عرض مشاركة واحدة
  #8  
قديم 20-11-2022, 11:16 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,635
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ المائدة
المجلد السادس
صـ 2094 الى صـ 2106
الحلقة (308)



[ ص: 2094 ] قال الخفاجي: اقتصر العلامة هنا على حكاية حال أسلافهم، لقرينة ضمائر الغيبة، وترك تلك الآية - يعني آية البقرة - على الاحتمالين لقرينة ضمائر المخاطبين. ليكون توبيخا وتعبيرا للحاضرين بفعل آبائهم. ولذا عقبت هذه الآية بقصة عيسى عليه السلام. فتأمل.
القول في تأويل قوله تعالى:

[71] وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا كثير منهم والله بصير بما يعملون

وحسبوا ألا تكون فتنة أي: ظن بنو إسرائيل أنهم لا يصيبهم من الله عذاب بقتل الأنبياء وتكذيب الرسل: فعموا وصموا عطف على (حسبوا)، و (الفاء) للدلالة على ترتيب ما بعدها على ما قبلها; أي: أمنوا بأس الله تعالى، فتمادوا في فنون الغي والفساد، وعموا عن الدين، بعدما هداهم الرسل إلى معالمه الظاهرة، وصموا عن استماع الحق الذي ألقوه عليهم، ولذلك فعلوا ما فعلوا: ثم تاب الله عليهم أي: مما كانوا فيه.

قال العلامة أبو السعود: لم يسند التوبة إليهم كسائر أحوالهم من الحسبان والعمى [ ص: 2095 ] والصمم، تجافيا عن التصريح بنسبة الخير إليهم. وإنما أشير إليها في ضمن بيان توبته تعالى عليهم، تمهيدا لبيان نقضهم إياها بقوله تعالى:

ثم عموا وصموا كرة أخرى: كثير منهم بدل من الضمير في الفعلين أو خبر محذوف، أي: أولئك كثير منهم: والله بصير بما يعملون أي: بما عملوا، وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية استحضارا لصورتها الفظيعة ورعاية للفواصل. والجملة تذييل أشير به إلى بطلان حسبانهم المذكور. ووقوع العذاب من حيث لم يحتسبوا، إشارة إجمالية، اكتفى بها تعويلا على ما فصل نوع تفصيل في سورة (بني إسرائيل) أفاده أبو السعود. وهو مأخوذ من كلام القفال، كما سيأتي:

تنبيه:

في هذه الآية إشارة إلى ما اكتنف بني إسرائيل من الفتنة وعذاب الله الذي حاق بهم قبل عيسى وبعده. وذلك أن أنبياءهم قبل عيسى كانوا يوبخون رؤساءهم الأشرار وشعبهم على خطاياهم. ولا سيما في عبادتهم الأوثان. وينصحونهم أن يرجعوا إلى الله. وينذرونهم بعقابه تعالى الشديد ودمارهم إن لم يتوبوا. كما أنبأهم إرميا عليه السلام بخراب بلدهم، وقضائه تعالى الهائل عليهم، إن أصروا على طغيانهم. فما استمعوا له. حتى روي أنه ختم له بالشهادة. إذ رجمته اليهود بمصر عتوا واستكبارا. ثم سلط الله عليهم بختنصر، ملك بابل، وسبى شعبهم وهدمت جنودهم مدينتهم بيت المقدس وهيكلها. وصار تلال خراب. وذلك لاستئصال كفرهم وشرورهم، وتطهير هيكلهم من نجاسة أوثانهم. فحل عليهم من البابلية الشقاء والويل. وأخذوا أسرى إلى ما وراء الفرات. ولم يترك منهم إلا الفقراء فقط،. وبذلك انتهى ملكهم، وكان ذلك قبل ولادة عيسى عليه السلام بنحو خمسمائة وثمان وثمانين سنة. ثم تاب الله عليهم ورحمهم من سبيهم، وأعادهم برحمته إلى مدينتهم بيت المقدس. بعد أن أقاموا في بابل سبعين سنة. وابتدأوا ببناء هيكلهم ثانية. وأرجعوا العبادة إليه. وقام حزقيال عليه [ ص: 2096 ] السلام بوعظهم وتهذيبهم ودعوتهم إلى التوبة وتذكيرهم بما مضى ليعتبروا. وهكذا كل نبي فيهم، لم يزل ينذرهم ويدعوهم إلى الله إلى أن بعث الله عيسى عليه السلام. فعموا عن الاهتداء به وصموا عن وعظه، وكان ما كان من همهم بقتله. فدمرهم الله بعد ذلك وأباد مملكتهم. وطردوا من أرضهم بعد رفع عيسى عليه السلام. بنحو أربعين سنة. وأخذ الرومانيون مدينتهم وهدموها مع الهيكل. وحلت عليهم نقمة الله فتفرقوا شذر مذر.

