الوقف في تراث الآل والأصحاب (14)
عناية الآل والأصحاب بتوثيق الأوقاف
عيسى القدومي
هذه سلسلة مقالات نسلط فيها الضوء على أوقاف آل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام، وعرضِ أنواع الأوقاف ومجالاتها، وآثارها في الدين والمجتمع، مع ذكر جملة من المقاصد الشرعية والفوائد الفقهية في أوقاف النبي - صلى الله عليه وسلم - وأوقاف آله وصحبه -رضي الله عنهم.
توثيق عمر بن الخطاب لوقفه بالكتابة بعد الإشهاد
ممّن وثّق وَقْفَه بالكتابةِ بعد الإشهاد: عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، ويُعَدُّ كتاب وقف عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - هو أول وثيقة وقفيّة في الإسلام، وقد استند كل من كتب كتابَ وَقفِه من الصحابة -رضي الله عنهم- على ما جاء في كتاب عمر - رضي الله عنه -، وعلى منوالهم سار التابعون وأتباعُهُم.
وتعد هذه الوثيقة العظيمة من أجلِّ ما وصل إلينا بطرق صحيحة، ضمن الوثائق الوقفية التي رويت عن الصحابة الكرام والتي تلقي الأضواء على تاريخ التوثيق في عصر الصحابة -رضي الله عنهم-، ولذلك حظيت بالعنايةِ، وتوارثَها الفقهاء والمحدّثون وتَنَاسَخُوها، قال الحافظ: «وقد أخرج أبو داود صفةَ كتاب وَقْفِ عمر من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري قال: نَسَخَهَا لي عبدالله بن عبدالحميد بن عبدالله بن عمر...»، وقد توفي يحيى بن سعيد الأنصاري سنة (143هـ).
حرص الصحابة على كتابة صكوك الأوقاف
ولا شك أن هذه الوثائق والحجج تدل على حرص الصحابة رضوان الله عليهم على كتابة صكوك الأوقاف؛ لأن الأوقاف تبقى أزمنة عديدة ولا تحفظ حقوقها إلا بالصكوك الشرعية، والواقفون من الآل والأصحاب حرصوا على تأكيد الوقف وتأبيده ولزومه؛ فتضمَّنت وثائق الوقف تلك العبارات، فقد جاء في جُلِّ الأوقاف من بعدهم عبارة: «وقفًا صحيحًا شرعيًّا مؤبدًا، وحبسًا صريحًا، حبَّسه وسبَّله للّه تعالى، دائما أبدًا حتى يرث اللّه الأرض ومن عليها»، ومن المستحب تفصيلُ الواقف وقفه في وثيقته؛ لقطع احتمال المنازعةِ وإزالة اللّبس عينه وحدوده وشروطه ومصارفه، ومن يتولّى نظارتَه.
شروط الواقف بمثابة منزلة النصوص الشرعية
وقد اتفق العلماء على أن شروط الواقف -في الجملة- مصانة في الشريعة، وأنّ العمل بها واجب، وعبَّر ابن القيم - رحمه الله - عن هذا المعنى بقوله: «الواقف لم يُـخرج مالَه إلا على وجه معين؛ فلزم اتّباع ما عيّنه في الوقف من ذلك الوجه»، وأهل العلم رفعوها إلى منـزلة النصوص الشرعية؛ من حيث لزومها ووجوب العمل بها، فقالوا: «إن شرط الواقف كنص الشارع». ولكن هذه الشروط لا تكون بهذه المنـزلة إلا إذا كانت محققة لمصلحة شرعية، أو موافقة للمقاصد العامة للشريعة، وهي المتمثلة في: حفظ الدين والنفس والعقل والعرض والمال، ومع ورود التنصيص على أنّ شرط الواقف كنصِّ الشارع عن جمعٍ كبير من أهل العلم، إلا أنّهم اختلفوا في تفسير وجه الشَّبه ومدى التطابُق بين (شرط الواقف) و (نَصِّ الشارع)، ونُوْرِدُ هنا نموذجَيْن من كلامِهِم:
مستثنيات تجوزُ فيها مخالفةُ شرطِ الواقفِ
قال ابن نُجيم: «شرطُ الواقف يجب اتّباعُه لقولهم: شرطُ الواقف كنَصِّ الشارع، أي: في وجوب العمل به، وفي المفهوم والدَّلالة... إلّا في مسائل:
- الأولى: شرَطَ أنَّ القاضي لا يعزلُ النّاظر، فله عزل غير الأهل.
