عرض مشاركة واحدة
  #297  
قديم 05-11-2022, 11:08 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 167,388
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ المائدة
المجلد السادس
صـ 1958 الى صـ 1976
الحلقة (297)



[ ص: 1958 ] وإنما كان ذلك محاربة، لأن القتل بالحيلة كالقتل مكابرة، كلاهما لا يمكن الاحتراز منه، بل قد يكون ضرر هذا أشد، لأنه لا يدري به.

وقيل: إن المحارب هو المجاهر بالقتال، وإن هذا المغتال يكون أمره إلى ولي أمر الدم. والأول أشبه بأصول الشريعة.

الرابعة - ظاهر الآية: أن عقوبة المحاربين المفسدين أحد هذه الأنواع. فيفعل الإمام منها ما رأى فيه صلاحا. قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس، في الآية: من شهر السلاح في قبة الإسلام، وأخاف السبيل ثم ظفر به وقدر عليه، فإمام المسلمين فيه بالخيار: إن شاء قتله، وإن شاء صلبه، وإن شاء قطع يده ورجله. وكذا قال سعيد بن المسيب ومجاهد وعطاء [ ص: 1959 ] والحسن البصري وإبراهيم النخعي والضحاك. كما رواه ابن جرير، وحكي مثله عن أنس.

قال ابن كثير: ومستند هذا القول ظاهر. وللتخيير نظائر من القرآن. كقوله في جزاء الصيد: فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما وقوله في كفارة الترفه: فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك وقوله في كفارة اليمين: إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة وهذه كلها على التخيير، فكذلك فلتكن هذه الآية. وقال [ ص: 1960 ] الجمهور: هذه الآية منزلة على أحوال.

أخرج الشافعي عن إبراهيم بن أبي يحيى، عن صالح مولى التوأمة، عن ابن عباس، في قطاع الطريق: إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا. وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا، قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا المال نفوا من الأرض. وقد رواه ابن أبي شيبة عن عبد الرحيم بن سليمان، عن حجاج، عن عطية عن ابن عباس بنحوه، وعن أبي مجلز وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي والحسن وقتادة والسدي وعطاء الخراساني نحو ذلك. وهكذا قال غير واحد من السلف والأئمة انتهى.

وفي "النهاية" من فقه الزيدية: يرجع في المحارب إلى رأي الإمام، فإن كان له رأي قتله أو صلبه - لأن القطع لا يدفع المضرة - وإن كان لا رأي له لكنه ذو قوة قطعه من خلاف، وإن عدم القوة والرأي ضرب ونفي; وهذا معنى التخيير بين هذه الأمور، أنه يرجع إلى اجتهاد الإمام، على ما ذكر. انتهى.

ورأيت لشيخ الإسلام ابن تيمية فصلا مهما في المحاربين في كتابه "السياسة الشرعية" وقد مثلهم بقطاع الطريق الذين يعترضون الناس بالسلاح في الطرقات ونحوها ليغصبوهم المال مجاهرة، من الأعراب أو التركمان أو الأكراد أو الفلاحين أو فسقة الجند أو مردة الحاضرة أو غيرهم. ثم ساق رواية الشافعي المتقدمة عن ابن عباس وقال:

هذا قول كثير من أهل العلم - كالشافعي وأحمد رضي الله عنهما - وهو قريب من قول أبي حنيفة - رحمه الله - ومنهم من قال: للإمام أن يجتهد فيهم فيقتل من رأى قتله [ ص: 1961 ] مصلحة فيهم وإن كان لم يقتل مثل أن يكون رئيسا مطاعا فيهم. ويقطع من رأى قطعه مصلحة وإن كان لم يأخذ المال. مثل أن يكون ذا جلد وقوة في أخذ المال. كما أن منهم من يرى أنه إذا أخذوا المال قتلوا وقطعوا وصلبوا. والأول قول الأكثر. فمن كان من المحاربين قد قتل فإنه يقتله الإمام حدا لا يجوز العفو عنه بحال، بإجماع العلماء. ذكره ابن المنذر. ولا يكون أمره إلى ورثة المقتول. بخلاف ما لو قتل رجل رجلا لعداوة بينهما، أو لخصومة، أو نحو ذلك من الأسباب الخاصة. فإن هذا دمه لأولياء المقتول. إن أحبوا قتلوا. وإن أحبوا عفوا. وإن أحبوا أخذوا الدية لأنه قتله لغرض خاص. وأما المحاربون فإنما يقتلون لأخذ أموال الناس، فضررهم عام بمنزلة السراق. فكان قتلهم حد الله. وهذا متفق عليه بين الفقهاء. حتى لو كان المقتول غير مكافئ للقاتل. مثل أن يكون القاتل حرا والمقتول عبدا، أو القاتل مسلما والمقتول ذميا أو مستأمنا. فقد اختلف الفقهاء: هل يقتل في المحاربة؟ والأقوى أنه يقتل للفساد العام حدا، كما يقطع إذا أخذ أموالهم. وكما يحبس بحقوقهم. وإذا كان المحاربون الحرامية جماعة، فالواحد منهم باشر القتل بنفسه والباقون له أعوان وردء له، فقد قيل: إنه يقتل المباشر فقط. والجمهور على أن الجميع يقتلون ولو كانوا مائة. والردء والمباشر سواء. وهذا هو المأثور عن الخلفاء الراشدين. فإن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قتل ربيئة المحاربين. والربيئة هو الناظور الذي يجلس على مكان عال ينظر منه لهم من يجيء.