هذا، وما قيل بأن قوله تعالى: فعموا وصموا إشارة إلى عبادتهم العجل - فإنه بعيد؛ لأنها -وإن كانت معصية عظيمة ناشئة عن كمال العمى والصمم- لكنها في عصر موسى عليه السلام. ولا تعلق لها بما حكي عنهم مما فعلوا بالرسل الذين جاؤوهم بعده عليه السلام بأعصار. وكذا ما قيل بأن قوله تعالى: ثم عموا وصموا إشارة إلى طلبهم الرؤية - فبعيد أيضا، لما ذكرنا. وفنون الجنايات الصادرة عنهم لا تكاد تتناهى. خلا أن انحصار ما حكي عنهم ههنا في المرتين، وترتبه على حكاية ما فعلوا بالرسل عليهم السلام، يقضي بأن المراد ما ذكرناه. والله عنده علم الكتاب. كذا أفاده أبو السعود.

ونحن نوافقه على ما رآه. بيد أن ما سقناه في التنبيه أظهر في ماجرياتهم، وأشد مطابقة لما في تواريخهم، مما ساقه هنا. فتثبت.

ويرحم الله الإمام القفال حيث قال: ذكر الله تعالى في سورة (بني إسرائيل) ما يجوز أن يكون تفسيرا لهذه الآية فقال: وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا

فهذا في معنى: (فعموا وصموا) ثم قال: فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا فهذا في معنى قوله: ثم عموا وصموا كثير منهم انتهى.

[ ص: 2097 ] ثم بين تعالى كفر النصارى وما هم عليه من فساد الاعتقاد المباين لأصل دعوة عيسى عليه السلام، من التوحيد الخالص، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[72] لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار

لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم

قال الرازي: هذا قول اليعقوبية منهم. يقولون: إن مريم ولدت إلها. قال: ولعل معنى هذا المذهب أنهم يقولون إن الله تعالى حل في ذات عيسى واتحد بها، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

وقد سبق الكلام على مثل هذه الآية في هذه السورة مفصلا، فتذكر.

ثم بين تعالى أنهم صموا عن مقالات عيسى الداعية إلى التوحيد، كما عموا عما فيه من أمارات الحدوث، بقوله سبحانه: وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ولم يقل اعبدوني. ثم صرح بقوله: ربي وربكم قلعا لمادة توهم الاتحاد: إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار كيف والشرك أعظم وجوه الظلم: وما للظالمين من أنصار أي: ما لهم من أحد ينصرهم بإنقاذهم من النار، إما بطريق المبالغة أو بطريق الشفاعة. والجمع لمراعاة المقابلة ب (الظالمين); و (اللام) إما للعهد، والجمع باعتبار معنى: من ، كما أن الإفراد في الضمائر الثلاثة باعتبار لفظها. وما للجنس، وهم داخلون فيه دخولا أوليا. ووضعه على الأول موضع الضمير، للتسجيل عليهم بأنهم ظلموا بالإشراك وعدلوا عن طريق الحق. والجملة تذييل مقرر لما قبله. وهو إما من تمام كلام عيسى عليه السلام، وإما وارد من جهته تعالى، تأكيدا لمقالته عليه السلام، وتقريرا لمضمونها. أفاده أبو السعود.

[ ص: 2098 ] ثم بين تعالى كفر طائفة أخرى منهم بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[73] لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم

لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة أي: أحد ثلاثة آلهة، بمعنى واحد منها، وهم الله ومريم وعيسى.

