عرض مشاركة واحدة
  #392  
قديم 11-11-2022, 11:11 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,520
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (390)
سُورَةُ النُّورِ
صـ 379 إلى صـ 386




ولا شك أن مثل هذا السؤال أحوط في الدفع عن أعراض المسلمين ; لأنهم إن كانوا [ ص: 379 ] صادقين لم يختلفوا ، وإن كانوا كاذبين علم كذبهم باختلافهم ، وقد قدمنا ما يستأنس به لتفرقة شهود الزنى ، وسؤالهم متفرقين في قصة سليمان وداود في المرأة التي شهد عليها أربعة ، أنها زنت بكلبها فرجمها داود فجاء سليمان بالصبيان ، وجعل منهم شهودا ، وفرقهم وسألهم متفرقين عن لون الكلب الذي زنت به ، فأخبر كل واحد منهم بلون غير اللون الذي أخبر به الآخر ، فأرسل داود للشهود ، وفرقهم وسألهم متفرقين عن لون الكلب الذي زنت به ، فاختلفوا في لونه ; كما تقدم إيضاحه .

واعلم أن كل ما يثبت به الرجم يثبت به الجلد فطريق ثبوتهما متحدة لا فرق بينهما ، كما لا يخفى .
الفرع الخامس : اعلم أنه إذا شهد اثنان أنه زنى بها في هذا البيت ، واثنان أنه زنى بها في بيت آخر ، أو شهد كل اثنين عليه بالزنى في بلد غير البلد الذي شهد عليه فيه صاحباهما ، أو اختلفوا في اليوم الذي وقع فيه الزنى ، فقد اختلف أهل العلم هل تقبل شهادتهم ، نظرا إلى أنهم أربعة شهدوا بالزنى ، أو لا تقبل ; لأنه لم يشهد أربعة على زنى واحد ، فكل زنى شهد عليه اثنان ، ولا يثبت زنى باثنين .

قال ابن قدامة في " المغني " : الجميع قذفة وعليهم الحد ، وبهذا قال مالك ، والشافعي ، واختار أبو بكر أنه لا حد عليهم ، وبه قال النخعي وأبو ثور وأصحاب الرأي ، لأنهم كملوا أربعة ، ولنا أنه لم يكمل أربعة على زنى واحد ، فوجب عليهم الحد كما لو انفرد بالشهادة اثنان وحدهما ، فأما المشهود عليه ، فلا حد عليه في قولهم جميعا ، وقال أبو بكر : عليه الحد ، وحكاه قولا لأحمد ، وهذا بعيد ، فإنه لم يثبت زنى واحد بشهادة أربعة ، فلم يجب الحد ; ولأن جميع ما تعتبر له البينة يعتبر فيه كمالها في حق واحد ، فالموجب للحد أولى ; لأنه مما يحتاط فيه ويدرأ بالشبهات ; وقد قال أبو بكر : إنه لو شهد اثنان أنه زنى بامرأة بيضاء ، وشهد اثنان أنه زنى بسوداء فهم قذفة ، ذكره القاضي عنه وهذا ينقض قوله ، انتهى منه ، ثم قال : وإن شهد اثنان أنه زنى بها في زاوية بيت ، وشهد اثنان أنه زنى بها في زاوية منه أخرى ، وكانت الزاويتان متباعدتين ، فالقول فيهما كالقول في البيتين وإن كانتا متقاربتين كملت شهادتهم ، وحد المشهود عليه ، وبه قال أبو حنيفة ، وقال الشافعي : لا حد عليه ; لأن شهادتهم لم تكمل ، ولأنهم اختلفوا في المكان ، فأشبه ما لو اختلفوا في البيتين ، وعلى قول أبي بكر تكمل شهادتهم ، سواء تقاربت الزاويتان ، أو تباعدتا ، ولنا أنهما [ ص: 380 ] إذا تقاربتا أمكن صدق الشهود ، بأن يكون ابتداء الفعل في إحداهما وتمامه في الأخرى أو ينسبه كل اثنين إلى إحدى الزاويتين لقربه منها فيجب قبول شهادتهم كما لو اتفقوا ، بخلاف ما إذا كانتا متباعدتين ، فإنه لا يمكن كون المشهود به فعلا واحدا .

