عرض مشاركة واحدة
  #9  
قديم 20-11-2022, 11:32 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,970
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ المائدة
المجلد السادس
صـ 2107 الى صـ 2120
الحلقة (309)



[ ص: 2107 ] قال بعض الزيدية: دلت الآية على أن الغلو في الدين لا يجوز، وهو المجاوزة للحق إلى الباطل. ومن هذا: الغلو في الطهارة مع كثير من الناس، بالزيادة على ما ورد به الشرع لغير موجب. انتهى.

ومن هذا القبيل الغلو في تعظيم الصالحين وقبورهم حتى يصيرها كالأوثان التي كانت تعبد.

وروى الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه والحاكم عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين » .

وعن عمر; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله» . أخرجاه.

ولمسلم عن ابن مسعود; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «هلك المتنطعون » ! قالها ثلاثا. ثم نهاهم تعالى عن اتباع سلفهم وأئمتهم الضالين بقوله سبحانه:

ولا تتبعوا قال المهايمي: أي: تقليدا: أهواء قوم تمسكوا بخوارقهما على إلهيتهما. فإن نظروا إلى سبقهم [ ص: 2108 ] فغايتهم أنهم: قد ضلوا من قبل إلى كثرة أتباعهم فغايتهم أنهم: أضلوا كثيرا ممن شايعهم على التثليث: "و" إلى تمسكهم بمتشابهات الإنجيل، فغايتهم أنهم: ضلوا عن سواء السبيل إذ لم يردوها إلى المحكمات.

تنبيهات:

الأول: قال الرازي:

الأهواء - ههنا - المذاهب التي تدعو إليها الشهوة دون الحجة. قال الشعبي: ما ذكر الله لفظ الهوى في القرآن إلا ذمه. قال: ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله واتبع هواه فتردى وما ينطق عن الهوى أرأيت من اتخذ إلهه هواه . قال أبو عبيدة: لم نجد الهوى يوضع إلا في موضع الشر. لا يقال: فلان يهوى الخير. إنما يقال: يريد الخير ويحبه. وقال بعضهم: الهوى إله يعبد من دون الله. وقيل: سمي الهوى هوى لأنه يهوي بصاحبه في النار.

وأنشد في ذم الهوى:


إن الهوى لهو الهوان بعينه فإذا هويت فقد لقيت هوانا


وقال رجل لابن عباس: الحمد لله الذي جعل هواي على هواك، فقال ابن عباس: كل الهوى ضلالة.

[ ص: 2109 ] الثاني: قال الرازي أيضا: إنه تعالى وصفهم بثلاث درجات في الضلال: فبين أنهم كانوا ضالين من قبل، ثم ذكر أنهم كانوا مضلين لغيرهم، ثم ذكر أنهم استمروا على تلك الحالة حتى إنهم الآن ضالون كما كانوا. ولا نجد حالة أقرب إلى البعد من الله والقرب من عقاب الله تعالى، من هذه الحالة. نعوذ بالله منها. ويحتمل أن يكون المراد أنهم ضلوا وأضلوا ثم ضلوا بسبب اعتقادهم، في ذلك الإضلال، أنه إرشاد إلى الحق. ويحتمل أن يكون المراد بالضلال عن الدين، وبالضلال عن طريق الجنة. انتهى.

وهذه الوجوه - مع ما أسلفناه عن المهايمي - كلها مما يصح إرادتها من الآية لتصادقها جميعا عليهم.

الثالث: دلت الآية على أن ما لهؤلاء الكفرة من الأباطيل - مع مخالفتها للعقول ومزاحمتها للأصول - لا مستند ولا معول لهم فيها غير التقليد لأسلافهم الضالين، الذين أحدثوا القول بالتثليث بعد نحو ثلاثمائة سنة من رفع المسيح عليه السلام. وقرروه في تعاليمهم بعد جدال واضطراب. وتمسكوا في ذلك بظواهر الألفاظ التي لا يحيطون بها علما، مما لا أصل له في شرع الإنجيل، ولا مأخوذ من قول المسيح ولا من أقوال حوارييه. وهو مع ذلك مضطرب متناقض متهافت، يكذب بعضه بعضا، ويعارضه ويناقضه، كما تبين من الكتب المصنفة في الرد عليهم.

الرابع: جاء في "تنوير المقباس":

إن المراد ب (أهل الكتاب) هنا: نصارى نجران الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبقوله: ولا تتبعوا أهواء قوم العاقب والسيد. والأول - كما قال ابن إسحاق - أمير القوم وذا رأيهم. والثاني صاحب رحلهم ومجتمعهم.

والأظهر أن المعني ب (أهل الكتاب) عموم النصارى. والمذكورون يدخلون فيه دخولا أوليا.

