عرض مشاركة واحدة
  #6  
قديم 11-11-2022, 10:51 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,565
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (384)
سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ
صـ 331 إلى صـ 338




فقوله : أنبت البقل لازم بمعنى : نبت ، وهذا هو الصواب في قراءة : ( تنبت ) بضم التاء ، خلافا لمن قال : إنها مضارع أنبت المتعدي : وأن المفعول محذوف أي : تنبت [ ص: 331 ] زيتونها ، وفيه الزيت . وقال ابن كثير : الطور : هو الجبل ، وقال بعضهم : إنما يسمى طورا إذا كان فيه شجر ، فإن عري عن الشجر ، سمي جبلا لا طورا ، والله أعلم . وطور سيناء : هو طور سنين ، وهو الجبل الذي كلم الله عليه موسى بن عمران - عليه السلام - ، وما حوله من الجبال ، التي فيها شجر الزيتون . اهـ محل الغرض من كلام ابن كثير .

وفي حديث أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي الأنصاري - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " كلوا الزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة " رواه أحمد ورواه الترمذي ، وغيره عن عمر ، والظاهر أنه لا يخلو من مقال ، وقال فيه العجلوني في كشف الخفاء ومزيل الإلباس رواه أحمد والترمذي وابن ماجه عن عمر وابن ماجه فقط عن أبي هريرة ، وصححه الحاكم على شرطهما ثم قال : وفي الباب عن جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - . اهـ منه ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون ، قد قدمنا الآيات الموضحة لمعنى هذه الآية ، وما يستفاد منها من الأحكام الفقهية في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى : وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه الآية [ 16 \ 66 ] مع بيان أوجه القراءة ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
قوله تعالى : وعليها وعلى الفلك تحملون ، الضمير في قوله : " عليها " راجع إلى الأنعام المذكورة في قوله : وإن لكم في الأنعام [ 23 \ 21 ] وقد بين تعالى في هذه الآية : أنه يحمل خلقه على الأنعام ، والمراد بها هنا الإبل ; لأن الحمل عليها هو الأغلب ، وعلى الفلك : وهي السفن ولفظ الفلك ، يطلق على الواحد والجمع من السفن ، وما ذكره تعالى في هذه الآية الكريمة من الامتنان على خلقه بما يسر لهم من الركوب والحمل ، على الأنعام والسفن جاء موضحا في آيات أخر كقوله تعالى : الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها ومنها تأكلون ولكم فيها منافع ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم وعليها وعلى الفلك تحملون [ 40 \ 79 - 80 ] وقوله في الأنعام : أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون [ 36 \ 71 - 72 ] وقوله فيها وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرءوف رحيم [ 16 \ 7 ] وقوله في [ ص: 332 ] الفلك والأنعام معا : والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون [ 43 \ 12 - 14 ] وقوله في السفن : وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون وخلقنا لهم من مثله ما يركبون [ 36 \ 41 - 42 ] وقوله : أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره [ 22 \ 65 ] وقوله تعالى : وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله [ 16 \ 14 ] والآيات بمثل هذا كثيرة ، وهذا من نعمه وآياته ، وقرن الأنعام بالفلك في الآيات المذكورة ; لأن الإبل سفائن البر ، كما قال ذو الرمة :
ألا خيلت مني وقد نام صحبتي فما نفر التهويم إلا سلامها طروقا وجلب الرحل مشدودة بها
سفينة بر تحت خدي زمامها
فتراه سمى ناقته سفينة بر وجلب الرحل بالضم والكسر عيدانه أو الرحل بما فيه :
قوله تعالى : ولقد أرسلنا نوحا إلى قوله وما يستأخرون ، قد تقدمت الإشارة إلى ما فيه من الآيات ، التي لها بيان في مواضع متعددة فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
قوله تعالى : ثم أرسلنا رسلنا تترى كل ما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم لا يؤمنون ، بين تعالى في هذه الآية الكريمة : أنه بعد إرسال نوح والرسول المذكور بعده أرسل رسله تترى أي : متواترين واحدا بعد واحد ، وكل متتابع متتال تسميه العرب متواترا ، ومنه قول لبيد في معلقته :
يعلو طريقة متنها متواتر في ليلة كفر النجوم غمامها


يعني : مطرا متتابعا ، أو غبار ريح متتابعا ، وتاء تترى مبدلة من الواو ، وأنه كل ما أرسل رسولا إلى أمة كذبوه فأهلكهم ، وأتبع بعضهم بعضا في الإهلاك المتسأصل بسبب تكذيب الرسل ، وهذا المعنى المذكور في هذه الآية الكريمة جاء موضحا في آيات كثيرة ، وقد بينت آية استثناء أمة واحدة من هذا الإهلاك المذكور .