ولأن المباشر إنما يمكن من قتله بقوة الردء ومعونته. والطائفة إذا انتصر بعضها ببعض، حتى صاروا ممتنعين، فهم مشتركون في الثواب والعقاب كالمجاهدين. فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم، ويرد [ ص: 1962 ] متسريهم على قاعدتهم» . يعني: أن جيش المسلمين إذا تسرت منه سرية فغنمت مالا، فإن الجيش يشاركها فيما غنمت، لأنها بظهره وقوته تمكنت. لكن تنفل عنه نفلا. فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفل السرية، إذا كانوا في بدايتهم، الربع بعد الخمس. فإذا رجعوا إلى أوطانهم وتسرت سرية، نفلهم الثلث بعد الخمس. وكذلك لو غنم الجيش غنيمة شاركته السرية؛ لأنها في مصلحة الجيش. كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم لطلحة والزبير يوم بدر، لأنه كان قد بعثهما في مصلحة الجيش. فأعوان الطائفة المتمنعة وأنصارها منها، فيما لهم وعليهم. وهكذا المقتتلون على باطل لا تأويل فيه، مثل المقتتلين على عصبية ودعوى جاهلية. كقيس ويمن ونحوهما، هما ظالمتان. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار» . قيل: يا رسول الله! هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: «إنه أراد قتل صاحبه» . أخرجاه في "الصحيحين" وتضمن كل طائفة ما أتلفته الأخرى من نفس ومال وإن لم يعرف عين القاتل. لأن الطائفة الواحدة المتمنع بعضها ببعض كالشخص الواحد. وأما إذا أخذوا المال فقط ولم يقتلوا - كما قد يفعله الأعراب كثيرا - فإنه يقطع من كل واحد يده اليمنى ورجله اليسرى عند أكثر العلماء. كأبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم. وهذا معنى قوله تعالى: أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف تقطع اليد التي يبطش بها، والرجل التي يمشي عليها، وتحسم يده ورجله [ ص: 1963 ] بالزيت المغلي ونحوه، لينحسم الدم فلا يخرج فيفضي إلى تلفه. وكذا تحسم يد السارق بالزيت. وهذا الفعل قد يكون أزجر من القتل. فإن الأعراب وفسقة الجند وغيرهم، إذا رأوا دائما من هو بينهم مقطوع اليد والرجل، ذكروا بذلك جرمه، فارتدعوا. بخلاف القتل، فإنه قد ينسى. وقد يؤثر في بعض النفوس الأبية قتله على قطع يده ورجله من خلاف. فيكون هذا أشد تنكيلا له ولأمثاله. وأما إذا شهروا السلاح ولم يقتلوا نفسا ولم يأخذوا مالا، ثم أغمدوه أو هربوا، وتركوا الحراب، فإنهم ينفون. فقيل (نفيهم) تشريدهم. فلا يتركون يأوون في بلد. وقيل: هو حبسهم. وقيل: هو ما يراه الإمام أصلح من نفي أو حبس أو نحو ذلك. والقتل المشروع ضرب الرقبة بالسيف ونحوه. لأن ذلك أوحى (أي: أسرع) أنواع القتل. وكذلك شرع الله قتل ما يباح قتله من الآدميين والبهائم إذا قدر عليه على هذا الوجه. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء. فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة. وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح. وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته» . رواه مسلم. وقال: «إن أعف الناس قتلة أهل الإيمان» . وأما الصلب المذكور فهو رفعهم على مكان عال ليراهم الناس ويشتهر أمرهم، وهو بعد القتل، عند جمهور العلماء. ومنهم من قال: يصلبون ثم يقتلون وهم مصلوبون. وقد جوز بعض الفقهاء قتلهم بغير السيف حتى قال: يتركون على المكان العالي حتى يموتوا حتف أنوفهم بلا قتل.