وقال بعضهم: كانت فرقة منهم تسمى (كولي ري دينس) تقول: الآلهة ثلاثة: الأب والابن ومريم.

وجاء في كتاب "علم اليقين": أن فرقة منهم تسمى (المريميين) قال: يعتقدون أن المريم والمسيح إلهان. قال: وكذلك البربرانيون وغيرهم. انتهى.

وأسلفنا عن ابن إسحاق أن نصارى نجران، منهم من قال بهذا أيضا.

أو المعنى: أحد ثلاثة أقانيم كما اشتهر عنهم. أي: هو جوهر واحد، ثلاثة أقانيم: أب وابن وروح القدس. وزعموا، أن الأب إله والابن إله والروح إله والكل إله واحد. كما قدمنا عنهم في قوله تعالى: ولا تقولوا ثلاثة

قال الرازي رحمه الله: واعلم أن هذا معلوم البطلان ببديهة العقل؛ فإن الثلاثة لا تكون واحدا، والواحد لا يكون ثلاثة. ولا يرى في الدنيا مقالة أشد فسادا وأظهر بطلانا من مقالة النصارى. انتهى.

وقد صنفت عدة مصنفات في تزييف معتقدهم هذا، وهي شهيرة متداولة، والحمد لله.

لطيفة:

اتفق النحاة واللغويون على أن معنى قولهم (ثالث ثلاثة ورابع أربعة) ونحو ذلك أحد هذه الأعداد مطلقا. لا الوصف بالثالث والرابع.

[ ص: 2099 ] وفي "التوضيح وشرحه": لك في اسم الفاعل المصوغ من لفظ اثنين وعشرة وما بينهما أن تستعمله على سبعة أوجه:

أحدها: - أن تستعمله مفردا عن الإضافة، ليفيد الاتصاف بمعناه. فتقول: ثالث ورابع. ومعناه حينئذ واحد موصوف بهذه الصفة وهي كونه ثالثا ورابعا.

الوجه الثاني: أن تستعمله مع أصله الذي صيغ هو منه، ليفيد أن الموصوف به بعض تلك العدة المعينة لا غير. فتقول: خامس خمسة أي: واحد من خمسة لا زائد عليها، ويجب حينئذ إضافته إلى أصله. كما يجب إضافة البعض إلى كله. ك: يد زيد، قال تعالى: إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين وقال تعالى: لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وزعم الأخفش وقطرب والكسائي وثعلب أنه يجوز إضافة الأول إلى الثاني، ونصبه إياه، فعلى هذا يجوز ثالث ثلاثة بجر (ثلاثة) ونصبها. كما يجوز في (ضارب زيد).

الوجه الثالث: - أن تستعمله مع ما دون أصله الذي صيغ منه بمرتبة واحدة، ليفيد معنى التصيير، فتقول: هذا رابع ثلاثة؛ أي: جاعل الثلاثة بنفسه أربعة، قال تعالى: ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم أي: إلا هو [ ص: 2100 ] مصيرهم أربعة ومصيرهم ستة. ويجوز حينئذ إضافته وإعماله، كما يجوز الوجهان في جاعل ومصير ونحوهما.

وانظر تتمة الأوجه.

وبما ذكرناه يعلم رد ما ذهب إليه الجامي في "شرح الكافية" من اعتبار الصفة في نحو (ثالث ثالثة) حيث قال في شرح قول ابن الحاجب: ثالث ثلاثة أي: أحدها. لكن لا مطلقا بل باعتبار وقوعه في المرتبة الثالثة. قال: وإلا يلزم جواز إرادة الواحد الأول من عاشر العشرة وذلك مستبعد جدا. انتهى.

فكتب عليه بعض المحققين ما نصه: الظاهر من عبارة (التوضيح) ومن كلام المصنف أنه لا يعتبر الوقوع في المرتبة الثانية أو الثالثة وهكذا.. إذ يبعد في الآيتين كون المراد ب (ثاني اثنين وثالث ثلاثة) كونه في المرتبة الثانية أو الثالثة بل المراد أنه بعض تلك العدة، بلا نظر لكونه في المرتبة الثانية والثالثة. إلا أن يكون هذا باعتبار الوضع، وإن كان الاستعمال بخلافه. ولذا كتب العلامة عبد الحكيم على قوله (وذلك مستبعد جدا) أي: عند العقل، وإلا فالاستعمال بخلافه. انتهى.

