقد قارب الماء على النفاد، أو على الأقل ترد ولم يعد الماء صافيًا كما كان للإبل التي شربت مبكرة، فضلًا عن أن تأخير السقي هو دليل على العجز والمذلة، وإذا كانت هناك عين ماء طيبة فسرعان ما تشتهر بينهم: "ماء ولا كصداء"، "إن أضاخًا منهل مورود"، "أعذب من ماء البارق، أو من ماء الحشرج"، وثمة مثل آخر يشير إلى عملية الاستقاء من البئر بالحبال والدلاء: "بئس مقام الشيخ: أَمْرِسْ! أَمْرِسْ!"؛ أي إنه لا يليق بك أن تزاول عملًا لا يناسب مكانتك، مثل وقوفك على شفا بئر وسقياك بالحبل، الذي قد ينقطع في يدك فيصيح الناس بك أن "أمرس! أمرس!"؛ أي: أعد الحبل إلى مكانه من البكرة، ومن أمثال الاستقاء أيضًا قولهم: "ألقِ دلوك في الدِّلاء".كذلك استطاع العرب القدماء أن يفرقوا بين الحيوانات والطيور المختلفة حسب مدى حاجتها إلى الماء، وسرعة أو بطء هذه الحاجة، مثلما مضى بيانه في الأمثال التي قرأناها معًا، وهو ما يبين لنا كيف كان الماء يحتل من أذهانهم واهتمامهم مكانًا مكينًا.ومن الجوانب التي تتعلق أيضًا بالبيئة العربية القديمة ما كان الجاهليون يمارسونه من أعمال أو حِرَف تقوم على ما هو متوفر في هذه البيئة من ثروات أو إمكانات طبيعية: خذ عندك مثلًا الدبغ، الذي جاء في أمثالهم عنه قولُهم: "إنما يُعاتَب الأديم ذو البشرة"، بمعنى أن العتاب لا يصلح إلا مع من لا يزال فيه خير، كالجلد الذي يراد دبغه، فإن كانت له بَشَرَة، وهي ظاهر الجلد (على عكس الأدمة، التي هي باطنه)، صلَح دبغه، وإلا لم يحتمل الدباغ وتمزق، كذلك لا بد، في عملية الدباغ، أن يُكشط اللحم تمامًا من أديم الجلد ولا يترك عليه أي بقايا منه، وإلا فسد الجلد سريعًا: "أحمق من الدابغ على التحليءِ"، والتحليء: ترك بقايا اللحم على الجلد، وفي هذه الحالة لا يصل إليه الدباغ، وهناك مثل آخر يرد فيه ذكر "القارظ" على النحو التالي: "إذا ما القارظ العنزي آبا"، وهو جامع القرظ؛ أي: ورق شجر السلم المستعمل في عملية الدباغ، وهذا المثل يضرب للوعد الذي لا يمكن أن يتحقق؛ لأنه معلق على شرط مستحيل، فالقارظ العنزي لم يعد من جولته في جمع القرظ حتى الآن، بل لن يعود أبد الدهر؛ لأنه مات في الطريق، وهاك أيضًا المثل التالي: "أرتعن أجَلَى أنى شئت"؛ أي إن الموضع المسمى: "أجلى" هو من المواضع الصالحة للرعي في أي وقت وفي أي موضع منه، ومنها كذلك: "مرعى ولا كالسعدان"، وكان للرعي أصوله التي لا بد للراعي من مراعاتها، وإلا فسد عمله: "أساء رعيًا فسقى مقصِبًا"؛ أي إنه لم يشبع إبله من الكلأ كما ينبغي واضطر أن يملأ بطونها ماءً على قلة ما فيها من طعام فأضر بها ذلك ضررًا شديدًا، والإقصاب: أن تمتنع إبل الراعي عن الشرب، كذلك كانوا يحلبون ماشيتهم بأنفسهم: "حلبتها بالساعد الأشد"، "احلب حلبًا لك شطره"؛ (و"الحلب" هو ما يُحلب من اللبن)، "حلب الدهر أشطره".