عرض مشاركة واحدة
  #7  
قديم 20-11-2022, 11:13 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,740
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ المائدة
المجلد السادس
صـ 2081 الى صـ 2093
الحلقة (307)






ولكن لما كان بينه وبينهم قدر مشترك في الكفر، هابوه واحترموه. فلما مات عمه أبو طالب نال منه المشركون أذى يسيرا. ثم قيض الله له الأنصار فبايعوه على الإسلام، وعلى أن يتحمل إلى دارهم، وهي المدينة. فلما صار إليها منعوه من الأحمر والأسود. وكلما هم أحد من المشركين وأهل الكتاب بسوء كاده الله ورد [ ص: 2081 ] كيده عليه. كما كاده اليهود بالسحر، فحماه الله منهم وأنزل عليه سورتي المعوذتين دواء لذلك الداء. ولما سمه اليهود في ذراع الشاة بخيبر، أعلمه الله به وحماه منه. ولهذا أشباه كثيرة جدا يطول ذكرها. فمن ذلك ما ذكره المفسرون عند هذه الآية الكريمة:

فقال ابن جرير: حدثنا الحارث، حدثنا عبد العزيز، حدثنا أبو معشر، حدثنا محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل منزلا اختار له أصحابه شجرة ظليلة، فيقيل تحتها. فأتاه أعرابي فاخترط سيفه ثم قال: من يمنعك مني؟ قال: الله عز وجل. فرعدت يد الأعرابي وسقط السيف منه. قال: وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه، فأنزل الله عز وجل: والله يعصمك من الناس

وروى ابن أبي حاتم عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بني [ ص: 2082 ] أنمار، نزل ذات الرقاع بأعلى نخل. فبينا هو جالس على رأس بئر قد دلى رجليه، فقال الوارث من بني النجار: لأقتلن محمدا. فقال له أصحابه: كيف تقتله؟ قال أقول له: أعطني سيفك، فإذا أعطانيه قتلته به. قال: فأتاه فقال: يا محمد! أعطني سيفك أشيمه. فأعطاه إياه. فرعدت يده حتى سقط السيف من يده. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حال الله بينك وبين ما تريد» . فأنزل الله عز وجل: يا أيها الرسول بلغ ما أنـزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس .

قال ابن كثير: وهذا حديث غريب من هذا الوجه. ثم قال: وقصة غورث بن الحارث مشهورة في الصحيح. يريد ما أخرجه الشيخان عن جابر قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد. فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركتهم القائلة في واد كثير العضاه. فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرق الناس يستظلون بالشجر. فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة. فعلق بها سيفه ونمنا معه نومة. فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا. وإذا عنده أعرابي فقال: «إن هذا اخترط علي سيفي وأنا نائم. فاستيقظت وهو في يده صلتا. فقال من يمنعك مني؟ فقلت: الله. ثلاثا. » ولم يعاقبه وجلس.

وفي رواية أخرى قال جابر: كنا مع رسول الله بذات الرقاع. فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فجاء رجل من المشركين، وسيف رسول الله صلى الله عليه [ ص: 2083 ] وسلم معلق بالشجرة. فاخترطه فقال: تخافني؟ فقال لا! فقال: من يمنعك مني؟ قال: الله. فتهدده أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وزاد البخاري في رواية له: إن اسم ذلك الرجل غورث بن الحارث. وروى ابن مردويه عن أبي هريرة قال: كنا إذا صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر تركنا له أعظم شجرة وأظلها. فينزل تحتها. فنزل ذات يوم تحت شجرة وعلق سيفه فيها. فجاء رجل فأخذه فقال: يا محمد! من يمنعك مني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله يمنعني منك. ضع السيف. فوضعه. فأنزل الله عز وجل: والله يعصمك من الناس وكذا رواه ابن حبان. في "صحيحه".

وروى الإمام أحمد عن جعدة بن خالد بن الصمة قال: «سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، ورأى رجلا سمينا، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يومئ إلى بطنه بيده ويقول: لو كان هذا في غير هذا لكان خيرا لك. قال: وأتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل فقالوا: هذا أراد أن يقتلك. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لم ترع، لم ترع. ولو أردت ذلك لم يسلطك الله علي» .