[ ص: 2110 ] الخامس: ذكر كثير من المفسرين: أن المراد ب (أهل الكتاب) هنا: اليهود والنصارى. وأن كليهما غلا في عيسى عليه السلام: أما غلو اليهود فالتقصير في حقه حتى نسبوه إلى غير رشدة. وأما غلو النصارى فمعلوم. وأن الخطاب في قوله تعالى: ولا تتبعوا أهواء قوم لليهود والنصارى الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم. نهوا عن اتباع أسلافهم فيما ابتدعوه من الضلالة بأهوائهم. انتهى.

وظاهر أن ما نسب للفريقين - من الغلو والابتداع - مسلم. بيد أن الأقرب للسباق الداحض لشبهات النصارى، أن تكون هذه الآية فيهم زجرا لهم عما سلكوه، إثر إبطاله بالبراهين الدامغة. على أن الغلو ألصق بالنصارى منه باليهود، كما لا يخفى. والله أعلم.

ثم أخبر تعالى أنه لعن الكافرين من بني إسرائيل فيما أنزله على داود وعيسى عليهما السلام. بسبب عصيانهم وما عدد من كبائرهم. فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[78] لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون

لعن الذين كفروا من بني إسرائيل أي: لعنهم الله عز وجل: على لسان داود وعيسى ابن مريم أي: لسانيهما. وأفرد لعدم اللبس، إن أريد باللسان الجارحة. وقيل: المراد به الكلام وما نزل عليهما. كذا في "العناية".

ذلك أي: لعنهم الهائل: بما عصوا وكانوا يعتدون بقتل الأنبياء واستحلال المعاصي.
[ ص: 2111 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[79] كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون

كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه أي: لا ينهى بعضهم بعضا عن ارتكاب المآثم والمحارم. ثم ذمهم على ذلك ليحذر من ارتكاب مثل الذي ارتكبوه فقال: لبئس ما كانوا يفعلون مؤكدا بلام القسم. تعجيبا من سوء فعلهم، كيف وقد أداهم إلى ما شرح من اللعن الكبير.

تنبيهات:

الأول: دلت الآية على جواز لعنهم.

الثاني: دلت الآية أيضا على المنع من الذرائع التي تبطل مقاصد الشرع. لما رواه أكثر المفسرين، أن الذين لعنهم داود عليه السلام أهل أيلة الذين اعتدوا في السبت واصطادوا الحيتان فيه. وستأتي قصتهم في (الأعراف).

الثالث: دلت أيضا على وجوب النهي عن المنكر.

قال الحاكم: وتدل على أن ترك النهي من الكبائر.

الرابع: روى الإمام أحمد في معنى الآية عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله [ ص: 2112 ] صلى الله عليه وسلم: لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا، فجالسوهم في مجالسهم، أو في أسواقهم، وواكلوهم وشاربوهم، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئا فجلس فقال: «لا، والذي نفسي بيده! حتى تأطروهم على الحق أطرا» . أي: تعطفوهم عليه. ورواه الترمذي وقال: حسن غريب.

وأخرجه أبو داود عنه فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله، ودع ما تصنع؛ فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده. فلما فعلوا ذلك، ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قال: لعن الذين كفروا - إلى قوله -: فاسقون ثم قال: كلا والله! لتأمرن بالمعروف. ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا، أو تقصرنه على الحق قصرا» .

زاد في رواية: أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض، ثم يلعنكم كما لعنهم.

وكذا رواه الترمذي وحسنه. وابن ماجه.

والأحاديث في (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) كثيرة، ومما يناسب منها هذا المقام:

ما رواه الإمام أحمد والترمذي عن حذيفة بن اليمان: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده! لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده، ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم» .

[ ص: 2113 ] وفي "الصحيحين" عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده. فإن لم يستطع فبلسانه. فإن لم يستطع فبقلبه. وذلك أضعف الإيمان» .

وروى الإمام أحمد عن عدي بن عميرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم. وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه. فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصة والعامة» .

وروى ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله ليسأل العبد يوم القيامة حتى يقول: ما منعك إذ رأيت المنكر أن تنكره؟ فإذا لقن الله عبدا حجته قال: يا رب! رجوتك وفرقت الناس» .

قال الحافظ ابن كثير: تفرد به ابن ماجه. وإسناده لا بأس به.

وروى الإمام أحمد والترمذي عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا ينبغي لمسلم أن يذل نفسه. قيل: وكيف يذل نفسه؟ قال: يتعرض من البلاء ما لا يطيق» .

قال الترمذي: حسن غريب.

[ ص: 2114 ] وروى ابن ماجه عن أنس بن مالك قال: قيل: يا رسول الله! متى نترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قال: «إذا ظهر فيكم ما ظهر في الأمم قبلكم. قلنا: يا رسول الله! وما ظهر في الأمم قبلنا؟ قال: الملك في صغاركم، الفاحشة في كباركم، والعلم في رذالتكم» .