ومن المهن التي كان الجاهليون يمارسونها كذلك تأبير النخل: "جِباب، فلا تُعنِّ آبرًا"، والآبِر هو ملقح النخل، والمقصود أن النخلة لا طلع فيها، بل الموجود جِباب فحسب، أي جمَّار، ومن ثم فلا فائدة في التأبير أصلًا، ومن هذه المهن أيضًا الحُدَاء: "كالحادي، وليس له بعير"، والحادي هو سائق الإبل الذي يحدوها؛ أي: يغني لها حتى تنشط للسير ولا يعتريها الضعف والكلال، أما المثل الذي وجدته عن "الحذَّاء" فيجري عكس هذا؛ إذ يقول: "من يكُنِ الحذَّاءُ أباه يجد نعلًا".والحدادة مهنة أخرى من المهن التي عرفها العرب: "إذا سمعتَ بسُرى القَين فإنه مُصبِح"؛ أي: لا تصدق كل ما تسمع، فكثيرًا ما يقول الناس كلامًا ويقصدون عكسه، كفعل القين (وهو الحداد) عندما يزعم أنه مسافر من ليلته كي يدفع الناس إلى الإقبال عليه قبل أن يغادرهم، على حين أنه ينوي البقاء حيث هو، وهناك مثل مشهور يذكر "الحابل" و"النابل"؛ أي: الصائد بالشبكة والصائد بالنبل: "اختلط الحابل بالنابل"، ومثل آخر لا يقل شهرة يتحدث عن "القوس" وصانعه: "أعطِ القوس باريها"، وهو كما نقول في مثلنا العامي: "أعطِ العيش لخبازه"، ومثل ثالث يذكر "السهام": "قبل الرمي يُراش السهم"، ورابع يتحدث عن "الكنانة": "قبل الرمي تملأ الكنائن".كذلك كانوا يعرفون الطب، وكان طبًّا بدائيًّا بطبيعة الحال: "يا طبيب، طِبَّ لنفسك"، وكذلك البيطرة: "أشهر من راية البيطار"، "أهون من ذَنَبِ الحمار على البيطار"، وكان من طبهم الكي: "آخر الدواء الكي"، "قد يضرط العَير، والمكواة في النار"، كما كانوا يعالجون جرب الماشية بما يسمونه "العَنِيَّة": "عنِيَّته تشفي الجرب"، وهي قطران وأخلاط تجمع ويهنأ بها البعير الأجرب، ولعملية الهِناء أصول، منها: ألا يقتصر الهانئ على دهن موضع الجرب فقط، بل يعم سائر بدن البعير: "ليس الهِناء بالدَّس"، (والدَّس: الاقتصار في الهناء على المكان المصاب بالجرب)، وقد ورد في مثل من أمثالهم إشارة لمرض كان يصيب البعير، وهو "الغدة": "أغدة كغدة البعير، وموت في بيت سَلُولية؟"، أما المثل التالي فيشير إلى مرض آخر هو "القُلاب"، وهو داء يصيب الإبل في رؤوسها فيقلبها إلى فوق: "ما به قلبة"؛ أي إنه سليم لا يشكو من أي داء، وقريب منه داء الصَّعَر، وهو داء يأخذ في رقاب الإبل فيمليها: "لأقيمن صَعَرك"، وكان الجاهليون يحبون الوشم، الذي كثيرًا ما شبه الشعراء به ما يرونه في أطلال حبائبهم من الخطو وآثار الريح: "أثبت من الوشم"، ومن أعمالهم التي كان أهل كل بيت يمارسونه بأنفسهم خياطة الفتوق: "اتسع الخَرْق على الراقع"، وجمع الحطب للنار: "أخبط من حاطب ليل"، والطحن بالرحا: "أسمع جَعجعة ولا أرى طِحْنًا"، و"الطِّحْن" هو الدقيق، والمعنى أن هناك ضجة، لكن ليس هناك دقيق؛ أي: إنها ضجة على الفاضي.