أما الآيات الموضحة لما دلت عليه هذه الآية فهي كثيرة جدا ; كقوله تعالى : [ ص: 333 ] وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون [ 34 \ 34 ] ، وقوله تعالى : وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون [ 43 \ 23 ] ، وقوله تعالى : وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة الآية [ 7 \ 94 - 95 ] والآيات بمثل هذا كثيرة جدا .

أما الآية التي بينت استثناء أمة واحدة من هذه الأمم فهي قوله تعالى : فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا الآية [ 10 \ 98 ] ، وظاهر آية الصافات أنهم آمنوا إيمانا حقا ، وأن الله عاملهم به معاملة المؤمنين ، وذلك في قوله في الصفات وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون فآمنوا فمتعناهم إلى حين [ 37 \ 147 - 148 ] لأن ظاهر إطلاق قوله : فآمنوا ، يدل على ذلك والعلم عند الله تعالى .

ومن الأمم التي نص على أنه أهلكها وجعلها أحاديث سبأ ; لأنه تعالى قال فيهم : فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق الآية [ 34 \ 19 ] ، وقوله فجعلناهم أحاديث أي : أخبارا وقصصا يسمر بها ، ويتعجب منها ، كما قال ابن دريد في مقصورته :
وإنما المرء حديث بعده فكن حديثا حسنا لمن وعى


وقرأ هذا الحرف ابن كثير ، وأبو عمرو : تترا بالتنوين : وهي لغة كنانة ، والباقون بألف التأنيث المقصورة من غير تنوين : وهي لغة أكثر العرب ، وسهل نافع وابن كثير وأبو عمرو الهمزة الثانية من قوله : جآء أمة ، وقرأها الباقون بالتحقيق ، كما هو معلوم . وقوله فبعدا لقوم لا يؤمنون [ 23 \ 44 ] مصدر لا يظهر عامله ، وقد بعد بعدا بفتحتين ، وبعدا بضم فسكون أي : هلك فقوله : بعدا أي : هلاكا مستأصلا ، كما قال تعالى ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود [ 11 \ 95 ] قال الشاعر :
قل الغناء إذا لاقى الفتى تلفا قول الأحبة لا تبعد وقد بعدا


وقد قال سيبويه : إن بعدا وسحقا ودفرا أي : نتنا من المصادر المنصوبة بأفعال لا تظهر . اهـ ومن هذا القبيل قولهم : سقيا ورعيا ، كقول نابغة ذبيان : [ ص: 334 ]
نبئت نعما على الهجران عاتية سقيا ورعيا لذاك العاتب الزاري


والأحاديث في قوله : " وجعلناهم أحاديث " في مفرده وجهان معروفان :

أحدهما : أنه جمع حديث كما تقول : هذه أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، تريد بالأحاديث جمع حديث ، وعلى هذا فهو من الجموع الجارية على غير القياس المشار لها بقول ابن مالك في الخلاصة :
وحائد عن القياس كل ما خالف في البابين حكما رسما


يعني بالبابين : التكسير والتصغير ، كتكسير حديث على أحاديث وباطل على أباطيل ، وكتصغير مغرب ، على مغيربان ، وعشية على عشيشية ، وقال بعضهم : إنها اسم جمع للحديث .

