
11-11-2022, 11:13 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,554
الدولة :
|
|
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (391)
سُورَةُ النُّورِ
صـ 387 إلى صـ 394
ومما يؤيده أن جميع الروايات التي يفهم منها اشتراط الأربع كلها في قصة ماعز ، وقد دلت روايات حديثه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يدري أمجنون هو أم لا ؟ صاح هو أو سكران ؟ بدليل قوله له في الحديث المتفق عليه المذكور آنفا " : أبك جنون " ؟ وسؤاله - صلى الله عليه وسلم - لقومه عن عقله ، وسؤاله - صلى الله عليه وسلم - " : أشرب خمرا " ؟ فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح خمر ، وكل [ ص: 387 ] ذلك ثابت في الصحيح ، وهو دليل قوي على الجمع بين الأحاديث كما ذكرنا ، والعلم عند الله تعالى .
فروع تتعلق بهذه المسألة
الفرع الأول : اعلم أن الظاهر اشتراط التصريح بموجب الحد الذي هو الزنى تصريحا ينفي كل احتمال ; لأن بعض الناس قد يطلق اسم الزنى على ما ليس موجبا للحد .
ويدل لهذا قوله - صلى الله عليه وسلم - لماعز لما قال : إنه زنى ، " لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت " ؟ قال : لا ، قال " : أفنكتها " ؟ - لا يكني - ، قال : نعم ، قال : فعند ذلك أمر برجمه ، وهذا ثابت في صحيح البخاري وغيره من حديث ابن عباس ، ويؤخذ منه التعريض للزاني بأن يستر على نفسه ، ويستغفر الله فإنه غفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا .
الفرع الثاني : اعلم أنه إذا تمت شهادة الشهود الأربعة بالزنى فصدقهم الزاني المشهود عليه ، بأن أقر أنه زنى مرة واحدة فصارت الشهادة تامة ، والإقرار غير تام عند من يشترط أربعا .
فأظهر قولي أهل العلم عندي : أن الحد يقام عليه لكمال البينة خلافا لمن زعم أنه لا يقام عليه الحد ; لأن شرط صحة البينة الإنكار ، وهذا غير منكر .
وقال ابن قدامة في " المغني " : إن سقوط الحد بإقراره مرة قول أبي حنيفة اهـ ، وكذلك لو تمت عليه شهادة البينة وأقر على نفسه أربع مرات ، ثم رجع عن إقراره ، فلا ينفعه الرجوع لوجوب الحد عليه بشهادة البينة ، فلا حاجة لإقراره ولا فائدة في رجوعه عنه ، والعلم عند الله تعالى .
الفرع الثالث : اعلم أن أظهر قولي أهل العلم عندي : أنه إذا أقر بزنى قديم قبل إقراره ، ولا يبطل الإقرار بأنه لم يقر إلا بعد زمن طويل ; لأن الظاهر اعتبار الإقرار مطلقا ، سواء تقادم عهده ، أو لم يتقادم ، وكذلك شهادة البينة ، فإنها تقبل ، ولو لم تشهد إلا بعد طول الزمن ; لأن عموم النصوص يقتضي ذلك ، لأنها ليس فيها التفريق بين تعجيل الشهادة وتأخيرها ، خلافا لأبي حنيفة ومن وافقه في قولهم : إن الإقرار يقبل بعد زمن طويل والشهادة لا تقبل مع التأخير .
وقال ابن قدامة في " المغني " : وإن شهدوا بزنى قديم أو أقر به وجب الحد ، وبهذا [ ص: 388 ] قال مالك ، والأوزاعي ، والثوري ، واسحاق ، وأبو ثور .
وقال أبو حنيقة : لا أقبل بينة على زنى قديم وأحده بالإقرار به ، وهذا قول ابن حامد ، وذكره ابن أبي موسى مذهبا لأحمد ، اهـ منه .