ويتصل بهذه الأمثال تلك التي ورد فيها ذكر لما كانوا يتخذونه من أدوات لتأدية هذه الأعمال، ومنها الإبرة: "أبغى من إبرة"، والفأس: "أبغى من فأس"، والقدح: "أبغض من القِدْح الأول"، والعصا: "أبقى من تفاريق العصا"، والخيط: "أدق من خيط"، والحبل: "إن الشقي بكل حبل يُخنق"، والحذاء: "أدنى من الحذاء"، ورباط النعل: "أدنى من الشِّسْع"، والمجمر (المبخرة): "است لم تُعوَّد المجمر"، والخُذْروف (وهو لعبة للأطفال تشبه ما نسميه في مصر بـ: "النحلة"): "أسرع من الخُذْروف"، والأثفيَّة (الحجر الذي كانوا ينصبون منه ثلاثة تحت القِدر): "أصبر من الأثافي على النار"، والجَلَم (المقص): "أقطع من جلم"، والعصا: "أكثر من تفاريق العصا"، والشفرة: "إن وجدت لشفرة محزًّا"، "والمرآة: "أنقى من مرآة الغريبة"، والجُلْجُل: "أنَمُّ من جلجل"، والسيف: "تركته على مثل حرف السيف"، والصحيفة: "صحيفة المتلمس"، والكنانة (جعبة السهام): "قبل الرماء تملأ الكنائن"، والدلو: "قد علقت دلوك دلو أخرى"، والمجن: "قلبت له ظهر المجن"، والمكواة: "قد يضرط العير والمكواة في النار".أما أطعمتهم فهذه بعض الأمثال التي تتحدث عنها مما وضعت يدي عليه أثناء تجوالي في كتاب العسكري: "إن وجدت إليه فاكرش"؛ أي: إن وجدت إليه سبيلًا فسوف أطبخ الشاة في كرشها، ومن أسماء أطعمتهم "اللبأ"، وهو أول الألبان عند ولادة الحيوان: "أبى أبي اللبأ"، ومن أطعمتهم أيضًا "الربيكة"، وهي أقط بسمن وتمر يعمل رخوًا: "غرثان، فاربكوا له"؛ أي إنه جائع فلا تكلموه في أي شيء؛ لأن ذهنه مشغول بالجوع والطعام، بل أعدوا له الربيكة أولًا، فإذا أكل رجع إليه عقله، وهذا مثل قولنا: "ساعة البطون تتوه العقول"، وأصل المثل، حسبما يروون، أن رجلًا عاد من سفر فأخبروه أن امرأته قد ولدت له غلامًا، فلم يهتم بالخبر؛ لأنه كان يعاني من برحاء الجوع وقال: وما أصنع به؟ آكله أم أشربه؟ فطلبت منهم زوجته أن يطعموه أولًا، وقد كان، إذ بعد أن أطعموه ارتد إليه عقله وشرع يسأل عن الوليد وأمه، وهو سعيد محبور، ولدينا كذلك طعام "السويق": "جَدْحَ جوين من سويق غيره"، وهو طعام سائل يصنع من القمح والشعير على عجل للمسافر والجائع الذي لا يصبر، والمراد أن جوينًا هذا، لأنه لا ينفق من ماله ولا يأكل من سويقه، بل من سويق غيره، فإنه يسرف ولا يبالي بالاقتصاد، والجدح: الشُّرب، كذلك كانوا يصطادون الضب ويأكلونه: "ما أبالي أناء ضبك أم نضج"، "أعطِ أخاك من عقنقل الضب"، ويسمون صيده: "حرشًا": "هو أعلم بضب حرشه"، وما فتئ الضب يؤكل في الخليج حتى يومنا هذا، وبالمثل كان العرب في الجاهلية يصطادون حمار الوحش ويأكلونه، وقد ورد ذكره في قولهم: "كل الصيد في جوف