الثالث: «كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول هذه الآية يحرس، كما روى الإمام أحمد عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سهر ذات ليلة وهي إلى جنبه، قالت: فقلت: ما شأنك يا رسول الله؟ قال: ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسني الليلة! قالت: فبينا أنا على ذلك إذ سمعت صوت السلاح فقال: من هذا؟ فقال: أنا سعد بن مالك. فقال: ما جاء بك؟ قال: جئت لأحرسك يا رسول الله، قال: فسمعت غطيط رسول الله صلى الله عليه وسلم في نومه» . أخرجاه في "الصحيحين".

[ ص: 2084 ] وفي لفظ: سهر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة مقدمه المدينة، يعني على أثر هجرته بعد دخوله بعائشة، وكان ذلك في سنة ثنتين منها.

وعن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس ليلا حتى نزلت: والله يعصمك من الناس فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من القبة فقال لهم: أيها الناس! انصرفوا؛ فقد عصمني الله» . أخرجه الترمذي والحاكم وابن أبي حاتم وابن جرير.

وقد روى ابن جرير عن ابن عباس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس. فكان أبو طالب يرسل إليه كل يوم رجالا من بني هاشم يحرسونه. حتى نزلت عليه هذه الآية: يا أيها الرسول بلغ ما أنـزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس قال: فأراد عمه أن يرسل معه من يحرسه فقال: إن الله قد عصمني من الجن والإنس» . ورواه الطبراني أيضا. وروى ابن جرير نحوه أيضا عن جابر.

قال ابن كثير: وهذا حديث غريب وفيه نكارة. فإن هذه الآية مدنية، بل هي من أواخر ما نزل بها، وهذا الحديث يقتضي أنها مكية، والله أعلم! انتهى.

أقول: بمراجعة ما أسلفنا في "المقدمة" من قاعدة أسباب النزول يرتفع الإشكال، فتذكر.

[ ص: 2085 ] الرابع: قال العلامة أبو السعود: إيراد هذه الآية الكريمة في تضاعيف الآيات الواردة في حق أهل الكتاب، لما أن الكل قوارع يسوء الكفار سماعها. ويشق على الرسول صلى الله عليه وسلم مشافهتهم بها، وخصوصا ما يتلوها من النص الناعي عليهم كمال ضلالتهم. ولذلك أعيد الأمر فقيل خطابا للفريقين:
القول في تأويل قوله تعالى:

[68] قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنـزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما أنـزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين

قل يا أهل الكتاب لستم على شيء أي: من الدين: حتى تقيموا التوراة والإنجيل أي: تراعوهما وتحافظوا على ما فيهما من الأمور التي من جملتها دلائل نبوة النبي صلى الله عليه وسلم واتباعه.

قال بعض المحققين:

معنى قوله تعالى: حتى تقيموا التوراة والإنجيل أي: تعملوا طبق الواجب بأحكامهما، وتحيوا شرائعهما، وتطيعوا أوامرهما، وتنتهوا بنواهيهما. فإن الإقامة هي الإتيان بالعمل على أحسن أوجهه، كإقامة الصلاة مثلا. أي: فعلها على الوجه اللائق بها. ولا يدخل في ذلك القصص التي فيهما ولا العقائد ونحوها فإنها ليست عملية. والمراد أن يعملوا بما بقي عندهم من أحكام التوراة والإنجيل على علاته وعلى ما به من نقص وتحريف وزيادة. فإن شرائع هذه الكتب وأوامرها ونواهيها هي أقل أقسامها تحريفا، وأكثر التحريف في القصص والأخبار والعقائد وما ماثلها، وهي لا تدخل في الأمر بالإقامة. ولا شك أن أحكام التوراة والإنجيل وما فيهما من شرائع ومواعظ ونصائح ونحوها، لا تزال فيهما أشياء كثيرة لا عيب [ ص: 2086 ] فيها، ونافعة للبشر وفيها هداية عظمى للناس، فهي مما يدخل تحت قوله تعالى: وأنـزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس فإذا أقام أهل الكتاب أحكامهما على علاتها كانوا لا شك على شيء يعتد به ويصح أن يسمى دينا. وإذا لم يقيموها وجروا على خلافهما، كانوا مجردين من كل شيء يستحق أن يسمى دينا. وكانوا مشاغبين معاندين، وبدينهم غير مؤمنين إيمانا كاملا. وهذا معنى صحيح، وهو المتبادر من الآية. فأي شيء في هذا المعنى يدل على عدم تحريف التوراة والإنجيل وعلى وجودهما كاملين، كما يدعي ذلك المكابرون من أهلهما، وخصوصا بعد قوله تعالى: ونسوا حظا مما ذكروا به

