رد: بداية الشعر الجاهلي
بداية الشعر الجاهلي (1)
د. إبراهيم عوض
وعلاوة على ذلك، فقد ورد اسم عدنان عند شعراء آخرين غير الشاعرين اللذين ذكرهما عالمنا الجليل، واللذين تابعه فيما قاله عنهما د. جواد علي في أول الفصل الأربعين بعد المائة (بعنوان "اللسان العربي") من كتابه: "المفصَّل في تاريخ العرب قبل الإسلام"، ومن هؤلاء الشعراء المهلهل بن ربيعة وليلى العفيفة وأمية بن أبي الصلت، الذين يقولون على التوالي:
يوم لنا كانت رئاسةُ أهلِه ♦♦♦ دون القبائلِ مِن بني عدنان
•••
يا بني الأعماصِ، إما تقطعوا ♦♦♦ لبني عدنان أسبابَ الرَّجا
•••
قُل لعدنان: فُدِيتم! شمِّروا ♦♦♦ لبني الأعجامِ تشميرَ الوحَى
•••
نفَوْا عن أرضِهم عدنانَ طرًّا ♦♦♦ وكانوا للقبائلِ قاهرينا
وفي "مجمع الأمثال" للميداني بيتٌ شعري آخر ورد فيه اسم "عدنان"، نسبه المؤلف لعبدالله بن همام أحد بني عبدالله بن غطفان، مضيفًا أنه يُنسب للنابغة أيضًا، وهو ما عزاه البغدادي في "خزانة الأدب" لهذا الأخير فقط، وإن كان قد عاد فذكر أنه يُنسب في "الفاخر" (للمفضل بن سلمة) إلى الاثنين جميعًا، مع تحديد الغطفاني بأنه عبدالله بن همارق، ونصه:
بما انتهكوا مِن ربِّ عدنانَ جهرةً ♦♦♦ وعوفٌ يناجيهم، وذلكمُ جَلَلْ
وفي "الإيناس بعلم الأنساب" يورد الوزير المغربي هذين البيتين لسلمة بن قيس العُكلي:
سيبلُغُ قذفي نهشلًا أن مجدَها 
قصيرٌ وقولي شتمُه وقصائدُهْ 
ويأتي على الفورَينِ دون محجَّرٍ 
ويصعَد في عكِّ بن عدنان ناشدُهْ 
وبالإضافة إلى ذلك فقد مر بنا ما قاله عدد من الباحثين من أن الشعر الجاهلي الذي بين أيدينا لا يمكن أن يكون أول ما نظمته العرب من أشعار، بل لا بد أن تكون قد سبقته أشعار أخرى على مدى زمني طويل حتى استوى الفن الشعري على سُوقه، أما إلى أي مدى يمتد هذا الزمن في الماضي بالضبط فعلمه عند الله؛ إذ لم يستطع حتى الآن أي باحث الإتيان بما يشفي ويكفي في هذا السبيل.
وهذا كله من شأنه التخفيف من مخاوف ابن سلام والتهدئة من شكوكه التي نحترمها رغم كل شيء؛ إذ لم يكن الرجل في تلك المخاوف ولا في هذه الشكوك صاحب هوى أو مأرب، بل كان يبغي البحث عن برد اليقين في مجال من مجالات العلم، ولم يكن يقصد إحداث ضجيج مقعقع يلفت إليه الأنظار، ولا أن يحارب العرب والمسلمين بتشكيكهم في كل شيء من تراثهم وحضارتهم كما يفعل بعض المستشرقين ومن يعدو لاهثًا خلفهم مقلدًا لهم في كل ما يفعلون، على أني، كما سبق التنبيه، لا أقول: إن الأشعار التي بلغتنا عن عاد وثمود وأشباههما لا بد أن تكون صحيحة بالضرورة، بل كل ما أبغي قوله هو أننا ينبغي أن نعيد النظر فيما قيل بخصوص الشك في الشعر الجاهلي.