قال زيد بن يحيى الخزاعي، أحد رواته: معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم (والعلم في رذالتكم) إذا كان العلم في الفساق.

تفرد به ابن ماجه. وله شاهد في حديث أبي ثعلبة يأتي إن شاء الله عند قوله تعالى: لا يضركم من ضل - أفاده ابن كثير.

أقول: هذه الأحاديث إنما يتروح بها الضعفة، من نحو العلماء والقادة. وأما من كان لهم الكلمة النافذة والوجاهة التامة فهيهات أن تغني عنهم، وهذه المواعيد الهائلة تخفق فوق رؤوسهم؛ ولذا قال العلامة الزمخشري: فيا حسرة على المسلمين في إعراضهم عن باب التناهي عن المناكير، وقلة عبئهم به. كأنه ليس من ملة الإسلام في شيء. مع ما يتلون من كتاب الله، وما فيه من المبالغات في هذا الباب. وقد مر عند قوله تعالى: لولا ينهاهم الربانيون ما يؤيد ما هنا، فتذكر.

الخامس: قال الزمخشري: فإن قلت: كيف وقع ترك التناهي عن المنكر تفسيرا للمعصية والاعتداء؟ قلت: من قبل أن الله تعالى أمر بالتناهي. فكان الإخلال به معصية، وهو اعتداء.

ولما وصف تعالى أسلافهم بما مضى، وصف الحاضرين بقوله:
[ ص: 2115 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[80] ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون

ترى كثيرا منهم أي: من أهل الكتاب: يتولون الذين كفروا أي: يوالون المشركين، بغضا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال الرازي: والمراد منهم كعب بن الأشرف وأصحابه، حين استجاشوا المشركين على الرسول صلى الله عليه وسلم: وذكرنا ذلك في قوله تعالى: ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا

لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أي: لبئس شيئا قدموا لمعادهم. وقوله تعالى: أن سخط الله عليهم هو المخصوص بالذم، على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، تنبيها على كمال التعلق والارتباط بينهما كأنهما شيء واحد، ومبالغة في الذم. والمعنى: لبئس زادهم في الآخرة موجب سخطه تعالى عليهم: وفي العذاب أي: عذاب جهنم. هم خالدون
القول في تأويل قوله تعالى:

[81] ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنـزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون

ولو كانوا أي: هؤلاء الذين يتولون عبدة الأوثان من أهل الكتاب: يؤمنون بالله والنبي أي: نبيهم موسى عليه السلام: وما أنـزل إليه أي: من التوراة: ما اتخذوهم أولياء إذ الإيمان بالله يمنع من تولي من يعبد غيره: ولكن كثيرا منهم فاسقون خارجون عن دينهم، أو متمردون في نفاقهم. يعني: أن موالاتهم [ ص: 2116 ] للمشركين كفى بها دليلا على نفاقهم، وأن إيمانهم ليس بإيمان، لأن تحريم ذلك متأكد في التوراة وفي شرع موسى عليه السلام، فلما فعلوا ذلك ظهر أنه ليس مرادهم تقرير دين موسى عليه السلام، بل مرادهم الرياسة والجاه، فيسعون في تحصيله بأي طريق قدروا عليه، فلهذا وصفهم تعالى بالفسق.

وفي الآية وجه آخر: وهو أن يكون المعنى: ولو كانوا - أي: منافقو أهل الكتاب المدعون للإيمان - يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن حق الإيمان، ما ارتكبوا ما ارتكبوه، من موالاة الكافرين في الباطن.

والوجه الأول أقوم، والله أعلم.

ثم أكد تعالى ما تقدم من مثالب اليهود بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى:

[82] لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون

لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا وإنما عاداهم اليهود لإيمانهم بعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم; وعادهم المشركون لتوحيدهم وإقرارهم بنبوة الأنبياء - أشار إليه المهايمي.

وقال غيره: لشدة إبائهم، وتضاعف كفرهم، وانهماكهم في اتباع الهوى، وركونهم إلى التقليد، وبعدهم عن التحقيق، وتمرنهم على التمرد والاستعصاء على الأنبياء، والاجتراء على تكذيبهم، ومناصبتهم لهم. ولهذا قتلوا كثيرا منهم حتى هموا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة، وسموه، وسحروه، وألبوا عليه أشباههم من المشركين. وفي تقديم (اليهود) على (المشركين)، بعد لزهما في قرن واحد، إشعار بتقدمهم عليهم في العداوة، كما أن [ ص: 2117 ] في تقديمهم عليهم في قوله تعالى: ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا إيذانا بتقدمهم عليهم في الحرص ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى للين جانبهم وقلة غل قلوبهم.