أما قبول الإقرار بالزنا القديم ووجوب الحد به فلا وجه للعدول عنه بحال ; لأنه مقر على نفسه ، ولا يتهم في نفسه .
وأما شهادة البينة بزنا قديم ، فالأظهر قبولها ، لعموم النصوص كما ذكرنا آنفا ، وحجة أبي حنيفة ، ومن وافقه في رد شهادة البينة على زنا قديم ، هو أن تأخير الشهادة ، يدل على التهمة فيدرأ ذلك الحد .
وقال في " المغني " : ومن حجتهم على ذلك ما روي عن عمر ، أنه قال : أيما شهود شهدوا بحد لم يشهدوا بحضرته فهم شهود ضغن ، ثم قال : رواه الحسن مرسلا ، ومراسيل الحسن ليست بالقوية ، اهـ منه .
وقد قدمنا الكلام مستوفى على مراسيل الحسن ، والعلم عند الله تعالى .
الفرع الرابع : اعلم أنه إن أقر بأنه زنى بامرأة وسماها فكذبته ، وقالت : إنه لم يزن بها .
فأظهر أقوال أهل العلم عندي : أنه يجب عليه حد الزنى بإقراره ، وحد القذف أيضا ; لأنه قذف المرأة بالزنا ولم يأت بأربعة شهود فوجب عليه حد القذف .
وقال في " المغني " : وقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف : لا حد عليه ، لأنا صدقناها في إنكارها فصار محكوما بكذبه .
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : وجوب الحد عليه بإقراره لا ينبغي العدول عنه ، ولا يمكن أن يصح خلافه لأمرين :
الأول : أنه أقر على نفسه بالزنا إقرارا صحيحا ، وقولهم إننا صدقناها ليس بصحيح ، بل نحن لم نصدقها ، ولم نقل إنها صادقة ، ولكن انتفاء الحد عنها إنما وقع لأنها لم تقر ، ولم تقم عليها بينة ; فعدم حدها لانتفاء مقتضيه ، لا لأنها صادقة كما ترى .
الأمر الثاني : ما رواه أبو داود في سننه : حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، ثنا طلق بن غنام ، [ ص: 389 ] ثنا عبد السلام بن حفص ، ثنا أبو حازم ، عن سهل بن سعد ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أن رجلا أتاه ، فأقر عنده أنه زنى بامرأة سماها له ، فبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المرأة فسألها عن ذلك ، فأنكرت أن تكون زنت فجلده الحد وتركها ، اهـ منه ، وعبد السلام المذكور في هذا الإسناد وثقه ابن معين ، وتوثيقه له أولى من قول أبي حاتم الرازي : إنه غير معروف ; لأن من حفظ حجة على من لم يحفظ .
والحديث المذكور نص في أن المقر يقام عليه الحد وهو واضح ; لأن من أقر على نفسه بالزنا لا نزاع في وجوب الحد عليه ، وأما كونه يحد مع ذلك حد القذف فظاهر أيضا ، ويدل عليه عموم قوله تعالى : والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ، الآية [ 24 \ 4 ] والأخذ بعموم النصوص واجب ، إلا بدليل مخصص يجب الرجوع إليه ، وكون حديث سهل بن سعد الساعدي الذي ذكرناه آنفا عند أبي داود ليس فيه أن النبي حد الرجل المذكور حد القذف ، بل حد الزنا فقط لا يعارض به عموم النصوص .
وقال الشوكاني في " نيل الأوطار " : وحده للزنا والقذف معا هو الظاهر ، لوجهين :
الأول : أن غاية ما في حديث سهل : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحد ذلك الرجل للقذف وذلك لا ينتهض للاستدلال به على السقوط ; لاحتمال أن يكون ذلك لعدم الطلب من المرأة أو لوجود مسقط ، إلى أن قال : الوجه الثاني : أن ظاهر القذف العموم فلا يخرج من ذلك إلا ما خرج بدليل ، وقد صدق على كل من كان كذلك أنه قاذف ، اهـ منه ، وهو الظاهر الذي لا ينبغي العدول عنه ، وكذلك ما جاء في بعض روايات حديث ماعز بن مالك أنه عين الجارية التي زنا بها ، ولم يحده النبي - صلى الله عليه وسلم - لقذفها بل حده للزنا فقط ، فإن ترك حده لم يوجه بما قدمنا قريبا .