وما من إله في نص الإنجيل والتوراة وجميع الكتب السماوية ودلائل العقل: إلا إله واحد لا يتعدد أفرادا ولا أجزاء: وإن لم ينتهوا عما يقولون من هذا الافتراء والكذب، بعد ظهور الدلالة القطعية، متمسكين بمتشابهات الإنجيل التي أوضحتها محكماته: ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم في الآخرة. من عذاب الحريق والأغلال والنكال. قال الزمخشري: ولم يقل: (ليمسنهم) لأن في إقامة الظاهر مقام المضمر فائدة. وهي تكرير الشهادة عليهم بالكفر في قوله: لقد كفر الذين قالوا وفي البيان فائدة أخرى وهي الإعلام في تفسير: الذين كفروا منهم أنهم بمكان من الكفر.
[ ص: 2101 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[74] أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم

أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه بالتوحيد والتنزيه عما نسبوه إليه من الاتحاد والحلول، فيرجعوا عن التمسك بالمتشابهات إلى القطعيات، فالاستفهام لإنكار الواقع واستبعاده، فيه تعجيب من إصرارهم. ومدار الإنكار والتعجيب عدم الانتهاء والتوبة معا. أو معناه: ألا يتوبون - بعد هذه الشهادة المكررة عليهم بالكفر وهذا الوعيد الشديد - مما هم عليه. فمدارهما عدم التوبة عقب تحقق ما يوجبها من سماع تلك القوارع الهائلة.

قال ابن كثير: هذا من كرمه تعالى وجوده ولطفه ورحمته بخلقه. مع هذا الذنب العظيم، وهذا الافتراء والكذب والإفك، يدعوهم إلى التوبة والمغفرة. فكل من تاب إليه تاب عليه. كما قال: والله غفور رحيم فيغفر لهؤلاء إن تابوا، ولغيرهم.

قال أبو السعود: الجملة حالية من فاعل: يستغفرونه مؤكدة للإنكار والتعجيب من إصرارهم على الكفر وعدم مسارعتهم إلى الاستغفار. أي: والحال أنه تعالى مبالغ في المغفرة. فيغفر لهم عند استغفارهم، ويمنحهم من فضله.

ثم أشار تعالى إلى بطلان التمسك بمعجزات عيسى وكرامات أمه على إلهيتهما. بأن غايتهما الدلالة على نبوته وولايتها، استنزالا لهم عن الإصرار على ما تقولوا عليهما، وإرشادا لهم إلى التوبة والاستغفار فقال:
القول في تأويل قوله تعالى:

[75] ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون

ما المسيح أي: المعلوم حدوثه من كونه: ابن مريم بالخوارق الظاهرة على [ ص: 2102 ] يديه. إلا رسول قد خلت أي: مضت: من قبله الرسل أولو الخوارق الباهرة. فله أسوة أمثاله. كما قال تعالى: إن هو إلا عبد أنعمنا عليه أي: ما هو إلا رسول من جنس الرسل الذين خلوا قبله، جاء بآيات من الله كما أتوا بأمثالها. إن أبرأ الله الأبرص وأحيا الموتى على يده، فقد أحيا العصا وجعلها حية تسعى وفلق بها البحر على يد موسى. وهو أعجب. وإن خلقه من غير أب فقد خلق آدم من غير أب ولا أم. وهو أغرب منه، وفي الآية وجه آخر: أي: مضت من قبله الرسل، فهو يمضي مثلهم. فالجملة - على كل - منبئة عن اتصافه بما ينافي الألوهية: وأمه صديقة أي: مبالغة في الصدق. ووقع اسم الصديقة عليها لقوله تعالى: وصدقت بكلمات ربها وكتبه والوصف بذلك مشعر بالإغراق في العبودية والقيام بمراسمها. فمن أين لهم أن يصفوها بما يباين وصفها؟

تنبيه:

قال ابن كثير:

دلت الآية على أن مريم ليست بنبية. كما زعمه ابن حزم وغيره - ممن ذهب إلى نبوة سارة أم إسحاق ونبوة أم موسى ونبوة أم عيسى - استدلالا منهم بخطاب الملائكة لسارة ومريم وبقوله: وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه وهذا معنى النبوة. والذي عليه الجمهور أن الله لم يبعث نبيا إلا من الرجال. قال الله تعالى: وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى وقد حكى الشيخ أبو الحسن الأشعري، رحمه الله، الإجماع على ذلك. انتهى.