ثم قال: ولك أن تقول: معنى قوله تعالى: لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل الحقيقيين. وذلك يستلزم البحث والتنقيب والجد والاجتهاد في نقد ما عندهم منهما نقدا عقليا تاريخيا صحيحا، حتى يستخلصوا حقهما من باطلهما بقدر الإمكان، ونتيجة ذلك العناء كله، أن يكونوا على شيء من الدين الحق، وهذا أمر لا شبهة فيه. ولو اتبعوا القرآن لأراحوا واستراحوا. ولكنهم - كما أخبر تعالى عنهم - لا يزيدهم القرآن إلا طغيانا وكفرا حسدا وعنادا فلا يؤمنون به. ولا يهتم جمهورهم بإصلاح دينهم من المفاسد وتنقيته من الشوائب. فلم يدركوا خير هذا ولا ذاك. فكأن الآية تريهم أنهم إذا لم يتبعوا القرآن يجب عليهم القيام بعبء ثقيل جدا من البحث والتمحيص، وبعد ذلك يكونون على شيء من الحق لا على الحق [ ص: 2087 ] كله ولو أقاموا التوراة والإنجيل الحقيقيين غاية الإقامة، فما بالك إذا كان ذلك مستحيلا لعدم وجودهما على حقيقتهما؟ فهم ليسوا على شيء مطلقا. ولا يمكن أن يكونوا عليه. فإن كتبهم قد صارت خلقة بالية. لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه، حينما رأى ورقة من التوراة بيده: ألم آتكم بها بيضاء نقية؟ والله لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي.

(فإن قيل): وكيف يحثهم الله على العمل بأي شيء من دينهم، ومنه ما جاء القرآن ناسخا له؟ (قلت): لا شك عند كل عاقل أنه خير لأهل الكتاب أن يعملوا بشرائع دينهم الأصلية؛ فإنهم حينئذ يتجنبون الكذب والتحريف والعناد والأذى والإفساد في الأرض وإهلاك الحرث والنسل والزنى، وغير ذلك مما يعلمه الناس. فمراد القرآن على التفسير الأول للآية حثهم - إن أصروا على عدم الإيمان به - على العمل بدينهم على الأقل ليستريح النبي وأتباعه من أكثر شرورهم ورذائلهم. ولكن بعد العمل بدينهم لا يكونون على الدين الحق الكامل; بل الذي يفهم من الآية أنهم يكونون على شيء من الدين، وهو - ولا شك - خير من لا شيء. ولا يفهم أنهم يكونون على الحق كله وعلى الدين الكامل الذي لا غاية أعظم منه، فإن ذلك لا يكون إلا بالإسلام: أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون انتهى.

ولا يخفى أنهم إذا أقاموا التوراة والإنجيل، آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم. لما تتقاضى إقامتهما الإيمان به. إذ كثر ما جاء فيهما من البشارات به والتنويه باسمه ودينه. فإقامتهما على وجوههما تستدعي الإسلام البتة، بل هي هو، والله الموفق.

وما أنـزل إليكم من ربكم أي: القرآن المجيد بالإيمان به. وفي التعبير بقوله تعالى: لستم على شيء من التحقير والتصغير ما لا غاية وراءه. كما تقول: هذا ليس بشيء! تريد غاية تحقيره وتصغير شأنه. وفي أمثالهم: أقل من لا شيء. أي: لستم على دين يعتد به حتى يسمى شيئا، لفساده وبطلانه.

[ ص: 2088 ] ثم بين تعالى غلوهم في العناد وعدم إفادة التبليغ فقال: وليزيدن كثيرا منهم ما أنـزل إليك من ربك طغيانا أي: تماديا: وكفرا أي: ثباتا على الكفر: فلا تأس على القوم الكافرين أي: فإذا بالغت في تبليغ ما أنزل إليك، فرأيت مزيد طغيانهم وكفرهم، فلا تحزن عليهم لغاية خبثهم في ذواتهم، فإن ضرر ذلك راجع إليهم لا إليك، وفي المؤمنين غنى عنهم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[69] إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون

إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم فيما يستقبلهم من العذاب: ولا هم يحزنون أي: في الآخرة إذا خاف المقصرون وحزنوا على تضييع العمر.