وعلى كل حال فمن قال : زنيت بفلانة فلا شك أنه مقر على نفسه بالزنا ، وقاذف لها هي به ، وظاهر النصوص مؤاخذته بإقراره على نفسه ، وحده أيضا حد القذف ; لأنه قاذف بلا شك ، كما ترى .
ومما يؤيد هذا المذهب ما رواه أبو داود في سننه : حدثنا محمد بن يحيى بن فارس ، ثنا موسى بن هارون البردي ، ثنا هشام بن يوسف ، عن القاسم بن فياض الأبناوي ، [ ص: 390 ] عن خلاد بن عبد الرحمن ، عن ابن المسيب ، عن ابن عباس : أن رجلا من بني بكر بن ليث أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأقر أنه زنى بامرأة أربع مرات ، فجلده مائة وكان بكرا ، ثم سأله البينة على المرأة ، فقالت : كذب والله يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجلده حد الفرية ثمانين، اهـ .
فإن قيل : هذا الحديث ضعيف ، لأن في إسناده القاسم بن فياض الأبناوي الصنعاني ، قال فيه ابن حجر في التقريب : مجهول ، وقال فيه الذهبي في " الميزان " : ضعفه غير واحد منهم عباس عن ابن معين ، فالجواب من وجهين :
الأول : أن القاسم المذكور قال فيه أبو داود : ثقة ، كما نقله عنه الذهبي في الميزان ، والتعديل يقبل مجملا ، والتجريح لا يقبل مجملا ، كما تقدم .
الثاني : أن حديث ابن عباس هذا الذي فيه الجمع بين حد القذف ، وحد الزنا إن قال : أنه زنى بامرأة عينها فأنكرت ، معتضد اعتضادا قويا بظواهر النصوص الدالة على مؤاخذته بإقراره ، والنصوص الدالة على أن من قذف امرأة بالزنى ، فأنكرت ولم يأت ببينة أنه يحد حد القذف .
فالحاصل : أن أظهر الأقوال عندنا أنه يحد حد القذف وحد الزنا ، وهو مذهب مالك ، وقد نص عليه في المدونة خلافا لمن قال يحد حد الزنا فقط ، كأحمد والشافعي ، ولمن قال : يحد حد القذف فقط ، ويؤيد هذا المذهب الذي اخترناه في هذه المسألة ما قاله مالك وأصحابه : من أن الرجل لو قال لامرأة : زنيت ، فقالت له : زنيت بك أنها تحد للقذف وللزنا معا ، ولا يحد الرجل لهما لأنها صدقته ، والعلم عند الله تعالى .
الفرع الخامس : اعلم أنه لا يصح إقرار المكره ، فلو أكره الرجل بالضرب أو غيره من أنواع التعذيب ليقر بالزنا فأقر به مكرها لم يلزمه إقراره به فلا يحد ، ولا يثبت عليه الزنا ، ولا نعلم من أهل العلم من خالف في هذا ، والعلم عند الله تعالى .