فإن قيل : فقد يمكن أن يكون المشهود به فعلين ، فلم أوجبتم الحد مع الاحتمال ، والحد يدرأ بالشبهات ؟

قلنا : ليس هذا بشبهة ، بدليل ما لو اتفقوا على موضع واحد ، فإن هذا يحتمل فيه والحد واجب ، والقول في الزمان كالقول في هذا ، وأنه متى كان بينهما زمن متباعد لا يمكن وجود الفعل الواحد في جميعه ، كطرفي النهار لم تكمل شهادتهم ، ومتى تقاربا كملت شهادتهم ، انتهى من " المغني " .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : قد رأيت كلام أهل العلم في هذا الفرع ، والظاهر أنه لا تكمل شهادة الأربعة إلا إذا شهدوا على فعل واحد في مكان متحد ووقت متحد ; فإن اختلفوا في الزمان أو المكان حدوا ; لأنهما فعلان ، ولم يشهد على واحد منهما أربعة عدول ، فلم يثبت واحد منهما . والقول بتلفيق شهادتهم ، وضم شهادة بعضهم إلى شهادة بعض لا يظهر ، وقد علمت أن مالكا وأصحابه زادوا أن تكون شهادة الأربعة على إيلاج متحد ، فلو نظروا واحدا بعد واحد مع اتحاد الوقت والمكان لم تقبل عنده شهادتهم حتى ينظروا فرجه في فرجها نظرة واحدة في لحظة واحدة ، وله وجه .
الفرع السادس : إن شهد اثنان أنه زنى بها في قميص أبيض ، وشهد اثنان أنه زنى بها في قميص أحمر ، أو شهد اثنان أنه زنى بها في ثوب كتان ، وشهد اثنان أنه زنى بها في ثوب خز .

فقد اختلف أهل العلم هل تكمل شهادتهم أو لا ؟ فقال بعضهم : لا تكمل شهادتهم ; لأن كل اثنين منهما تخالف شهادتهما شهادة الاثنين الآخرين ، وممن روي عنه ذلك الشافعي ، وقال بعضهم : تكمل شهادتهم قائلا : إنه لا تنافي بين الشهادتين ; لإمكان أن يكون عليه قميصان فذكر كل اثنين أحد القميصين ، وتركا ذكر الآخر ، فيكون الجميع صادقين ; لأن أحد الثوبين الذي سكت عنه هذان هو الذي ذكره ذانك كعكسه ، فلا تنافي ، ويمكن أن يكون عليها هي قميص أحمر ، وعليه هو قميص أبيض كعكسه ، أو عليه هو ثوب كتان ، وعليها هي ثوب خز كعكسه ، فيمكن صدق الجميع ; وإذا أمكن صدقهم فلا [ ص: 381 ] وجه لرد شهادتهم ، وبهذا جزم صاحب المغني موجها له بما ذكرنا .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لنا في هذا الفرع هو وجوب استفسار الشهود ، فإن جزم اثنان بأن عليه ثوبا واحدا أحمر ، وجزم الآخران أن عليه ثوبا واحدا أبيض لم تكمل شهادتهم لتنافي الشهادتين ، وإن اتفقوا على أن عليه ثوبين مثلا أحدهما أحمر ، والثاني أبيض ، وذكر كل اثنين أحد الثوبين ، فلا إشكال في كمال شهادتهم ; لاتفاق الشهادتين ، وإن لم يمكن استفسار الشهود لموتهم ، أو غيبتهم غيبة يتعذر معها سؤالهم ، فالذي يظهر لي عدم كمال شهادتهم ; لاحتمال تخالف شهادتهما ، ومطلق احتمال اتفاقهما لا يكفي في إقامة الحد ; لأن الحد يدرأ بالشبهات ، فلا يقام بشهادة محتملة البطلان ، بل الظاهر من الصيغة اختلاف الشهادتين والعمل بالظاهر لازم ، ما لم يقم دليل صارف عنه يجب الرجوع إليه .