وهذه هي النقطة التي أريد أن أتناولها الآن، وقد كان ابن سلام هو أول مَن فصَّل القول من القدماء في هذه القضية، وإليك بعض ما قاله في هذا الصدد مما أصبح منطلقًا لمن جاء بعده (وبخاصة من المحدَثين عربًا ومستشرقين) للشك في شعر ما قبل الإسلام: بعضه أو كثير منه أو جُله أو كله، قال: "وفي الشعر مصنوع مفتعل موضوع كثير، لا خير فيه ولا حجة في عربية ولا أدب يستفاد ولا معنى يُستخرج ولا مثل يُضرب ولا مديح رائع ولا هجاء مقذع ولا فخر مُعجب ولا نسيب مستطرف، وقد تداوله قوم من كتاب إلى كتاب، لم يأخذوه عن أهل البادية، ولم يعرضوه على العلماء، وليس لأحد إذا أجمع أهل العلم والرواية الصحيحة على إبطال شيء منه أن يقبل من صحيفة ولا يروي عن صحفي، وقد اختلف العلماء بَعْدُ في بعض الشعر كما اختلفت في سائر الأشياء، فأما ما اتفقوا عليه فليس لأحد أن يخرج منه".
ثم مضى مؤكدًا أن "للشعر صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم كسائر أصناف العلم والصناعات: منها ما تثقفه العين، ومنها ما تثقفه الأذن، ومنها ما تثقفه اليد، ومنها ما يثقفه اللسان، من ذلك اللؤلؤ والياقوت، لا تعرفه بصفة ولا وزن دون المعاينة ممن يبصره، ومن ذلك الجهبذة بالدينار والدرهم، لا تعرف جودتهما بلون ولا مس ولا طراز ولا وسم ولا صفة، ويعرفه الناقد عند المعاينة، فيعرف بهرجها وزائفها وسوقها ومفرغها، ومنه البصر بغريب النخل، والبصر بأنواع المتاع وضروبه واختلاف بلاده مع تشابه لونه وسنه وذرعه حتى يضاف كل صنف إلى بلده الذي خرج منه، وكذلك بصر الرقيق فتوصف الجارية فيقال: ناصعة اللون جيدة الشطب نقية الثغر حسنة العين والأنف جيدة النهود ظريفة اللسان واردة الشعر، فتكون في هذه الصفة بمائة دينار وبمائتي دينار، وتكون أخرى بألف دينار وأكثر، ولا يجد واصفها مزيدًا على هذه الصفة، وتوصف الدابة فيقال: خفيف العنان لين الظهر شديد الحافر فتيُّ السن نقي من العيوب، فيكون بخمسين دينارًا أو نحوها، وتكون أخرى بمائتي دينار وأكثر، وتكون هذه صفتها، ويقال للرجل والمرأة في القراءة والغناء: إنه لندي الحَلق ظل الصوت طويل النفَس مصيب للحن، ويوصف الآخر بهذه الصفة، وبينهما بون بعيد، يعرف ذلك العلماء عند المعاينة والاستماع له بلا صفة ينتهي إليها ولا علم يُوقف عليه، وإن كثرة المدارسة لتعدي عليّ العلم به، فكذلك الشعر يعلمه أهل العلم به".
ثم يضرب على ذلك بعض الأمثلة من واقع الحياة الأدبية: "قال محمد: قال خلاد بن يزيد الباهلي لخلف بن حيان أبي محرز، وكان خلاد حسن العلم بالشعر يرويه ويقوله: بأي شيء ترد هذه الأشعار التي تُروى؟ قال له: هل فيها ما تعلم أنت أنه مصنوع لا خير فيه؟ قال: نعم، قال: أفتعلم في الناس من هو أعلم بالشعر منك؟ قال: نعم، قال: فلا تنكر أن يعلموا من ذلك أكثر مما تعلمه أنت، وقال قائل لخلف: إذا سمعت أنا بالشعر أستحسنه فما أبالي ما قلتَ أنت فيه وأصحابك! قال: إذا أخذت درهمًا فاستحسنته فقال لك الصراف: إنه رديء، فهل ينفعك استحسانك إياه؟".