قال ابن كثير: وما ذاك إلا لما في قلوبهم، إذ كانوا على دين المسيح، من الرقة والرأفة كما قال تعالى: وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية وفي كتابهم: من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر. وليس القتال مشروعا في ملتهم. انتهى.

ولأن من مذهب اليهود، أنه يجب إيصال الشر إلى من خالف دينهم بأي طريق كان، من القتل ونهب المال ونحوهما، وهو عند النصارى حرام. فحصل الفرق.

وقد روى ابن مردويه عن أبي هريرة مرفوعا: «ما خلا يهودي بمسلم إلا هم بقتله» .

ولكثرة اهتمام النصارى بالعلم والترهب، مما يدعو إلى قلة البغضاء والحسد، ولين العريكة، كما أشير إليه بقوله تعالى: ذلك أي: كونهم أقرب مودة للمؤمنين: بأن منهم أي: بسبب أن منهم: قسيسين أي: علماء: ورهبانا أي: عبادا متجردين: وأنهم لا يستكبرون أي: يتواضعون لوداعتهم ولا يتكبرون كاليهود. وفي الآية دليل على أن الإقبال على العلم، والإعراض عن الشهوات، والبراءة من الكبر - محمود. وإن كان ذلك من كافر.

[ ص: 2118 ] لطيفة:

قال الناصر في "الانتصاف":

إنما قال تعالى: الذين قالوا إنا نصارى ولم يقل (النصارى) تعريضا بصلابة اليهود في الكفر والامتناع من الامتثال للأمر، لأن اليهود قيل لهم: ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فقابلوا ذلك بأن قالوا: فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون والنصارى قالوا: نحن أنصار الله . ومن ثم سموا نصارى. وكذلك أيضا ورد أول هذه السورة: ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به . فأسند ذلك إلى قولهم، والإشارة به إلى قولهم: نحن أنصار الله [ ص: 2119 ] لكنه ههنا ذكر تنبيها على أنهم لم يثبتوا على الميثاق ولا على ما قالوه من أنهم أنصار الله. وفي الآية الثانية ذكر تنبيها على أنهم أقرب حالا من اليهود؛ لأنهم لما ورد عليهم الأمر لم يكافحوه بالرد مكافحة اليهود. بل قالوا: نحن أنصار الله . واليهود قالت: فاذهب أنت وربك ... الآية. فهذا سره. والله أعلم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[83] وإذا سمعوا ما أنـزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين

وإذا سمعوا ما أنـزل إلى الرسول عطف على (لا يستكبرون). قال أبو البقاء: ويجوز أن يكون مستأنفا في اللفظ وإن كان له تعلق بما قبله في المعنى. يعني: وإذا سمعوا القرآن: ترى أعينهم تفيض أي: تنصب: من الدمع الحاصل من اجتماع حرارة الحب والخوف، مع برد اليقين: مما عرفوا من الحق أي: من كتابهم، فوجدوه أكمل منه وأفضل، أو من الذي نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الحق، أو من صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته في كتابهم: يقولون أي: من عدم استكبارهم: ربنا آمنا أي: بك وبما أنزلت وبرسولك محمد: فاكتبنا مع الشاهدين أي: الذين شهدوا بأنه حق أو بنبوته. روى الحاكم، وصححه، ابن عباس قال: أي: مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأمته هم الشاهدون. يشهدون لنبيهم أنه قد بلغ، وللرسل أنهم قد بلغوا.

وقوله تعالى:
[ ص: 2120 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[84] وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين

وما لنا لا نؤمن بالله إنكار استبعاد لانتفاء الإيمان مع قيام موجبه - وهو الطمع - في إنعام الله عليهم بصحبة الصالحين: وما جاءنا من الحق أي: وبما جاءنا من القرآن. وفي إعرابه وجه آخر يأتي. ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين يعني مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم; أو المعنى: أن يدخلنا ربنا الجنة مع الأنبياء والمؤمنين.
القول في تأويل قوله تعالى:

[85] فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين

فأثابهم الله بما قالوا أي: بما تكلموا به من قولهم: ربنا آمنا الصادر عن اعتقاد وإخلاص واعتراف بالحق: جنات تجري من تحتها أي: من تحت شجرها ومساكنها: الأنهار يعني أنهار الماء واللبن والعسل: خالدين فيها أي: مقيمين في الجنة لا يموتون ولا يخرجون منها: وذلك جزاء المحسنين يعني المؤمنين الموحدين المخلصين في إيمانهم.

تنبيهات:

الأول: اتفق المفسرون على أن هذه الآيات الأربع نزلت في النجاشي وأصحابه رضوان الله عليهم.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 45.88 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 45.25 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.37%)]