والذي يظهر أنهم إن لم تكمل شهادتهم يحدون حد القذف . أما في الشهادة المحتملة فإنه قبل إمكان استفسارهم ، فلا إشكال في عدم إمكان حدهم وإن أمكن استفسارهم ، فإن فسروا ، بما يقتضي كمال شهادتهم حد المشهود عليه بشهادتهم ، وإن فسروا بما يوجب بطلان شهادتهم ، فالظاهر أنهم يحدون حد القذف ; كما قدمنا ، والعلم عند الله تعالى .
الفرع السابع : إن شهد اثنان أنه زنى بها مكرهة ، وشهد اثنان أنه زنى بها مطاوعة ، فلا حد على المرأة إجماعا ; لأن الشهادة عليها لم تكمل على فعل موجب للحد ، وإنما الخلاف في حكم الرجل والشهود .

قال ابن قدامة في " المغني " : وفي الرجل وجهان :

أحدهما : لا حد عليه ، وهو قول أبي بكر ، والقاضي وأكثر الأصحاب ، وقول أبي حنيفة ، وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي ; لأن البينة لم تكمل على فعل واحد ، فإن فعل المطاوعة غير فعل المكرهة ، ولم يتم العدد على كل واحد من الفعلين ، ولأن كل شاهدين منهما يكذبان الآخرين ، وذلك يمنع قبول الشهادة ، أو يكون شبهة في درء الحد ولا يخرج عن أن يكون قول واحد منهما مكذبا للآخر إلا بتقدير فعلين تكون مطاوعة في أحدهما ، مكرهة في الآخر ، وهذا يمنع كون الشهادة كاملة على فعل واحد ، ولأن شاهدي المطاوعة قاذفان لها ، ولم تكمل البينة عليها ، فلا تقبل شهادتهما على غيرها .

[ ص: 282 ] والوجه الثاني : أنه يجب الحد عليه ، اختاره أبو الخطاب ، وهو قول أبي يوسف ومحمد ، ووجه ثان للشافعي ; لأن الشهادة كملت على وجود الزنى منه ، واختلافهما إنما هو في فعلها لا في فعله ، فلا يمنع كمال الشهادة عليه .

وفي الشهود ثلاثة أوجه :

أحدها : لا حد عليهم ، وهو قول من أوجب الحد على الرجل بشهادتهم .

والثاني : عليهم الحد لأنهم شهدوا بالزنى ، ولم تكمل شهادتهم فلزمهم الحد ، كما لو لم يكمل عددهم .

والثالث : يجب الحد على شاهدي المطاوعة ، لأنهما قذفا المرأة بالزنى ، ولم تكمل شهادتهم عليها ، ولا تجب على شاهدي الإكراه لأنهما لم يقذفا المرأة ، وقد كملت شهادتهم على الرجل ، وإنما انتفى عنه الحد للشبهة .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : قد رأيت خلاف أهل العلم في هذا الفرع ، وأظهر أقوالهم عندي فيه : أن الرجل والمرأة لا حد على واحد منهما ، وأن على الشهود الأربعة حد القذف ، أما نفي الحد عن المرأة ، فلا خلاف فيه ، ووجهه ظاهر ; لأنها لم تكمل عليها شهادة بالزنى ، وأما نفي الحد عن الرجل ; فلأن الاثنين الشاهدين بالمطاوعة يكذبان الشاهدين بالإكراه كعكسه ، وإذا كان كل اثنين من الأربعة يكذبان الآخرين في الحالة التي وقع عليها الفعل لم تكمل شهادتهم على فعل واحد ، فلم تكمل على الرجل شهادة على حالة زنى واحد ; لأن الإكراه والطوع أمران متنافيان ، وإذا لم تكمل عليه شهادة بفعل واحد على حالة واحدة فعدم حده هو الأظهر ، أما وجه حد الشهود ، فلأن الشاهدين على المرأة بأنها زنت مطاوعة للرجل قاذفان لها بالزنى ، ولم تكمل شهادتهما عليها فحدهما لقذفهما المرأة ظاهر جدا ; ولأن الشاهدين بأنه زنى بها مكرهة قاذفان للرجل بأنه أكرهها فزنى بها ، ولم تكمل شهادتهم ; لأن شاهدي الطوع مكذبان لهما في دعواهما الإكراه فحدهما لقذفهما للرجل ولم تكمل شهادتهما عليه ظاهر ، أما كون الأربعة قد اتفقت شهادتهم على أنه زنى بها ، فيرده أن كل اثنين منهما يكذبان الآخرين في الحالة التي وقع عليها الزنى ، هذا هو الأظهر عندنا من كلام أهل العلم في هذا الفرع ، والعلم عند الله تعالى .