- الثانية: شرَطَ أنْ لا يُؤَجَّر وقفُه أكثر من سنةٍ، والنّاس لا يرغبون في استئجاره سنةً، أو كان في الزيادة نفعٌ للفقراء، فللقاضي المخالفة دون النّاظر.
- الثالثة: لو شَرَطَ أنْ يُقْرَأَ على قبره، فالتعيينُ باطل.
- الرابعة: لو شَرَطَ أنْ يُتَصَدّقَ بفاضلِ الغَلَّة على من يسأل في مسجدِ كذا كلَّ يومٍ، لم يُرَاعَ شرطُه؛ فللقيِّم التصدُّق على سائلِ غيرِ ذلك المسجدِ، أو خارجَ المسجد، أو على من لا يسأل.
- الخامسة: لو شَرَطَ للمستحقِّين خُبزًا أو لحمًا معيَّنًا كلَّ يومٍ، فللقيِّم أن يدفعَ القيمةَ من النقدِ، وفي موضعٍ آخر لهم طلبُ العَيْن وأخذُ القيمة.
- السادسة: تجوز الزيادة من القاضي على معلومِ الإمامِ إذا كان لا يكفيه، وكان عالماً تقيًّا.
- السابعة: شَرَطَ الواقفُ عدم الاستبدال، فللقاضي الاستبدالُ إذا كان أصلح».
متى يكون شرط الواقف غير واجب الاتّباع؟
نحن نلاحظُ في المستثنيات التي تجوزُ فيها مخالفةُ شرطِ الواقفِ أنّه يجمعها معنىً واحدٌ تقريباً، وهو أنّ شرط الواقف غير واجب الاتّباع إذا كان ضارًّا بمصلحة الوقف أو الموقوف عليهم، أو فيه تضييق عليهم، أو كان يُفضي إلى التحكُّم في غلّة الوقف على نحوٍ عبثيٍّ، يعطِّل المصلحة العامّة ويقتُل منافع المال المحترم شرعًا، بحيث لو تصرَّف الإنسانُ في مالِه من غير وقْفٍ على ذلك النَّحو، لكان اتِّجاه الشّرع في الغالب أن يمنعه من ذلك التصرُّف، دفعاً للضّرر، وحفظاً لمصلحته.
بينما نجد شيخ الإسلام ابن تيميّة يحمل العبارةَ على أنّ وجه الشبه هو الدَّلالةُ والمفهوم، دون وجوب العمل بالضَّرورة، وجاء عنه -رحمه الله- في «الاختيارات الفقهيّة» للبعلي: «ولا يلزمُ الوفاءُ بشرط الواقف إلا إذا كان مستحبًّا خاصّة، وهو ظاهر المذهب أخذاً من قول أحمد في اعتبار القُربة في أصلِ الجِهَة الموقوفِ عليها.
ويجوز تغييرُ شرطِ الواقفِ إلى ما هو أصلحُ منه، وإنْ اختلف ذلك باختلاف الزمان والمكان، حتى لو وقف على الفقهاء والصوفيّة، واحتاج النّاس إلى الجهاد، صُرِفَ إلى الجُنْدِ.