المسألة الثالثة : اعلم أنا قد قدمنا ثبوت الزنا بالبينة والإقرار ، ولا خلاف في ثبوته بكل واحد منهما إن وقع على الوجه المطلوب ، أما ظهور الحمل بامرأة ، لا يعرف لها زوج ولا سيد ، فقد اختلف العلماء في ثبوت الحد به ، فقال بعض أهل العلم : الحبل في التي لا يعرف لها زوج ولا سيد يثبت عليها به الزنا ، ويجب عليها الحد به ، وقد ثبت هذا في حديث عمر - رضي الله عنه - الذي قدمناه في قوله : إذا قامت البينة أو كان الحبل ، [ ص: 391 ] أو الاعتراف . والحديث المذكور في الصحيحين وغيرهما كما تقدم ، وقد صرح فيه أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - ، بأن الحبل الذي هو الحمل يثبت به الزنا كما يثبت بالبينة والإقرار ، وممن ذهب إلى أن الحبل يثبت به الزنا ، عمر - رضي الله عنه - كما رأيت ، ومالك وأصحابه ، وذهب الشافعي وأحمد وأبو حنيفة وجماهير أهل العلم إلى أنه لا يثبت الزنا ولا يجب الحد بمجرد الحبل ، ولو لم يعرف لها زوج ولا سيد ، وهذا القول عزاه النووي في شرح مسلم للشافعي ، وأبي حنيفة ، وجماهير أهل العلم ، وإذا عرفت أقوال أهل العلم في هذه المسألة ، فهذه أدلتهم .
أما الذين قالوا : إن الزنا يثبت بالحمل ، إن لم يكن لها زوج ولا سيد ، فقد احتجوا بحديث عمر المتفق عليه المتقدم وفيه التصريح من عمر بأن الحبل يثبت به الزنا ، كالبينة والإقرار .
وقال ابن قدامة في " المغني " : إنما قال من قال : بوجوب الحد وثبوت الزنا بالحمل ، لقول عمر - رضي الله عنه - ، والرجم واجب على كل من زنى من الرجال والنساء ، إذا كان محصنا ، إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف ، وروي أن عثمان أوتي بامرأة ولدت لستة أشهر فأمر بها عثمان أن ترجم ، فقال علي : ليس لك عليها سبيل ، قال الله : وحمله وفصاله ثلاثون شهرا [ 46 \ 15 ] ، وهذا يدل على أنه كان يرجمها بحملها وعن عمر نحو هذا ، وروي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال : يا أيها الناس إن الزنا زناءان : زنا سر ، وزنا علانية ، فزنا السر : أن يشهد الشهود ، فيكون الشهود أول من يرمي ، وزنا العلانية : أن يظهر الحبل أو الاعتراف ، فيكون الإمام أول من يرمي ، وهذا قول سادة الصحابة ولم يظهر في عصرهم مخالف ، فيكون إجماعا ، انتهى محل الغرض من " المغني " .
وانظر أسانيد الآثار التي ذكرها عن الصحابة ، هذا هو حاصل ما احتج به من قال : إن الزنا يثبت بالحمل .
وأما الذين قالوا : إن الحمل وحده لا يثبت به الزنا ، ولا يجب به الحد ، بل لا بد من البينة أو الإقرار ، فقد قال في " المغني " : حجتهم أنه يحتمل أن الحمل من وطء إكراه أو شبهة يسقط بالشبهات ، وقد قيل : إن المرأة تحمل من غير وطء بأن يدخل ماء الرجل في فرجها ، إما بفعلها ، أو فعل غيرها ، ولهذا تصور حمل البكر فقد وجد ذلك .
وأما قول الصحابة ، فقد اختلفت الرواية عنهم فروى سعيد : حدثنا خلف بن خليفة ، [ ص: 392 ] حدثنا هاشم : أن امرأة رفعت إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، ليس لها زوج ، وقد حملت فسألها عمر ، فقالت : إنني امرأة ثقيلة الرأس وقع علي رجل ، وأنا نائمة فما استيقظت حتى فرغ ، فدرأ عنها الحد ، وروى البراء بن صبرة ، عن عمر أنه أوتي بامرأة حامل ، فادعت أنها أكرهت ، فقال : خل سبيلها ، وكتب إلى أمراء الأجناد ، ألا يقتل أحد إلا بإذنه .