[ ص: 283 ] ومن المعلوم أن كل ما يثبت به الرجم على المحصن يثبت به الجلد على البكر ، فثبوت الأمرين طريقه واحدة .
الفرع الثامن : اعلم أنه إن شهد أربعة عدول على امرأة أنها زنت وتمت شهادتهم على الوجه المطلوب ، فقالت إنها عذراء ، لم تزل بكارتها ونظر إليها أربع من النساء معروفات بالعدالة ، وشهدن بأنها عذراء لم تزل بكارتها بمزيل . فقد اختلف أهل العلم : هل تدرأ شهادة النساء عنها الحد أو لا ؟ فذهب مالك وأصحابه إلى أنها يقام عليها الحد ولا يلتفت لشهادة النساء ، وعبارة المدونة في ذلك : إذا شهد عليها بالزنى أربعة عدول ، فقالت : إنها عذراء ونظر إليها النساء ، وصدقنها لم ينظر إلى قولهن وأقيم عليها الحد . انتهى بواسطة نقل المواق في شرحه لقول خليل في مختصره ، وبالبينة فلا يسقط بشهادة أربع نسوة ببكارتها ، وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن شهادة النساء ببكارتها تدرأ عنها الحد ، وهو مذهب الإمام أحمد . قال ابن قدامة في " المغني " : وبه قال الشعبي ، والثوري ، والشافعي ، وأبو ثور ، وأصحاب الرأي ووجه قول مالك وأصحابه بأنها يقام عليها الحد ، هو أن الشهادة على زناها تمت بأربعة عدول ، وأن شهادة النساء لا مدخل لها في الحدود ، فلا تسقط بشهادتهن شهادة الرجال عليها بالزنى ، ووجه قول الآخرين بأنها لا تحد هو أن بكارتها ثبتت بشهادة النساء ، ووجود البكارة مانع من الزنى ظاهرا ; لأن الزنى لا يحصل بدون الإيلاج في الفرج ، ولا يتصور ذلك مع بقاء البكارة ، لأن البكر هي التي لم توطأ في قبلها ، وإذا انتفى الزنى لم يجب الحد ، كما لو قامت البينة بأن المشهود عليه الزنى مجبوب .

وقال ابن قدامة في " المغني " : ويجب أن يكتفى بشهادة امرأة واحدة ; لأنها مقبولة فيما لا يطلع عليه الرجال ، يعني البكارة المذكورة ، انتهى ، وأما الأربعة الذين شهدوا بالزنى فلا حد عليهم لتمام شهادتهم وهي أقوى من شهادة النساء بالبكارة .

وقال صاحب " المغني " : وإنما لم يجب الحد عليهم لكمال عدتهم ، مع احتمال صدقهم لأنه يحتمل أن يكون وطئها ، ثم عادت عذرتها ، فيكون ذلك شبهة في درء الحد عنهم ، وأما إن شهدت بينة على رجل بالزنى فثبت ببينة أخرى أنه مجبوب ، أو شهدت بينة على امرأة بالزنى فثبت ببينة أخرى أنها رتقاء ، فالظاهر وجوب حد القذف على بينة الزنى ، لظهور كذبها ; لأن المجبوب من الرجال والرتقاء من النساء لا يمكن حصول الزنى من واحد منهما ، كما هو معلوم .
[ ص: 284 ] المسألة الثانية : اعلم أن العلماء أجمعوا على ثبوت الزنى ، ووجوب الحد رجما كان أو جلدا بإقرار الزاني والزانية ، ولكنهم اختلفوا هل يثبت الزنى بإقرار الزاني مرة واحدة ، أو لا يكفي ذلك حتى يقر به أربع مرات ؟ فذهب الإمام أحمد ، وأبو حنيفة ، وابن أبي ليلى ، والحكم : إلى أنه لا يثبت إلا إذا أقر به أربع مرات ، وزاد أبو حنيفة وابن أبي ليلى : أن يكون ذلك في أربع مجالس ، ولا تكفي عندهما الإقرارات الأربعة في مجلس واحد ، وذهب مالك ، والشافعي ، والحسن ، وحماد ، وأبو ثور ، وابن المنذر إلى أن الزنى يثبت بالإقرار مرة واحدة .