[ ص: 2103 ] فائدة (في حقيقة الصديق والصدق):

قال العارف القاشاني قدس الله سره في "لطائف الأعلام":

الصديق الكثير الصدق. كما يقال: سكيت وصريع إذا كثر منه ذلك.

الصديق من الناس من كان كاملا في تصديقه لما جاءت به رسل الله علما وعملا، قولا وفعلا وليس يعلو على مقام الصديقية إلا مقام النبوة. بحيث إن من تخطى مقام الصديقية حصل في مقام النبوة. قال الله تعالى:أولئك الذين أنعم الله عليهم الآية. فلم يجعل تعالى بين مرتبتي النبوة والصديقية مرتبة أخرى تتخللهما. ثم بين قدس سره صدق الأقوال، وصدق الأفعال، وصدق الأحوال.

فالأول: هو موافقة الضمير للنطق. قال الجنيد: حقيقة الصدق أن تصدق في مواطن لا ينجيك فيه إلا الكذب. وصدق الأفعال: هو الوفاء لله بالعمل من غير مداهنة. قال المحاسبي: الصادق هو الذي لا يبالي لو خرج كل قدر له في قلوب الخلق من أجل إصلاح قلبه. ولا يحب اطلاع الناس على مثاقيل الذر من حسن عمله. ولا يكره أن يطلع الناس على السيئ من حاله؛ لأن كراهته لذلك دليل على أنه يجب الزيادة عندهم. وليس هذا من أخلاق الصديقين.

وصدق الأحوال: اجتماع الهم على الحق، بحيث لا يختلج في القلب بفرقة عن الحق بوجه.

وقوله تعالى: كانا يأكلان الطعام استئناف مبين لما قبله من أنهما كسائر البشر في الافتقار إلى الغذاء. وفيه تبعيد عما نسب إليهما.

قال الزمخشري: لأن من احتاج إلى الاغتذاء بالطعام، وما يتبعه من الهضم والنفض، لم يكن إلا جسما مركبا من عظم ولحم وعروق وأعصاب وأخلاط وأمزجة، مع شهوة وقرم وغير ذلك... مما يدل على أنه مصنوع مؤلف مدبر كغيره من الأجسام.

[ ص: 2104 ] لطيفة:

إنما أخر في الاستدلال على بطلان مذهب النصارى، حاجتهما للطعام عما قبله من مساواتهما للرسل عليهم السلام، ترقيا في باب الاستدلال من الجلي للأجلى، على ما هو القاعدة في سوق البراهين لإلزام الخصم، حتى إذا لم يسلم في الجلي لغموضه عليه، يورد له الأجلى تعريضا بغباوته. فيضطر للتسليم، إن لم يكن معاندا ولا مكابرا.

هذا ما ظهر لي في سر التقديم والتأخير.

وأما قول الخفاجي - ملخصا كلام البيضاوي - في سر ذلك: أنه تعالى بين أولا أقصى مراتب كمالهما، وأنه لا يقتضي الألوهية، وقدمه لئلا يواجههما بذكر نقائص البشرية الموجبة لبطلان ما ادعوا فيهما، على حد قوله تعالى: عفا الله عنك لم أذنت لهم حيث قدم العفو على المعاتبة له صلى الله عليه وسلم. انتهى - فبعيد.

وقياسه على الآية قياس مع الفارق لاختلاف المقامين. فالأظهر ما ذكرناه، والله أعلم بأسرار كتابه.

انظر كيف نبين لهم الآيات أي: على توحيد الله، وبطلان الاتحاد وإلهية عيسى وأمه، وبطلان شبهاتهم!: ثم انظر أنى يؤفكون أي: كيف يصرفون عن التأمل فيها إلى الإصرار على التمسك بالشبهات الظاهرة البطلان!