ويبدو أن ابن سلام يتصور أن الشعر الصحيح لا بد أن يكون شعرًا جيدًا من الناحية الفنية والمضمونية بالضرورة، وهذا ما يوحي به قوله عما لا يطمئن له من شعر: إنه "لا خير فيه ولا حجة في عربية ولا أدب يستفاد ولا معنى يستخرج ولا مثل يضرب ولا مديح رائع ولا هجاء مقذع ولا فخر معجب ولا نسيب مستطرف"، مع أنه لا تلازم البتة بين الشعر الصحيح من جهة والجودة الفنية والفائدة الخلقية والاجتماعية من جهة أخرى، ولا بين الشعر المزيف وتفاهة الفن والمضمون كذلك، وهذا مما يعرفه كل أحد، أما قوله، عن بعض ما كان يُتداول على أيامه من شعر لا ترتاح نفسه له ولا يرى صحته: إنه "قد تداوله قوم من كتاب إلى كتاب، لم يأخذوه عن أهل البادية ولم يعرضوه على العلماء" - فقد يمكن التعقيب عليه بأن الشعر المروي عن أهل البادية لا بد أن ينتهي هو أيضًا بعد ذلك إلى التقييد في الورق، فليست الكتابة إذًا عارًا على النصوص الشعرية ولا على من يأخذ بها، ولا ينبغي من ثم أن تتخذ تكأة لرفض شيء من تلك النصوص إلا إذا قام دليل قاطع على أنه زائف مصنوع، كما أن رواية الأعراب لشيء من الشعر ليست في حد ذاتها برهانًا على صحته؛ إذ البدو بشر من البشر في نهاية المطاف، يجوز عليهم الكذب والصدق جميعًا، ويقع منهم التزييف كما يقع منهم التحقيق، وفيهم الأمين الذي يُطمأن له، والخائن الذي يجفل منه ولا يوثق به، ثم هل كان العرب كلهم أبناء بادية؟ ألم يكن فيهم من يسكن المدن؟ ألم يكن بين سكان المدن هؤلاء شعراء؟ بلى كان بينهم شعراء، وابن سلام نفسه قد أفرد لشعراء مكة ويثرب والطائف والبحرين قسمًا خاصًّا من كتابه الذي نحن بصدده، علاوة على من كان يعيش منهم في بلاطي الحيرة والغساسنة، فكيف نسي عالمنا الجليل هذا حين اشترط أن يكون الشعر الصحيح من رواية البدو، والبدو وحدهم؟ وهذا أكبر دليل على أن ما زعمه كليمان هوار من أن المدن العربية في ذلك الحين كانت من شدة الاشتغال بالتجارة بحيث لم تكن هناك أية فرصة لترعرع الإبداع الأدبي فيها هو كلام لا يؤبه به البتة (Clement Huart، A History of Arabic Literature، P،6)، وفوق هذا ألم يكن بين العرب من يعتمد على الكتابة في رواية الشعر الجاهلي؟ ثم لماذا ننسى أن كثيرًا جدًّا من البدو العرب قد انتقلوا إلى العيش في أمصار البلاد المفتوحة وأصبحوا بهذا من سكان المدن؟ أفإن تغيرت مساكنهم ينبغي أن يتغير الحكم عليهم ولا يوثق عندئذ بما يروونه من شعر الجاهليين؟!