الفرا"، "أخلى من جوف حمار"؛ لأنهم كانوا يلقون بما في جوفه ولا ينتفعون به، كما كانوا يأكلون "الكمأة"، التي لا يزال الناس هناك يتلذذون بطعمها حتى الآن، وهي، كما تقول المعاجم، نبات يخرج من الأرض كما يخرج الفُطْر، وهناك نوع منها يسمى: "الفَقْع": "أذل من فَقْع بقَرقرة"؛ لأنه يظهر على سطح الأرض فتطؤه الأقدام، وإن كان هناك نوع آخر يحتاج إلى أن ينبش الإنسان الأرض عنه.ومن أطعمتهم التي وردت بها الأمثال "العسل": "أحلى من العسل، أو من الشهد"، كما كانوا يصنعون "الزُّباد" من اللبن ويأكلونه، وجاء به المثل التالي: "اختلط الخاثر بالزُّباد"، ومن طعامهم في الجاهلية أيضًا "الدم"، وذلك بعد أن يفصدوه من عرق الناقة أو الفرس ثم يملؤوا المصران به، ثم يشووه ويأكلوه، وهذا الطعام يسمى: "الفصيد": "لم يُحرَمْ مَن فُصد له"؛ أي إن الفصيد طعام كافٍ لمن يقدم إليه، وقد جاء الإسلام بتحريم أكل الدم، ومعروف أن الدم مرتع لجميع أنواع الفيروسات والجراثيم والمكروبات، التي تضر الجسم، والتي تسري إليه عند أكل الإنسان إياه، وكانوا يحفظون الدُّهن المذاب في سقاء، وهذا الدهن يسمى: "الإهالة": "كحاقن الإهالة"؛ أي أنا خبير بهذا الأمر كخبرة حاقن الإهالة في السقاء؛ إذ كان الأمر يتطلب تأكد الحاقن تمامًا، عن طريق إيلاج إصبعه في الإهالة، أنها قد بردت بحيث لا تفسد السقاء بسخونتها، كما وردت أمثالهم بـ: "الزيت": "أوفى من كيل الزيت"، كذلك كان "الشعير" من طعامهم، وإن لم يكن من أشهاه إلى نفوسهم: "كالشعير: يؤكل ويُذم"، ومن الفاكهة التي ذكرتها الأمثال "التمر": "كمستبضع التمر إلى هجر"، (وهو كقولنا:"يبيع الماء في حارة السقائين")، "وجدَ تمرةَ الغراب"، وقد جاء ذكر "الحشف"، وهو أردأ أصنافه، في مثل آخر: "أحشَفًا وسوءَ كيلة؟"، و"العنب": "إنك لا تجني من الشوك العنب"، "أعجز من مستطعم العنب من الدفلى"؛ إذ الدفلى نبات ورقه أشعر شائك، وطعمه مر، وكان كثير من أهل الجاهلية يغرمون بـ: "الخمر"، ويُكثر شعراؤهم من التمدح بشربها، ويعدونه من علامات الكرم والسيادة، حتى جاء الإسلام وحرمها تحريمًا تامًّا، ومن أمثالهم في أم الخبائث قولهم: "ألذ من مذاق الخمر".وللأمثال، فضلًا عن الجوانب التي مرت، جانب آخر يمكن أن يُنظر إليها منه هو الجانب النفسي والخلقي والاجتماعي: فالمثل التالي على سبيل المثال يشير إلى وجه من وجوه الطبيعة الإنسانية، ألا وهو أهمية الإيحاء الذاتي في علاج المشاكل، فكثير من الأمور يمكن أن تنحل أو يسهل حلها إذا وضَع الشخص في اعتباره أن هناك أملًا كبيرًا في التغلب عليها: "اكذب نفسك إذا حدثتها"، وإلا فليس له معدى عن الصبر، وهو الدواء الذي لا بد من تجرعه على مرارته: "حيلة مَن لا حيلة له الصبر"، كما أن طبيعة الاجتماع البشري تقتضي من الإنسان أن يتغاضى عن بعض حقوقه، وأن يكون مرِنًا مع الآخرين، وألا يؤاخذهم بكل صغيرة وكبيرة حتى تسير عجلة الحياة: "إذا عز أخوك فهُنْ"، "إذا رأيت الريح عاصفًا فتطامن"، "أي الرجال المهذب؟"