وروي عن علي وابن عباس أنهما قالا : إذا كان في الحد لعل وعسى فهو معطل ، وروى الدارقطني بإسناده عن عبد الله بن مسعود ، ومعاذ بن جبل ، وعقبة بن عامر - رضي الله عنهم أنهم - قالوا : إذا اشتبه عليك الحد فادرأ ما استطعت ، ولا خلاف في أن الحد يدرأ بالشبهات ، وهي متحققة هنا ، اهـ بلفظه من " المغني " .
وانظر أيضا أسانيد هذه الآثار التي ذكرها عن الصحابة ، وهذا الذي ذكر هو حاصل ما احتج به الجمهور الذين قالوا إن الحبل لا يثبت به الزنا .
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أظهر قولي أهل العلم عندي : أن الزنا لا يثبت بمجرد الحبل ، ولو لم يعرف لها زوج ولا سيد ; لأن الحمل قد يقع لا شك من غير وطء في الفرج ، بل قد يطأ الرجل المرأة في فخذيها ، فتتحرك شهوتها فينزل ماؤها وينزل الرجل ، فيسيل ماؤه فيدخل في فرجها ، فيلتقي ماؤه بمائها فتحمل من غير وطء وهذا مشاهد لا يمكن إنكاره .
ولأجل ذلك فالأصح أن الزوج إذا كان يطأ امرأته في الفخذين ، ولم يجامعها في الفرج فظهر بها حمل أنه لا يجوز له اللعان لنفي ذلك الحمل ; لأن ماءه قد يسيل إلى فرجها ، فتحمل منه ، وقول عمر - رضي الله عنه - : إذا كان الحبل أو الاعتراف اجتهاد منه ; لأنه يظهر له - رضي الله عنه - أن الحمل يثبت به الزنا كالاعتراف والبينة .
وإنما قلنا : إن الأظهر لنا خلاف قوله - رضي الله عنه - ، لأنا نعلم أن وجود الحمل لا يستلزم الوطء في الفرج بل قد تحبل بدون ذلك ، وإذا كان الحبل لا يستلزم الوطء في الفرج فلا وجه لثبوت الزنا ، وإقامة الحد بأمر محتمل غير مستلزم لموجب الحد ، كما ترى .
ومن المعلوم أن الحدود تدرأ بالشبهات ، هذا هو الأظهر عندنا ، والعلم عند الله تعالى .
فروع تتعلق بهذه المسألة .
[ ص: 393 ] الفرع الأول : اعلم أن الذين قالوا : بوجوب الحد بالحمل قالوا : إن تلك الحامل إن كانت طارئة من بلاد أخرى ، وادعت أن حملها من زوج لها تركته في بلدها فلا حد عليها عندهم ، ولا يثبت عليها الزنا بذلك الحمل .
الفرع الثاني : اعلم أنه إن ظهر بها حمل فادعت أنها مكرهة لا يقبل دعواها الإكراه عند من يثبت الزنا بالحمل إلا إذا اعتضدت دعواها بما يقويها من القرائن كإتيانها صارخة مستغيثة ممن فعل بها ذلك ، وكأن تأتي متعلقة برجل تزعم أنه هو الذي أكرهها وكأن تشتكي من الذي فعل بها ذلك قبل ظهور الحمل .
وقال بعض علماء المالكية : إن كانت شكواها من الرجل الذي فعل بها ذلك مشبهة لكون الرجل الذي ادعت عليه غير معروف بالصلاح ، فلا حد عليها ، وإن كان الذي ادعت عليه معروفا بالصلاح ، والعفاف ، والتقوى حدث ولم يقبل قولها عليه .
وقال بعض المالكية : إن لم تسم الرجل الذي ادعت أنه أكرهها تعزر ، ولا تحد إن كانت معروفة بالصلاح والعفاف .