الوجه الثاني : أن الأحاديث جمع أحدوثة التي هي مثل : أضحوكة ، وألعوبة ، وأعجوبة بضم الأول ، وإسكان الثاني : وهي ما يتحدث به الناس تلهيا وتعجبا . ومنه بهذا المعنى قول توبة بن الحمير
: من الخفرات البيض ود جليسها إذا ما انقضت أحدوثة لو تعيدها
وهذا الوجه أنسب هنا لجريان الجمع فيه على القياس ، وجزم به الزمخشري ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم ، أمر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة رسله عليهم الصلاة والسلام مع أن الموجود منهم ، وقت نزولها واحد ، وهو نبينا - صلى الله عليه وسلم - ، بالأكل من الطيبات : وهي الحلال الذي لا شبهة فيه على التحقيق ، وأن يعملوا العمل الصالح ، وذلك يدل على أن الأكل من الحلال له أثر في العمل الصالح ، وهو كذلك ، وهذا الذي أمر به الرسل في هذه الآية الكريمة ، أمر به المؤمنين من هذه الأمة التي هي خير الأمم ، وذلك في قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون [ 2 \ 172 ] والآية تدل على أن كل رسول أمر في زمنه بالأكل من الحلال ، والعمل الصالح ، وتأثير الأكل من الحلال في الأعمال معروف ، وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " يا أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا وأن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال : ياأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم [ 23 \ 51 ] [ ص: 335 ] وقال : ياأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم [ 2 \ 172 ] ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر ، ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام ، وغذي بالحرام يمد يديه إلى السماء ، يا رب يا رب فأنى يستجاب له " وهو يدل دلالة واضحة أن دعاءه الذي هو أعظم القرب لم ينفعه ; لأنه لم يأكل من الحلال ولم يشرب منه ، ولم يركب منه .
قوله تعالى : وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون ، قد أوضحنا معنى هاتين الآيتين ، وفسرنا ما يحتاج منهما إلى تفسير وبينا الآيات الموضحة لمعناهما في سورة الأنبياء في الكلام على قوله : إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون [ 21 \ 92 - 93 ] وبينا المراد بالأمة مع بعض الشواهد العربية ، وبينا جمع معاني الأمة في القرآن في أول سورة هود في الكلام على قوله : ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة الآية [ 11 \ 8 ] فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
قوله تعالى : فذرهم في غمرتهم حتى حين ، أمر - جل وعلا - نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يذر الكفار أي : يتركهم في غمرتهم إلى حين ، أي : وقت معين عند الله ، والظاهر أنه وقت انقضاء آجالهم بقتل أو موت ، وصيرورتهم إلى ما هم صائرون إليه بعد الموت من العذاب البرزخي ، والأخروي ، وكون المراد بالحين المذكور : وقت قتلهم ، أو موتهم ذكره الزمخشري عن علي - رضي الله عنه - ، بغير سند .

وأقوال أهل العلم في معنى غمرتهم راجعة إلى شيء واحد ; كقول الكلبي في غمرتهم أي : جهالتهم . وقول ابن بحر : في حيرتهم . وقول ابن سلام : في غفلتهم . وقول بعضهم : في ضلالتهم فمعنى كل هذه الأقوال واحد ، وهو أنه ، أمره أن يتركهم فيما هم فيه من الكفر والضلال ، والغي والمعاصي . قال الزمخشري : الغمرة : الماء الذي يغمر القامة فضربت مثلا لما هم مغمورون فيه من جهلهم ، وعمايتهم أو شبهوا باللاعبين في غمرة الماء لما هم عليه من الباطل ، قال ذو الرمة :


ليالي اللهو يطبيني فأتبعه كأنني ضارب في غمرة لعب


وصيغة الأمر في قوله فذرهم في غمرتهم [ 23 \ 54 ] للتهديد ، وقد تقرر في [ ص: 336 ] فن الأصول في مبحث الأمر وفي فن المعاني في مبحث الإنشاء ، أن من المعاني التي تأتي لها صيغة أفعل التهديد وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة ، من تهديد الكفار الذين كذبوا نبينا - صلى الله عليه وسلم - ، جاء موضحا في مواضع أخر ، كقوله ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون [ 15 \ 3 ] ، وقوله تعالى : فمهل الكافرين أمهلهم رويدا [ 86 \ 17 ] وقوله : قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار [ 14 ] وقوله : قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار [ 39 \ 8 ] .

وقد أوضحنا الآيات الدالة على هذا المعنى في سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى : ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل ، الآية [ 15 \ 3 ] وتكلمنا هناك على لفظ ذرهم .
قوله تعالى : أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون ، قد أوضحنا الكلام على الآيات الموضحة لهاتين الآيتين في سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى : ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا [ 18 \ 36 ] فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
قوله تعالى : ولا نكلف نفسا إلا وسعها ، ما تضمنته هذه الآية من التخفيف في هذه الحنيفية السمحة ، التي جاء بها نبينا - صلى الله عليه وسلم - قد ذكرنا طرفا من الآيات الدالة عليه في سورة الحج في الكلام على قوله تعالى : وما جعل عليكم في الدين من حرج [ 22 \ 78 ] فأغنى ذلك عن إعادته هنا .

قوله تعالى : ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون ، الحق أن المراد بهذا الكتاب : كتاب الأعمال الذي يحصيها الله فيه ، كما يدل عليه قوله تعالى هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون [ 45 \ 29 ] وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا المعنى في الكهف ، في الكلام على قوله : ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ، الآية [ 18 \ 49 ] وفي سورة الإسراء في الكلام على قوله : ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا [ 17 \ 13 ] .