نصوصُ الواقفِ كنصوصِ الشّارعِ
وقول الفقهاء: نصوصُ الواقفِ كنصوصِ الشّارعِ، يعني في الفهم والدَّلَالةِ، لا في وجوب العمل، مع أنَّ التحقيقَ أنَّ لفظ الواقفِ والمُوصي والنَّاذِرِ والحالفِ وكلِّ عاقِدٍ يُحمل على مذهبِه وعادتِه في خطابِه ولغتِه التي يتكلّم بها، وافقَ لغة العرب أو لغةَ الشارع أو لا، والعادة المستمرَّة والُعرف المستقِرُّ في الوقفِ يدلُّ على شرطِ الواقفِ أكثرَ ممّا يدلُّ لفظُ الاستفاضة»، قال البعلي: «وظاهر كلام أبي العبّاس في موضع آخر خلاف ذلك، وإنْ نُزِّلَ تنزيلاً شرعيًّا لم يجُز صرفُه بلا مُوجبٍ شرعيّ، وكلُّ متصرِّفٍ بولاية إذا قيل له: افعل ما تشاء فإنّما هو لمصلحة شرعية، حتى لو صرَّحَ الواقفُ بفعلِ ما يهواهُ أو ما يراهُ مطلقاً؛ فهو شرطٌ باطل لمخالفتِه الشرعَ، وغايتُه أن يكون شرطًا مباحًا، وهو باطلٌ على الصحيح المشهور، حتى لو تساوى فِعْلَانِ عُمِلَ بالقُرْعَةِ، وإذا قيل هنا بالتخيير فله وجهٌ».
ويشرح الإمام ابن القيّم -رحمه الله- هذه المسألة بقوله: «وأمّا ما قد لهج به بعضهم من قوله: «شروطُ الواقفِ كنصوص الشارع»، فهذا يرادُ به معنىً صحيحٌ ومعنى باطلٌ، فإن أُريد أنها كنصوص الشارع في الفهم والدَّلالة، وتقييد مطلقها بمقَيَّدِها، وتقديمِ خاصِّهَا على عامِّها، والأخذ فيها بعمومِ اللَّفظ لا بخصوص السبب، فهذا حقٌّ من حيث الجملةُ. وإنْ أُريد أنها كنصوص الشارع في وجوب مراعاتها والتزامها وتنفيذها، فهذا من أبطل الباطل! بل يبطُل منها ما لم يكن طاعة للَّه ورسوله، وما غيره أحبُّ إلى اللَّه وأرضى له ولرسوله منه، ويُنَفَّذُ منها ما كان قُرْبَةً وطاعةً».
والذي يظهر أنّ هذا الضّابط الذي أبرزناهُ في المنقول عن شيخ الإسلام ابن تيميّة سابقًا يمثِّل نقطة الالتقاء، والضابطَ الذي يجب الانطلاق منه عند وضع الحدِّ الفاصل بين ما تجب مراعاته وما لا تجب مراعاته من شروط الواقف، لأنّ الذين أطلقوا وُجوب مراعاة شروط الواقف، استثنَوْا من ذلك الإطلاق صوراً، فدلّ على أنّ الإطلاق ليس على ظاهره عند الجميع.
ولا ريب أنّ الأصل في المسألة هو ما عبَّر عنه أهل العلم بقولهم: «يلزم مراعاةُ الشرط بقدر الإمكان».
قال العلّامة أحمد الزّرقا: «ومراعاتُه بالوفاء به...والمراد بالشرط هنا: المُقَيَّدُ به، المُعَرَّفُ بأنَّه: التزامُ أمرٍ لم يوجَد، في أمرٍ وُجِدَ بصيغةٍ مخصوصةٍ، لا المعلَّق عليه...والفرق بين المعَلَّقِ بالشّرط والمُقَيَّدِ بالشّرط: أنّ المعلَّق بالشرط عدمٌ قبل وجود الشرط، لأنّ ما توقَّفَ حصولُه على حصول شيءٍ يتأخَّر بالطَّبع عنه، بخلافِ المقيَّد بالشرط، فإنَّ تقييدَه لا يوجب تأخُّرَه في الوجود على القيد، بل سبْقَه عليه كما هو ظاهرٌ.