، "طويته على بلالته"، مع معرفة أن "رضا الناس غاية لا تدرك"، وأن الطبائع الشخصية عصية على التغيير، وبخاصة إذا شاب الإنسان على ما شب عليه: "أعيَيْتني بأُشُر، فكيف بدُرْدر؟"، "من العناء رياضة الهرِم"، ثم هناك العصبية القبلية التي لا يمكن الفَكاك منها؛ ولذلك قيل في أمثال الجاهلية: "انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا"، وهو ما صححه الرسول الكريم عندما حوره بعض التحوير فقال: إن نصرتك أخاك ظالمًا إنما تكون بمنعه من الظلم، معطيًا عليه السلام هذا المثل بُعدًا أخلاقيًّا عظيمًا، كذلك هناك المثل التالي الذي يتعامل مع الطبيعة البشرية تعاملًا مغرقًا في الواقعية، بل في اللاإنسانية دون مراعاة المثل الأعلى في قليل أو كثير، وهو: "أجِعْ كلبك يتبعك"، وفي قولهم: "جلَّى محبٌّ نظره" تعبير عن حقيقة نفسية تشاهد في المحبين؛ إذ مهما حاول الواحد منهم إخفاء مشاعره تجاه معشوقه عن الناس فإن عينيه تفضحانه، وقد قال الشاعر: "الصب تفضحه عيونه"، كذلك يحسُنُ بالإنسان، إذا أراد أن يظل عزيزًا محبوبًا مكرمًا، ألا يكثر الزيارة للآخرين مهما كانوا يحبونه ويريدونه ألا يقطع رِجله عنهم: "زُرْ غبًّا تزدد حُبًّا"، وألا يُكثر كذلك من المزاح؛ فإنه سبيل إلى نشوء البغضاء حتى بين المتحابين: "المزاح لقاح الضغائن".وفي دنيا الزواج والأسرة تطالعنا الأمثال التالية، وهي مأخوذة من واقع الحياة الذي لا سبيل إلى تغييره ولا نكرانه: "زوج من عُودٍ خيرٌ من قعود"، وهو ما يقال عنه في أمثالنا العامية: "ظِل رجل ولا ظِل حائط"، "العَوَان لا تُعلَّم الخمرة"، "بينهم داء الضرائر"، "إن الحماة أولعت بالكنَّة، وأولعت كنَّتُها بالظِّنة"، "أظل من مَوْءودة"، وهي البنت الصغيرة التي تدفن حية، وكان بعض الجاهليين يَئِدون بناتهم خوفًا من الفقر والعار، على أن هناك مثلًا يبدو أنه يعكس اعتقادًا راسخًا عند العرب منذ قديم الزمان، ألا وهو أن الحظ عليه معوَّل كبير في حياة الإنسان، ولقد كنت أضيق أشد الضيق بمثل هذا الكلام، وأؤكد دائمًا أن السعي والتخطيط واليقظة هي عمود كل نجاح، ثم تبين لي أن للحظ دورًا لا ينكر في حياتنا، وأنه قد يرفع أقوامًا حقهم الاتِّضَاع، ويخفض أقوامًا يستحقون كل خير ورفعة؛ ذلك أن أمورنا نحن العرب لم تزل تجري على غير تخطيط، كما أن القيم الإسلامية العظيمة لا يؤخذ بها في كثير من الأحوال، ومن ثم فكثير من الناس لا يحصل على حقه، على حين يرون من لا يستحقون قد سبقوهم سبقًا فاحشًا دون أدنى مسوغ، ومن هنا صح المثل العربي القديم القائل: "جَدُّك لا كَدُّك"؛ أي إن حظك هو الذي ستكون له الغلَبة في نهاية المطاف، وكذلك قولهم: "اسعَ بجدٍّ أو دَعْ"، وأن "من غاب غاب نصيبه".