أما حجج من قال يكفي الإقرار به مرة واحدة ، فمنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأنيس في الحديث الصحيح المشهور : " واغد يا أنيس إلى امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها " ، فاعترفت فرجمها ، وفي رواية في الصحيح : فاعترفت فأمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجمت ، قالوا : فهذا الحديث المتفق عليه من حديث أبي هريرة ، وزيد بن خالد الجهني - رضي الله عنهما - ظاهر ظهورا واضحا في أن الزنى يثبت بالاعتراف به مرة واحدة ; لأن قوله - صلى الله عليه وسلم - فيه : " فإن اعترفت فارجمها " ، ظاهر في الاكتفاء بالاعتراف مرة واحدة ، إذ لو كان الاعتراف أربع مرات لا بد منه لقال له - صلى الله عليه وسلم - : فإن اعترفت أربع مرات فارجمها ، فلما لم يقل ذلك عرفنا أن المرة الواحدة تكفي ; لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة ، كما هو معلوم .

ومن أدلتهم على الاكتفاء بالاعتراف بالزنى مرة واحدة ما ثبت في الصحيح من حديث عمران بن حصين - رضي الله عنهما - : أن امرأة من جهينة أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي حبلى من الزنى ، فقالت : يا نبي الله ، أصبت حدا فأقمه علي ، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - وليها فقال : " أحسن إليها فإذا وضعت فأتني بها " ، ففعل فأمر بها النبي - صلى الله عليه وسلم - فشكت عليها ثيابها ثم أمر بها فرجمت ثم صلى عليها ، فقال له عمر : تصلي عليها يا نبي الله وقد زنت ؟ فقال : " لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم ، وهل وجدت توبة أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى " ، هذا لفظ مسلم في صحيحه ، وهو نص صحيح في أنه - صلى الله عليه وسلم - ، أمر برجمها بإقرارها مرة واحدة ; لأنها قالت : إني أصبت حدا ، مرة واحدة ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر برجمها من غير تعدد الإقرار ; لأن الحديث لم يذكر فيه إلا إقرارها مرة واحدة .

ومن أدلتهم على ذلك أيضا : ما ثبت في الصحيح من قصة الغامدية التي جاءت النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقالت : يا رسول - صلى الله عليه وسلم - إني قد زنيت فطهرني ، وأنه ردها ، فلما كان من الغد [ ص: 385 ] قالت : يا رسول الله ، لم تردني لعلك أن تردني كما رددت ماعزا ، فوالله إني لحبلى ، فقال : " أما لا فاذهبي حتى تلدي " ، فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة ، قالت : هذا قد ولدته ، قال : " اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه " ، فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز ، فقالت : هذا يا نبي الله ، قد فطمته وقد أكل الطعام ، فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها ، وأمر الناس فرجموها ، فيقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها فتنضح الدم على وجه خالد ، فسبها ، فسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - سبه إياها ، فقال : " مهلا يا خالد ، فوالذي نفسي بيده ، لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له " ، ثم أمر بها فصلي عليها ودفنت ، هذا لفظ مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن بريدة ، عن أبيه ، وهو من أصرح الأدلة على الاكتفاء بإقرار الزاني بالزنا مرة واحدة ; لأن الغامدية المذكورة لما قالت له - صلى الله عليه وسلم - : لعلك أن تردني كما رددت ماعزا ، لم ينكر ذلك عليها ، ولو كان الإقرار أربع مرات شرطا في لزوم الحد لقال لها إنما رددته ، لكونه لم يقر أربعا .