والظاهر أن معنى نطق الكتاب بالحق : أن جميع المكتوب فيه حق ، فمن قرأ المكتوب فيه ، كأنه لا ينطق في قراءته له إلا بالحق ، وربما أطلقت العرب اسم الكلام على [ ص: 337 ] الخط ، كما روي عن عائشة أنها قالت : ما بين دفتي المصحف كلام الله ، والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون ، حتى هنا في هذه الآية التي يبتدأ بعدها الكلام ، والكلام الجملة الشرطية ، والعذاب الذي أخذهم ربهم به ، قيل : هو عذاب يوم بدر بالقتل والأسر ، وقيل : الجوع والقحط الشديد الذي أصابهم ، لما دعا عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال " اللهم اشدد وطأتك على مضر اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف " فأصابهم بسبب دعوته - صلى الله عليه وسلم - من الجوع الشديد ، عذاب أليم ، وأظهرها عندي أنه أخذهم بالعذاب يوم القيامة . وقد بين تعالى في هاتين الآيتين أنه أخذ مترفيهم بالعذاب ، والمترفون هم أصحاب النعمة والرفاهية في دار الدنيا ، وهذا المعنى أشار له بقوله : وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا إن لدينا أنكالا وجحيما وطعاما ذا غصة وعذابا أليما [ 73 \ 11 - 13 ] فقوله : أولي النعمة يريد بهم : المترفين في الدنيا ، وبين أنه سيعذبهم بعد التهديد بقوله : إن لدينا أنكالا وجحيما الآية ، وقوله : يجأرون ، الجؤار : الصراخ باستغاثة ، والعرب تقول : جأر الثور يجأر : صاح ، فالجؤار كالخوار وفي بعض القراءات " عجلا جسدا له جؤار " [ 7 \ 148 ] ، [ 20 \ 88 ] بالجيم والهمزة ، أي : خوار ، وجأر الرجل إلى الله : تضرع بالدعاء .

فمعنى الآية الكريمة : أن المنعمين في الدنيا من الكفار ، إذا أخذهم الله بالعذاب يوم القيامة ، صاحوا مستصرخين مستغيثين ، يطلبون الخلاص مما هم فيه ، وصراخهم واستغاثتهم المشار له هنا ، جاء في آيات أخر كقوله تعالى : والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل [ 35 \ 36 - 37 ] فقوله : يصطرخون : يفتعلون من الصراخ ، مستغيثين يريدون الخروج مما هم فيه ، بدليل قوله تعالى عنهم : ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل فهذا الصراخ المذكور في هذه الآية العام للمترفين وغيرهم ، هو الجؤار المذكور عن المترفين هنا ، ومن إطلاق العرب الجؤار على الصراخ والدعاء للاستغاثة قول الأعشى :

[ ص: 338 ]
يراوح من صلوات المليك فطورا سجودا وطورا جؤارا


والجؤار المذكور : هو النداء في قوله كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص [ 38 \ 3 ] ; لأن نداءهم نداء استغاثة واستصراخ وكقوله تعالى : ونادوا يامالك ليقض علينا ربك الآية [ 43 \ 77 ] ; لأن القضاء عليهم من أعظم الأمور التي يطلبونها ، فيستغيثون بالموت من دوام ذلك العذاب الشديد ، أجارنا الله وإخواننا المسلمين منه وكقوله تعالى : وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا [ 25 \ 13 - 14 ] وذلك الدعاء بالثبور الذي هو أعظم الهلاك ، والويل عن أنواع جؤارهم والعياذ بالله . وقوله تعالى في هذه الآية لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون [ 23 \ 65 ] يدل على أنهم إن استغاثوا لم يغاثوا ، وإن استرحموا لم يرحموا ، وقد أشار تعالى إلى ذلك في قوله : وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا [ 18 \ 29 ] .
قوله تعالى : قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون ، لما بين أن المترفين من الكفار إذا أخذهم ربهم بالعذاب ، ضجوا وصاحوا واستغاثوا ، وبين أنهم لا يغاثون كما أوضحناه آنفا بين سبب ذلك بقوله : قد كانت آياتي ، أي : التي أرسلت بها رسلي تتلى عليكم : تقرأ عليكم واضحة مفصلة ، فكنتم على أعقابكم تنكصون : ترجعون عنها القهقرى ، والعقب : مؤخر القدم ، والنكوص : الرجوع عن الأمر ، ومنه قوله تعالى : فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه [ 8 \ 48 ] ومنه قول الشاعر :
زعموا بأنهم على سبل النجاة وإنما نكص على الأعقاب

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 38.30 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 37.67 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.64%)]