قال أبو السعود: وتكرير الأمر بالنظر، للمبالغة في التعجيب من حال الذين يدعون لهما الربوبية، ولا يرعوون عن ذلك، بعد ما بين لهم حقيقة حالهما بيانا لا يحوم حوله شائبة ريب، وثم لإظهار ما بين العجبين من التفاوت. أي: إن بياننا للآيات أمر بديع في بابه، بالغ لأقاصي الغايات القاصية من التحقيق والإيضاح. وإعراضهم عنها - مع انتفاء ما يصححه بالمرة، وتعاضد ما يوجب قبولها - أعجب وأبدع.
[ ص: 2105 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[76] قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم

قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا هذا دليل آخر على فساد قول النصارى، والموصول كناية عن عيسى وأمه، أي: لا يستطيعان أن يضراكم بمثل ما يضركم به الله من البلايا والمصائب في الأنفس والأموال. ولا أن ينفعاكم بمثل ما ينفعكم به من صحة البدن والسعة والخصب. ولأن كل ما يستطيعه البشر من المضار والمنافع، فبإقدار الله وتمكينه، فكأنهما لا يملكان منه شيئا. وإيثار (ما) على (من) لتحقيق ما هو المراد من كونهما بمعزل من الألوهية رأسا. ببيان انتظامهما في سلك الأشياء التي لا قدرة لها على شيء أصلا; أي: وصفة الرب أن يكون قادرا على كل شيء لا يخرج مقدور عن قدرته. وإنما قدم (الضر) لأن التحرز عنه أهم من تحري النفع والله هو السميع العليم بالأقوال والعقائد. فيجازي عليها إن خيرا فخير وإن شرا فشر، فهو وعد ووعيد.

تنبيهات:

الأول: جعل ابن كثير الخطاب في قوله تعالى: أتعبدون عاما للنصارى وغيرهم، أي: قل لهؤلاء العابدين غير الله من سائر فرق بني آدم.

وفي "تنوير المقباس" أن (ما) عبارة عن الأصنام خاصة.

وكلاهما مما يأباه السباق والسياق.

الثاني: قال في "فتح البيان": إذا كان هذا في حق عيسى النبي، فما ظنك بولي من الأولياء؟ فإنه أولى بذلك.

الثالث: جعل أكثر المفسرين (ما) كناية عن عيسى عليه السلام فقط، والمقام أنها كناية عنه وعن أمه عليهما السلام، كما أوضحه المهايمي واعتمدناه.

[ ص: 2106 ] الرابع: دلت الآية على جواز الحجاج في الدين; فإن كان مع الكفار وأهل البدع، فذلك ظاهر الجواز; وإن كان مع المؤمن جاز بشرط أن يقصد إرشاده إلى الحق، لا إن قصد العلو فمحظور. وحكي عن الشافعي أنه كان إذا جادل أحدا قال: اللهم ألق الحق على لسانه. أفاده بعض الزيدية.

ولما أقام تعالى الأدلة القاهرة على بطلان ما تقوله النصارى، أرشدهم إلى اتباع الحق ومجانبة الغلو الباطل، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[77] قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل

قل يا أهل الكتاب أي: الذي هو ميزان العدل: لا تغلوا في دينكم غير الحق أي: لا تتجاوزوا الحد في تعظيم عيسى وأمه، وترفعوهما عن رتبتهما إلى ما تقولتم عليهما من العظيمة، فأدخلتم في دينكم اعتقادا غير الحق بلا دليل عليه، مع تظاهر الأدلة على خلافه. ونصب (غير) أنه صفة لمصدر محذوف، أي: غلوا غير الحق. يعني غلوا باطلا. أو حال من ضمير الفاعل أي: مجاوزين الحق. و (الغلو) نقيض التقصير، ومعناه الخروج عن الحد; وذلك لأن الحق بين طرفي الإفراط والتفريط، ودين الله بين الغلو والتقصير.

تنبيه:

دلت الآية على أن الغلو في الدين غلوان: (غلو حق) كأن يفحص عن حقائقه ويفتش عن أباعد معانيه ويجتهد في تحصيل حججه; و (غلو باطل) وهو أن يتجاوز الحق ويتخطاه بالإعراض عن الأدلة واتباع الشبه.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 46.91 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 46.29 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.34%)]