وقد قال الشوكاني في " نيل الأوطار " ، بعد ذكره لهذه الواقعة : وهذه الواقعة من أعظم الأدلة الدالة على أن تربيع الإقرار ، ليس بشرط للتصريح فيها ، بأنها متأخرة عن قضية ماعز ، وقد اكتفى فيها بدون أربع كما سيأتي ، اهـ منه .

وفي صحيح مسلم أيضا من حديث سليمان بن بريدة عن أبيه ، ما نصه : قال : ثم جاءته امرأة من غامد من الأزد ، فقالت : يا رسول الله طهرني ، فقال : " ويحك ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه " ، فقالت : أراك تريد أن تردني كما رددت ماعز بن مالك قال : " وما ذاك " ؟ قالت : إنها حبلى من الزنا ، فقال " : آنت " ؟ قالت : نعم ، فقال لها " : حتى تضعي ما في بطنك " ، قال : فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت ، قال : فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : قد وضعت الغامدية ، فقال " : إذا لا نرجمها وندع ولدها صغيرا ليس له من يرضعه " ، فقام رجل من الأنصار فقال : إلي رضاعه يا نبي الله ، قال : فرجمها ، اهـ منه .

وهذه الرواية كالتي قبلها في الدلالة على الاكتفاء بالإقرار مرة واحدة إلى غير ذلك من الأدلة الدالة على عدم اشتراط تكرر الإقرار بالزنا أربعا ، وأما حجة من قالوا : يشترط في ثبوت الإقرار بالزنا ، أن يقر به أربع مرات ، وأنه لا يجب عليه الحد إلا بالإقرار أربعا ، فهي ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - المتفق عليه ، قال : أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل من الناس وهو في المسجد ، فناداه : يا رسول الله إني زنيت ، يريد [ ص: 386 ] نفسه ، فأعرض عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - فتنحى لشق وجهه الذي أعرض قبله ، فقال : يا رسول الله إني زنيت ، فأعرض عنه ، فجاء لشق وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي أعرض عنه ، فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال " : أبك جنون " ؟ قال : لا يا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال " : أحصنت " ؟ قال : نعم ، قال " : اذهبوا فارجموه " ، الحديث ، هذا لفظ البخاري في صحيحه ، ولفظ مسلم : فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال " : أبك جنون " ؟ قال : لا ، قال " : فهل أحصنت " ؟ قال : نعم ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " : اذهبوا به فارجموه " اهـ .

قالوا : فهذا الحديث المتفق عليه فيه ترتيب الرجم على أربع شهادات على نفسه ، أي : أربع إقرارات بصيغة ترتيب الجزاء على الشرط ; لأن لما مضمنة معنى الشرط وترتيب الحد على الأربع ترتيب الجزاء على شرطه ، دليل على اشتراط الأربع المذكورة ، والرجل المذكور في هذا الحديث ، هو ماعز بن مالك وقصته مشهورة صحيحة ، وفي ألفاظ رواياتها ما يدل على أنه لم يرجمه ، حتى شهد على نفسه أربع شهادات ; كما رأيت في الحديث المذكور آنفا ، وقد علمت مما ذكرنا ما استدل به كل واحد من الفريقين .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أظهر قولي أهل العلم في هذه المسألة عندي : هو الجمع بين الأحاديث الدالة على اشتراط الأربع ، والأحاديث الدالة على الاكتفاء بالمرة الواحدة ; لأن الجمع بين الأدلة واجب متى ما أمكن ، لأن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما ، ووجه الجمع المذكور هو حمل الأحاديث التي فيها التراخي ، عن إقامة الحد بعد صدور الإقرار مرة على من كان أمره ملتبسا في صحة عقله ، واختلاله ، وفي سكره ، وصحوه من السكر ، ونحو ذلك ، وحمل أحاديث إقامة الحد بعد الإقرار مرة واحدة على من عرفت صحة عقله وصحوه من السكر ، وسلامة إقراره من المبطلات ، وهذا الجمع رجحه الشوكاني في " نيل الأوطار " .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 37.60 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 36.97 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.67%)]