لطائف:

الأول: (الصابئون) رفع على الابتداء. وخبره محذوف. والنية به التأخير عما في حيز (إن) من اسمها وخبرها. كأنه قيل: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمهم كذا. والصائبون كذلك، وأنشد سيبويه شاهدا له:


وإلا فاعلموا أنا وأنتم بغاة ما بقينا في شقاق


[ ص: 2089 ] أي: فاعلموا أنا بغاة، وأنتم كذلك. ثم قال الزمخشري: فإن قلت: ما التقديم والتأخير إلا لفائدة، فما فائدة التقديم؟ قلت: فائدة التنبيه على أن الصابئين يتاب عليهم إن صح منهم الإيمان والعمل الصالح. فما الظن بغيرهم؟ وذلك أن الصابئين أبين هؤلاء المعدودين ضلالا وأشدهم غيا، وما سموا صابئين إلا لأنهم صبئوا عن الأديان كلها. أي: خرجوا. كما أن الشاعر قدم قوله: (وأنتم) تنبيها على أن المخاطبين أوغل في الوصف بالبغاة من قومه. مع كونهم أوغل فيه منهم وأثبت قدما. انتهى.

قال الناصر في "الانتصاف":

ثمة سؤال، وهو أن يقال: لو عطف (الصابئين) ونصبه - كما قرأ ابن كثير - لأفاد أيضا دخولهم في جملة المتوب عليهم، ولفهم من تقديم ذكرهم على (النصارى) ما يفهم من [ ص: 2090 ] الرفع من أن هؤلاء الصابئين - وهم أوغل الناس في الكفر - يتاب عليهم، فما الظن بالنصارى؟ ولكان الكلام جملة واحدة بليغا مختصرا، والعطف إفرادي. فلم عدل إلى الرفع وجعل الكلام جملتين؟ وهو يمتاز بفائدة على النصب والعطف الإفرادي؟ ويجاب عن هذا السؤال بأنه لو نصبه وعطفه لم يكن فيه إفهام خصوصية لهذا الصنف. لأن الأصناف كلها معطوف بعضها على بعض عطف المفردات. وهذا الصنف من جملتها، والخبر عنها واحد. وأما مع الرفع فينقطع عن العطف الإفرادي وتبقى بقية الأصناف مخصصة بالخبر المعطوف به. ويكون خبر هذا الصنف المنفرد بمعزل. تقديره مثلا (والصابئون كذلك) فجيء كأنه مقيس على بقية الأصناف وملحق بها. وهو بهذه المثابة؛ لأنهم لما استقر بعد الأصناف من قبول التوبة، فكانوا أحقاء بجعلهم تبعا وفرعا مشبهين بمن هم أقعد منهم بهذا الخبر، وفائدة التقديم على الخبر المحذوف من ذكره، بعد تقضي الكلام وتمامه، والله أعلم.

الثانية: - فإن قلت: إن قوله تعالى: من آمن منهم كيف يقع خبرا عن: الذين آمنوا أو بدلا، وهو يقتضي انقسام المؤمنين إلى مؤمنين وغير مؤمنين؟

أجيبك بأن المراد ب: الذين آمنوا الذي آمنوا باللسان فقط. وهم المنافقون. فالمعنى: الذين آمنوا باللسان ومن معهم، من أحدث منهم إيمانا خالصا. أو يؤول: من آمن بمن ثبت على الإيمان. فيصح في حق المؤمنين الخلص. وفي هذا شبه جمع بين الحقيقة والمجاز، ودفع بأن الثبات على الإيمان ليس غير الإيمان، بل هو وإحداثه فردان من مطلقه. والوجه الأول؛ إذ في ضم المؤمنين إلى الكفرة إخلال بتكريمهم، قاله الخفاجي.

قال أبو السعود: أما على تقدير كون المراد ب: الذين آمنوا مطلق المتدينين بدين الإسلام، المخلصين منهم والمنافقين فالمراد ب: من آمن من اتصف منهم بالإيمان الخالص على الإطلاق، سواء كان ذلك بطريق الثبات والدوام عليه - كما هو شأن المخلصين. أو بطريق [ ص: 2091 ] إحداثه وإنشائه - كما هو حال من عداهم من المنافقين وسائر الطوائف. وفائدة التعميم للمخلصين المبالغة في ترغيب الباقين في الإيمان، ببيان أن تأخرهم في الاتصاف به غير مخل بكونهم أسوة لأولئك الأقدمين الأعلام. انتهى.