أما قولهم: "لو لك عويتُ لم أعوِ" فيشير إلى ما كان يفعله الرجل الجاهلي في الصحراء حين يكون مسافرًا ويأتي عليه الليل فيجد نفسه وحيدًا، فيعوي كالكلاب على أمل أن يكون على مقربة من خيمة لبعض الأعراب فتجاوبه كلابهم فيأتنس بهم ويحصل على ما يحتاجه من طعام وشراب عندهم حتى لا يموت جوعًا أو عطشًا، كما أن المسافر في الصحراء كان يمسك دائمًا بعصًا يحمل عليها ملابسه وصرة طعامه: "لو كان في العصا سير"، ومن الطريف أن نجد من الأمثال العربية ما يدلنا على أنهم في الجاهلية كانوا يخوِّفون صغارهم بالذئاب كما يفعل أهل الريف والمناطق الشعبية عندنا الآن، إذ يخوفون أبناءهم العصاة بالعفريت والغول وأبي رجل مسلوخة وما أشبه: "لقد كنتُ وما أُخشَّى بالذئب".ونختم بما ورد في الأمثال الجاهلية مما كانوا يعتقدونه من خرافات وأساطير؛ كاعتقادهم في السانح والبارح: فالسانح ما مر بك من طير أو حيوان من اليمين إلى اليسار، والبارح ما مر من اليسار إلى اليمين، وكانوا يتفاءلون بالأول، ويتشاءمون بالثاني: "من لي بالسانح بعد البارح؟"، كما كانوا يتشاءمون بالغراب؛ إذ ارتبط وجوده عندهم بمواقع أطلالهم التي خلفوها؛ إذ يلتقط منها ما يكونون قد تركوه وراءهم، فانعقدت الصلة في أذهانهم بينه وبين الفِراق، وصاروا يتشاءمون به: "أشأم من غراب البَيْن"، ولم يقتصر تشاؤمهم على الحيوان والطير، بل كانوا يستحسنون بعض النجوم أيضًا: "أنكد من تالي النجم"، وهو "الدبران"، الذي يتلو نجم "الثريا"، كما كانوا يعتقدون في "البلايا"، جمع "بلية"، وهي الناقة التي كانوا يربطونها عند قبر صاحبها بعد أن يُغمضوا عينيها، ثم يتركونها هكذا دون طعام أو شراب حتى تموت؛ إذ كانت عقيدتهم أنها بهذه الطريقة تكون جاهزة تحت تصرف صاحبها ليركبها يوم القيامة: "المنايا على البلايا"، وهو مثل يضرب للقوم الواقعين في كرب لا مخلص منه، فهم يشبهون "البلية" التي لا مفر لها من الموت، ومن خرافاتهم ما كانوا يقولونه عن السليك بن السلكة، الشاعر الجاهلي الصعلوك المشهور؛ إذ كانوا يروون أنه ظل يعدو يومًا وليلة كاملين سابقًا فارسين من فرسان الأعداء لم يستطيعا إدراكه قط حتى بلغ منازل قومه وحذرهم هجومًا وشيكًا من أعدائهم، فأخذوا حِذرهم ولم يقدر العدو أن يصيب منهم غرة: "أعدى من السليك"، ومن مبالغاتهم التي تدخل في باب الخرافات قولهم: "أبصر من الزرقاء"، (وهي زرقاء اليمامة المشهورة، وكانوا يزعمون أنها من قوة البصر وحدته بحيث ترى على بعد ثلاثة أيام)، وهناك مثل يقول: "أشأم من الزُّمَّاح"، (إشارة إلى طير كان يقع على بيوت ناس من أهل يثرب ويأكل من تمرهم ثم يطير فلا يعود إلى العام التالي، فرماه رجل منهم بسهم فقتله وقسم لحمه، فلما مر العام لم يبقَ ممن أكل مِن لحمه أحدٌ حيًّا)، "أعمر من حية"؛ (لأنهم كانوا يظنون أنها لا تموت أبدًا إلا إذا قتلها إنسان، وإلا فإنها إذا كبرت عادت فصغرت حتى تكبر ثم تعود فتصغر... وهكذا دواليك!)