أما حديث ابن سلام عن قدرة العلماء المطلقة على فرز صحيح الشعر الجاهلي من زائفه بمجرد النظر فيه، ففيه مبالغة كبيرة رغم معرفتنا بقيمة التخصص وضرورته؛ إذ إن أحكام العلماء التي تكلم عنها ابن سلام هنا لا تزيد عن أن تكون أحكامًا انطباعية، ومعروف ما يمكن أن يعتري الأحكام الانطباعية من فساد مهما علت درجة صاحبها في العلم والخبرة، ومن هنا كان لا بد للعالم من الرجوع إلى القواعد المرعية عند أهل كل صناعة، وتعريف القارئ عن طريق التطبيق العملي كيف اعتمد عليها في الحكم على هذا النص الشعري أو ذاك، وسَوْق البراهين التي تدل على ما يقول حتى تكون أمام الباحث الفرصة لتمحيص ما يقرأ، ومن ثم قبوله أو رفضه عن بينة، وهو ما لم يفعله ابن سلام للأسف في كثير من الحالات، كما في النص الذي نناقشه الآن، والذي ينسب للعلماء قدرات خارقة لا تعرف الفشل، أو لم يوفق فيه في بعض الحالات الأخرى، كما رأينا في حديثه عما ينسب لعاد وثمود من أشعار، إن كلام ابن سلام هنا ليشبه قول من يرى أن الطبيب ليس في حاجة إلى تحليلات ولا أشعة ولا إلى الكشف على المريض، بل يكفيه أن يلقي نظرة عليه فيعرف للتو ما يعاني منه، وهو ما يتسبب في وقوع كوارث كان من الممكن تدارك كثير منها وتجنُّب نسبة غير قليلة من حالات الوفاة أو تفاقم المرض لدرجة خارجة عن السيطرة مثلًا لو أن الطبيب طامن من غلوائه في الثقة بعلمه وخبرته بعض الشيء، وكم كان يونس صادقًا في قوله التالي الذي استشهد به ابن سلام: "لو كان أحد ينبغي أن يؤخذ بقوله كله في شيء واحد كان ينبغي لقول أبي عمرو بن العلاء في العربية أن يؤخذ كله، ولكن ليس أحد إلا وأنت آخذ من قوله وتارك"، كما أنه هو نفسه يحكم على خلف الأحمر قائلًا: "اجتمع أصحابنا أنه كان أفرس الناس ببيت شعر وأصدقه لسانًا، كنا لا نبالي إذا أخذنا عنه خبرًا أو أنشدنا شعرًا ألا نسمعه من صاحبه"، مع أن خلفًا هذا متهم لدى بعض العلماء الآخرين بأنه وضَّاع كبير للشعر، فما القول في هذا؟ أليس هذا دليلًا آخر على أن مسألة معرفة العلماء بالشعر الجاهلي ومقدرتهم على تمييز صحيحه من ملفَّقه مسألة نسبية؟ وإلا فلماذا اختلفوا في الحكم على خلف الأحمر إذًا إذا كانت أحكامهم لا يخر منها الماء كما يريدنا ابن سلام أن نصدق؟!
ليس ذلك فقط، بل ها هو ذا ابن سلام نفسه يخبرنا بأن الاختلاف بين المختصين برواية الشعر الجاهلي كان شديدًا، وأن هذا الاختلاف قد دفعه إلى الاقتصار على بعض ذلك الشعر وأصحابه دون البعض الآخر: "وقد اختلف الناس والرواة فيهم، فنظر قوم من أهل العلم بالشعر والنفاذ في كلام العرب والعلم بالعربية إذا اختلفت الرواة فقالوا بآرائهم، وقالت العشائر بأهوائها، ولا يُقنع الناس مع ذلك إلا الرواية عمن تقدم، فاقتصرنا من الفحول المشهورين على أربعين شاعرًا، فألفنا مَن تشابه شعره منهم إلى نظرائه فوجدناهم عشر طبقات، أربعة رهطٍ، كل طبقة متكافئين معتدلين"، أما قوله عن ابن إسحاق: "وكان ممن أفسد الشعر وهجنه وحمل كل غثاء منه محمد بن إسحاق بن يسار مولى آل مخرمة بن المطلب بن عبدمناف، وكان من علماء الناس بالسير، قال الزهري: لا يزال في الناس علمٌ ما بقي مولى آل مخرمة، وكان أكثر علمه بالمغازي والسير وغير ذلك، فقبل الناس عنه الأشعار، وكان يعتذر منها ويقول: لا علم لي بالشعر، أُتينا به فأحمله، ولم يكن ذلك له عذرًا، فكتب في السير أشعار الرجال الذين لم يقولوا شعرًا قط، وأشعار النساء فضلًا عن الرجال، ثم جاوز ذلك إلى عاد وثمود فكتب لهم أشعارًا كثيرة، وليس بشعر، إنما هو كلام مؤلف معقود بقوافٍ" - فأرى أن فيه تجنيًا عليه؛ إذ كيف السبيل إلى معرفة أن الرجال والنساء المذكورين هنا لم يقولوا شعرًا قط؟ الحق أن ذلك أمر يحتاج إلى دليل، وبخاصة أن أمامنا أشعارًا تُنسب لهم، ونفيها عنهم هو الذي يحتاج إلى برهان، وأين هذا البرهان؟ ثم إن عالمنا الجليل يؤكد أنه قد ضاع من الشعر العربي الكثير والكثير، وهو ما كان ينبغي أن يحجزه عن التسرع في إطلاق مثل تلك الأحكام! على أنني لا أقصد أن كل ما أورده ابن إسحاق في السيرة النبوية من أشعار صحيح لا ريب فيه، بل قُصارى ما أقول إن الأمر لا ينبغي أن يُقطع فيه بتلك السهولة التي ينتحيها ابن سلام، ثم إنني لا أفهم على أي أساس حكم على الأشعار المنسوبة في السيرة لعاد وثمود بأنها مجرد كلام معقود بقوافٍ وليست شعرًا، ألم يكن أحرى به أن يورد لنا الحيثيات التي نفى بها عن هذا الشعر الجودة الفنية، بل أنكر بناءً عليها مجرد دخوله ميدان هذا الفن؟ ومرة أخرى هل لا بد أن يكون كل شعر صحيح جيدًا من الناحية الفنية؟
وهو يقول: إن الشعر الجاهلي كان غزيرًا شديد الغزارة، لكن "جاء الإسلام فتشاغلت عنه العرب وتشاغلوا بالجهاد وغزو فارس والروم ولهت عن الشعر وروايته، فلما كثر الإسلام وجاءت الفتوح واطمأنت العرب بالأمصار راجعوا رواية الشعر فلم يؤولوا إلى ديوان مدون ولا كتاب مكتوب، وألفوا ذلك وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل، فحفظوا أقل ذلك، وذهب عليهم منه كثير، وقد كان عند النعمان بن المنذر منه ديوان فيه أشعار الفحول وما مُدح هو وأهل بيته به، صار ذلك إلى بني مروان أو صار منه، قال يونس: فلما راجعت العرب رواية الشعر وذكر أيامها ومآثرها استقل بعض العشائر شعر شعرائهم وما ذهب من ذكر وقائعهم، وكان قوم قلَّت وقائعهم وأشعارهم فأرادوا أن يلحقوا بمن له الوقائع والأشعار فقالوا على ألسنة شعرائهم، ثم كانت الرواة بعدُ فزادوا في الأشعار التي قيلت، وليس يُشكل على أهل العلم زيادة الرواة ولا ما وضعوا ولا ما وضع المولدون، وإنما عضل بهم أن يقول الرجل من أهل البادية من ولد الشعراء أو الرجل ليس من ولدهم فيُشكل ذلك بعض الإشكال، قال ابن سلام: أخبرني أبو عبيدة أن ابن داود بن متمم بن نويرة قدم البصرة في بعض ما يقدَم له البدوي من الجلب والميرة، فنزل النحيت، فأتيته أنا وابن نوح العطاردي فسألناه عن شعر أبيه متمم، وقمنا له بحاجته وكفيناه ضيعته، فلما نفِد شعر أبيه جعل يزيد في الأشعار ويصنعها لنا، وإذا كلام دون كلام متمم، وإذا هو يحتذي على كلامه فيذكر المواضع التي ذكرها متمم والوقائع التي شهدها، فلما توالى ذلك علمنا أنه يفتعله، وكان أولَ من جمع أشعار العرب وساق أحاديثها حمادٌ الراوية، وكان غير موثوق به، وكان ينحل شعر الرجل غيره وينحله غير شعره ويزيد في الأشعار، قال ابن سلام: أخبرني أبو عبيدة عن يونس، قال: قدم حماد البصرة على بلال بن أبي بردة وهو عليها فقال: ما أطرفتني شيئًا، فعاد إليه فأنشده القصيدة التي في شعر الحطيئة، مديح أبي موسى، قال: ويحك! يمدح الحطيئة أبا موسى لا أعلم به، وأنا أروي شعر الحطيئة؟ ولكن دعها تذهب في الناس، قال ابن سلام: أخبرني أبو عبيدة عن عمر بن سعيد بن وهب الثقفي، قال: كان حماد لي صديقًا مُلطفًا فعرض عليَّ ما قبله يومًا، فقلت له: أملِ عليَّ قصيدة لأخوالي بني سعد بن مالك لطرفة، فأملى عليَّ:
إنَّ الخليطَ أجد منتقَلُهْ 
ولذاك زُمَّت غدوةً إبلُهْ 
عَهدي بهم في النقبِ قد سندوا 
تَهدي صعابَ مطيِّهم ذُلُلُهْ 
وهي لأعشى هَمْدان، وسمعت يونس يقول: العجب ممن يأخذ عن حماد، وكان يكذب ويلحن ويكسِر".