الفرع الثالث : قال الشيخ الحطاب في شرحه لقول خليل في مختصره المالكي : أو مكرهة ، ما نصه : قال في الطراز أو في أواخر الجزء الثالث في ترجمة تفسير الطلاق ، وما يلزم من ألفاظه ، قال ابن عبد الغفور : ويقال إن عبد الله بن عيسى سئل عن جارية بكر زوجها فابتنى بها زوجها فأتت بولد لأربعة أشهر ، فذكر ذلك لها فقالت : إني كنت نائمة فانتبهت لبلل بين فخذي ، وذكر الزوج أنه وجدها عذراء .
فأجاب فيها : أنها لا حد عليها إذا كانت معروفة بالعفاف ، وحسن الحال ، ويفسخ النكاح ، ولها المهر كاملا ، إلا أن تكون علمت الحمل ، وغرت فلها قدر ما استحل منها ، انتهى من الاستغناء ، انتهى كلام الطراز ، انتهى ما نقله الحطاب ، وهو يؤيد أن الحمل قد يقع من غير وطء يوجب الحد كما ذكرنا ، والعلم عند الله تعالى .
المسألة الرابعة : اعلم أن من ثبت عليه الزنا وهو محصن ، اختلف أهل العلم فيه ، فقال بعضهم : يجلد مائة جلدة أولا ثم يرجم بعد ذلك ، فيجمع له بين الجلد والرجم ، وقال بعضهم : يرجم فقط ولا يجلد ; لأن غير القتل يندرج في القتل ، وممن قال بالجمع بينهما علي - رضي الله عنه - ، وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد ، قال ابن قدامة في [ ص: 394 ] " المغني " : وبه قال ابن عباس ، وأبي بن كعب ، وأبو ذر ، ذكر ذلك عبد العزيز عنهما واختاره ، وبه قال الحسن ، وإسحاق ، وداود ، وابن المنذر ، وممن قال بأنه يرجم فقط ولا يجلد مع الرجم مالك ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، والنخعي ، والزهري ، والأوزاعي ، واختاره أبو إسحاق ، الجوزجاني ، وأبو بكر الأثرم ، ونصراه في سننهما وهو رواية عن الإمام أحمد وهو مروي عن عمر ، وعثمان ، وابن مسعود ، قال ذلك كله ابن قدامة في " المغني " ، وهذا القول الأخير الذي هو الاقتصار على الرجم عزاه النووي في شرح مسلم لجماهير العلماء .
وفي المسألة قول ثالث : وهو ما حكاه القاضي عياض ، عن طائفة من أهل الحديث ، وهو أنه يجب الجمع بينهما إذا كان الزاني شيخا ثيبا فإن كان شابا ثيبا اقتصر على الرجم .
وإذا علمت أقوال أهل العلم في هذه المسألة فهذه تفاصيل أدلتهم ، أما الذين قالوا : يجمع للزاني المحصن بين الجلد والرجم ، فقد احتجوا بأدلة .
منها : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صرح بالجمع بينهما للزاني المحصن تصريحا ثابتا عن ثبوت لا مطعن فيه .
قال مسلم بن الحجاج - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا يحيى بن يحيى التميمي ، أخبرنا هشيم ، عن منصور ، عن الحسن ، عن حطان بن عبد الله الرقاشي ، عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " : خذوا عني ، خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة ، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم " ، وهذا تصريح منه - صلى الله عليه وسلم - بأن الثيب وهو المحصن يجلد مائة ويرجم ، وهذا اللفظ أخرجهمسلم أيضا بإسناد آخر ، وفي لفظ في صحيح مسلم " : الثيب جلد مائة ثم رجم بالحجارة " ، وهو تصريح من النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجمع بينهما ، وفي لفظ عند مسلم أيضا " : والثيب يجلد ويرجم " ، وهذه الروايات الثابتة في الصحيح فيها تصريحه - صلى الله عليه وسلم - بالجمع بين الجلد والرجم .
ومن أدلتهم على الجمع بينهما : أن عليا - رضي الله عنه - جلد شراحة الهمدانية يوم الخميس ، ورجمها يوم الجمعة ، وقال : جلدتها بكتاب الله ، ورجمتها بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|