، "أعمر من نَسر، أو من قراد"؛ (إذ كانوا يؤمنون أن الأول يُعمر خمسمائة عام، والثاني سبعمائة).هذا، وهناك كتب خاصة بالأمثال ألفها بعض من كبار الكتاب العرب القدماء، ومنهم صحار العبدي وأبو عبيدة معمر بن المثنى وثعلب والمفضل الضبي وأبو هلال العسكري والزمخشري والميداني، وهي كتب تعنى بإيراد أكبر عدد ممكن من الأمثال العربية القديمة وشرحها وتفسير ما يحتاج من ألفاظها وتراكيبها وعباراتها إلى تفسير، فضلًا عن إيراد قصة المثل إن كانت وصلتهم، وقد تكون هذه القصة حقيقية أو خيالية، وإن كانوا في بعض الأحيان يعلنون عن عجزهم عن معرفتها، كما فعل أبو هلال العسكري مرارًا؛ إذ قال مثلًا عند تعرضه لقولهم: "أبدح ودبيح": "يقولون: جاء بأبدح ودبيح، إذا جاء بالباطل، ولم يُعرف أصله"؛ أي إن قصته لم تصله، أما في شرحه للمثل القائل: "بعين ما أرينك" فقد علق قائلًا: "معناه: اعجل، وهو من الكلام الذي قد عُرف معناه سماعًا من غير أن يدل عليه لفظه، وهذا يدل على أن لغة العرب لم ترد علينا بكمالها، وأن فيها أشياء لم تعرفها العلماء"، وفي تعليقه على المثل التالي: "أحمق من راعي ضأن ثمانين" نراه يقول: "ولا أدري لم خصَّت بالثمانين هنا"... إلخ.ومن هنا ترانا لا نوافق بروكلمان على ما قاله في الأمثال من أن "مَن عُنوا بجمعها من الأدباء لم يقعوا مرة في حيرة من تفسيرها وإيضاحها"، وما فيه من سخريَّة مبطنة؛ (كارل بروكلمان/ تاريخ الأدب العربي/ 1/ 129)، بل نؤكد أن هذا الكلام غير صحيح؛ لعدة أسباب: الأول أن هؤلاء المؤلفين لم يكونوا يوردون هذه القصص دائمًا كما قلنا آنفًا، والثاني أنهم ليسوا هم الذين ألفوا هذه القصص، بل كانوا مجرد نقلة لها حسبما وصلت إليهم، والثالث أن العسكري مثلًا، حسبما رأينا معًا، قد أعلن عن عجزه في عدة مناسبات مختلفة عن معرفة قصة المثل، بل حتى عن مجرد معرفة معناه في بعض الأحيان، بل إنهم كثيرًا ما يكتفون بإيراد المثل دون إضافة أية كلمة أخرى من لدنهم، وهو نفسه ما نقوله ردًّا على ما كتبه نيكلسون في ذات الموضوع؛ إذ جاء في كتابه: "A Literary History of the Arabs" أثناء كلامه في هذه المسألة: إن هذه الأمثال "نادرًا ما تستغني عن الشرح، على حين أن ما كتب من تعليقات عليها إنما هي من عمل علماء وضعوا نُصب أعينهم أن يشرحوها مهما كلفهم ذلك، رغم أن الظروف التي قيلت فيها قد نُسيت تمامًا"؛ (A Literary History of the Arabs، P، 31).