وكلام ابن سلام عن تشاغل العرب عن الشعر بالإسلام والجهاد والفتوح معناه أولًا أن العرب كانوا جميعًا مجاهدين لا يستقر منهم في بلده ولا بيته أحد، وهذا بطبيعة الحال غيرُ صحيح، إنما كان بعضهم يجاهد، وبعضهم يتاجر، وبعضهم يزرع، وبعضهم يصنع، وبعضهم يرعى، وبعضهم يعلم أو يتعلم ... إلخ كما هو الحال في أي مجتمع آخر، ومعناه ثانيًا أنهم عادوا لا يقولون الشعر ما داموا لا يروونه؛ إذ الرواية أسهل وأقل بعثًا على الحرج من النَّظم، لكننا ننظر فنجد أنهم ظلوا يقولون الشعر حتى على أيام النبي عليه السلام، وفي أثناء الفتوح ذاتها، وهناك شعرٌ جد كثير قيل فيها كما نعرف جميعًا، بل إن الرسول عليه السلام كان يقرب إليه بعض شعراء المسلمين ويحثهم على قول الشعر في الذب عن الدين الجديد ويشجعهم، فكان يقول لحسان: ((اهجُهم "أي القرشيين" ورُوح القدس معك))، فكيف يقال إذًا: إن الإسلام قد شغَل العرب عن رواية الشعر، حتى إذا انتهوا من الفتوح (والكلام هنا بالمناسبة مضطرب، وكأن الجهاد شيء آخر غير الفتوح!) ورجعوا إلى أنفسهم وما كانوا يحفظونه من الأشعار وجدوا أنهم قد نسوا نصيبًا كبيرًا جدًّا منها؟ وبالنسبة لابن متمم بن نويرة هل يعقل أن يأخذ في ارتجال تلك الأشعار الكثيرة المتتابعة التي تشبه شعر جده بهذه السهولة، كما يُفهم من الرواية الخاصة بذلك؟ ثم لماذا يصنع ذلك يا ترى؟ وهل شرط أن يكون شعر متمم على مستوى واحد من المتانة والرُّوَاء؟ أليس من الطبيعي أن يتفاوت شعر الشاعر فيكون بعضه قويًّا متينًا، والآخر دون ذلك، كما هو الحال حتى في شعر شاعر عبقري مثل المتنبي؛ إذ نجد في ديوانه مقطوعات وقصائد لا ترتفع إلى مستوى شعره الآخر الرائع في سيف الدولة وكافور وفي التغني بمفاخره وأحزانه الذاتية؟ وقل مثل ذلك في شعر أمير الشعراء أحمد شوقي، وهذان مجرد مثالين اثنين لا غير، وإلا فمعروف عند المشتغلين بالأدب والنقد أن ذلك ينطبق على سائر الشعراء.
(.. يتبع).
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 09-11-2022 الساعة 12:50 PM.
|