الثالثة: قال الرازي: لما بين تعالى أن أهل الكتاب ليسوا على شيء ما لم يؤمنوا، بين أن هذا الحكم عام في الكل، وأنه لا يحصل لأحد فضيلة ولا منقبة إلا إذا آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا، وذلك لأن الإنسان له قوتان: القوة النظرية والقوة العملية. أما كمال القوة النظرية فليس إلا بأن يعرف الحق. وأما كمال القوة العملية فليس إلا بأن يعمل الخير. وأعظم المعارف شرفا معرفة أشرف الموجودات وهو الله سبحانه وتعالى. وكمال معرفته إنما يحصل بكونه قادرا على الحشر والنشر، فلا جرم كان أفضل المعارف هو الإيمان بالله واليوم الآخر. وأفضل الخيرات في الأعمال أمران: المواظبة على الأعمال المشعرة بتعظيم المعبود، والسعي في إيصال النفع إلى الخلق. ثم بين تعالى أن كل من أتى بهذا الإيمان وبهذا العمل، فإنه يرد يوم القيامة من غير خوف ولا حزن. والفائدة في ذكرهما: أن الخوف يتعلق بالمستقبل، والحزن بالماضي، فقال: فلا خوف عليهم بسبب ما يشاهدون من أهوال القيامة: ولا هم يحزنون بسبب ما فاتهم من طيبات الدنيا؛ لأنهم وجدوا أمورا أعظم وأشرف وأطيب. (فإن قيل): كيف يمكن خلو المكلف، الذي لا يكون معصوما، عن أهوال يوم القيامة؟ فالجواب من وجهين:

الأول: - أنه تعالى شرط ذلك بالعمل الصالح. ولا يكون آتيا بالعمل الصالح إلا إذا كان تاركا لجميع المعاصي.

والثاني: أنه إذا حصل خوف، فذلك عارض قليل لا يعتد به. انتهى.

ثم بين تعالى بعضا آخر من جناياتهم المنادية باستبعاد الإيمان منهم بقوله:
[ ص: 2092 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[70] لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون

لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل أي: على الإيمان بالله ورسله: وأرسلنا إليهم رسلا ليقفوهم على ما يأتون وما يذرون في دينهم: كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم أي: بما يخالف هواهم ويضاد شهواتهم من الأحكام الحقة. مع أن وضع الرسالة، الدعوة إلى مخالفة الهوى: فريقا منهم: كذبوا مع ظهور دلائل صدقهم: وفريقا يقتلون بعد التكذيب سدا لدعوتهم إلى ما يخالف أهويتهم.

لطيفتان:

الأولى: قال الزمخشري: جواب الشرط محذوف يدل عليه قوله: فريقا كذبوا وفريقا يقتلون كأنه قيل: كلما جاءهم رسول منهم ناصبوه.

قال الناصر في "الانتصاف": ومما يدل على حذف الجواب أنه جاء ظاهرا في الآية الأخرى، وهي توأمة هذه، قوله تعالى: أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون فأوقع قوله: استكبرتم جوابا. ثم فسر استكبارهم وصنيعهم بالأنبياء بقتل البعض وتكذيب البعض. فلو قدر الزمخشري ههنا الجواب المحذوف مثل المنطوق به في أخت الآية فقال: وأرسلنا إليهم رسلا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم استكبروا، لكان أولى، لدلالة مثله عليه.

[ ص: 2093 ] الثانية: قال الزمخشري: فأن قلت: لم جيء بأحد الفعلين ماضيا وبالآخر مضارعا؟ قلت: جيء: يقتلون على حكاية الحال الماضية استفظاعا للقتل واستحضارا لتلك الحال الشنيعة، للتعجيب منها.

قال في "الانتصاف": أو يكون حالا على حقيقته؛ لأنهم داروا حول قتل محمد صلى الله عليه وسلم. وقد قيل هذا الوجه في أخت هذه الآية في (البقرة); وقد مضى وجه اقتضاء صيغة الفعل المضارع لاستحضاره دون الماضي، وتمثيله بقوله تعالى: ألم تر أن الله أنـزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير فعدل عن (فأصبحت) إلى (فتصبح) تصويرا للحال واستحضارا لها في ذهن السامع، ومنه:


بأني قد لقيت الغول تهوي بسهب كالصحيفة صحصحان

فأضربها بلا دهش فخرت
صريعا لليدين وللجران


وأمثاله كثيرة. انتهى.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 44.87 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 44.24 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.40%)]