الخامسة: تتمة الآية. أعني قوله تعالى: ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم تدل على أن المحاربين يعاقبون في الدنيا والآخرة مطلقا. ولا يكون الحد المذكور طهرة لهم، ولو كانوا مسلمين.

[ ص: 1964 ] قال السيوطي في "الإكليل": قال ابن الفرس: ظاهره أن عقوبة المحارب لا تكون كفارة له، كما تكون في سائر الحدود.

وقال العارف الشعراني في "ميزانه": سمعت شيخنا، شيخ الإسلام زكريا رحمه الله يقول: لم يرد لنا أن أحدا يؤخذ بذنبه في الدنيا والآخرة معا، إلا المحاربين، لقوله تعالى: ذلك لهم خزي الآية.

وقال ابن كثير: هذا يرجح رواية نزولها في المشركين. فأما أهل الإسلام ففي "صحيح مسلم" عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أخذ على النساء، ألا نشرك بالله شيئا ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ولا يعضه بعضنا بعضا. فمن وفى منكم فأجره على الله تعالى، ومن أتى منكم حدا فأقيم عليه فهو كفارته، ومن ستره الله فأمره إلى الله. إن شاء عذبه وإن شاء غفر له.

السادسة: دل قوله تعالى: إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم على أن توبة المحاربين، قبل الظفر بهم، تسقط عنهم حد المحاربين المذكور في الآية. سواء كانوا مشركين أو مسلمين. وهو مروي عن علي وأبي هريرة والسدي وغيره. وقد قال الهادي: إذا تاب المحارب قبل الظفر به، سقط عنه كل تبعة من قتل أو دين، لعموم الآية.

قال ابن كثير: أما على قول من قال: إنها في أهل الشرك فظاهر. أي: فإنهم إذا آمنوا قبل القدرة عليهم، سقط عنهم جميع الحدود المذكورة. فلا يطالبون بشيء مما أصابوا من مال أو دم. قال أبو إسحاق: جعل الله التوبة للكفار تدرأ عنهم الحدود التي وجبت عليهم في كفرهم، ليكون ذلك داعيا لهم إلى الدخول في الإسلام. وأما المحاربون المسلمون، فإذا تابوا قبل القدرة عليهم فإنه يسقط عنهم تحتم القتل والصلب وقطع الرجل. وهل يسقط قطع اليد؟ فيه قولان للعلماء. وظاهر الآية يقتضي سقوط الجميع، وعليه عمل الصحابة [ ص: 1965 ] كما روى ابن أبي حاتم عن الشعبي قال: كان حارثة بن بدر التميمي من أهل البصرة - وكان قد أفسد في الأرض وحارب - فكلم رجالا من قريش منهم: الحسن بن علي وابن عباس وعبد الله بن جعفر؛ فكلموا عليا فيه فلم يؤمنه. فأتى سعيد بن قيس الهمداني، فخلفه في داره ثم أتى عليا فقال: يا أمير المؤمنين! أرأيت من حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادا - فقرأ حتى بلغ: إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فقال: اكتب له أمانا. قال سعيد بن قيس: فإنه جارية بن بدر. وكذا رواه ابن جرير من غير وجه عن مجالد عن الشعبي، فقال حارثة بن بدر:


ألا أبلغا همدان إما لقيتها على النأي لا يسلم عدو يعيبها

لعمر أبيها إن همدان تتقي الـ
إله ويقضي بالكتاب خطيبها


وروى ابن جرير - من طريق سفيان الثوري عن السدي، ومن طريق أشعث - كلاهما. عن عامر الشعبي قال: جاء رجل من مراد إلى أبي موسى - وهو على الكوفة في إمرة عثمان رضي الله عنه - بعد ما صلى المكتوبة فقال: يا أبا موسى! هذا مقام العائذ بك. أنا فلان بن فلان المرادي. كنت حاربت الله ورسوله، وسعيت في الأرض فسادا، وإني تبت من قبل أن تقدروا علي. فقام أبو موسى فقال: إن هذا فلان بن فلان. وإنه كان حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادا، وإنه تاب من قبل أن يقدر عليه، فمن لقيه فلا يعرض له إلا بخير، (فإن يك صادقا فسبيل من صدق. وإن يك كاذبا تدركه ذنوبه). فأقام الرجل ما شاء الله، ثم إنه خرج فأدركه الله بذنوبه فقتله. ثم قال ابن جرير: حدثني علي، حدثنا الوليد بن مسلم، قال: قال الليث. وكذلك حدثني موسى بن إسحاق المدني، وهو الآمر عندنا، [ ص: 1966 ] أن عليا الأسدي حارب وأخاف السبيل، وأصاب الدم والمال، فطلبه الأئمة والعامة، فامتنع ولم يقدر عليه حتى جاء تائبا، وذلك أنه سمع رجلا يقرأ هذه الآية: قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم فوقف عليه فقال: يا عبد الله! أعد قراءتها. فأعادها عليه. فغمد سيفه ثم جاء تائبا حتى قدم المدينة من السحر. فاغتسل. ثم أتى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فصلى الصبح ثم قعد إلى أبي هريرة في غمار أصحابه. فلما أسفر عرفه الناس فقاموا إليه. فقال أبو هريرة: صدق. وأخذ بيده أبو هريرة حتى أتى مروان بن الحكم - في إمرته على المدينة في زمن معاوية - فقال: هذا علي جاء تائبا ولا سبيل لكم عليه ولا قتل. قال: فترك من ذلك كله. قال: وخرج علي تائبا مجاهدا في سبيل الله في البحر. فلقوا الروم. فقربوا سفينته إلى سفينة من سفنهم. فاقتحم على الروم في سفينتهم. فهزموا منه إلى سفينتهم الأخرى. فمالت بهم وبه. فغرقوا جميعا.

هذا، وفي تفسير بعض الزيدية - نقلا عن زيد والنفس الزكية والمؤيد بالله وأبي حنيفة ومالك والشافعي - أن توبة المحارب تسقط الحدود لله، دون حقوق بني آدم من قتل أو مال، لقوله تعالى: كتب عليكم القصاص في القتلى وقوله: وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس [ ص: 1967 ] وقوله تعالى: ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا وقوله صلى الله عليه وسلم: «على اليد ما أخذت حتى ترد» ، وقوله عليه الصلاة والسلام «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه» . قال في "شرح الإبانة": وروى زيد بن علي بإسناده إلى أمير المؤمنين علي عليه السلام; أن قاطع الطريق، إذا تاب قبل أن يؤخذ وظفر به الإمام. ضمن المال واقتص منه. ثم قال: أما الكافر فلا خلاف أن توبته تسقط عنه جميع الحدود. انتهى.

وأخرج أبو داود والنسائي عن ابن عباس قال: نزلت في المشركين، فمن تاب منهم قبل أن يقدر عليه لم يكن عليه سبيل.

وليست تحرز هذه الآية الرجل المسلم من الحد، إن قتل أو أفسد في الأرض أو حارب الله ورسوله.
[ ص: 1968 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[35] يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون

يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا - أي اطلبوا -: إليه الوسيلة أي: القربة - كذا فسره ابن عباس ومجاهد وأبو وائل والحسن وزيد وعطاء والثوري وغير واحد. وقال قتادة: أي: تقربوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه. وقرأ ابن زيد: أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة . قال ابن كثير: وهذا الذي قاله هؤلاء الأئمة، لا خلاف بين المفسرين فيه. وفي "القاموس وشرحه": الوسيلة والواسلة: المنزلة عند الملك والدرجة والقربة والوصلة. وقال الجوهري: الوسيلة: ما يتقرب به إلى الغير. والتوسيل والتوسل الواحد. يقال: وسل إلى الله تعالى توسيلا، عمل عملا تقرب به إليه، كتوسل. و (إلى) يجوز أن يتعلق ب (ابتغوا) وأن يتعلق ب (الوسيلة).

قدم عليها للاهتمام به: وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون أي: بسبب المجاهدة في سبيله. وقد بين كثير من الآيات أن المجاهدة بالأموال والأنفس.

تنبيه:

ما ذكرناه في تفسير "الوسيلة" هو المعول عليه. وقد أوضحه إيضاحا لا مزيد عليه، تقي الدين بن تيمية عليه الرحمة في "كتاب الوسيلة" فرأينا نقل شذرة منه؛ إذ لا غنى للمحقق في علم التفسير عنه.

قال رحمه الله بعد مقدمات:

إن لفظ الوسيلة والتوسل، فيه إجمال واشتباه، يجب أن تعرف معانيه ويعطى كل ذي حق حقه. فيعرف ما ورد به الكتاب والسنة من ذلك ومعناه. وما كان يتكلم به الصحابة ويفعلونه ومعنى ذلك. ويعرف ما أحدثه المحدثون في هذا اللفظ ومعناه. فإن كثيرا من اضطراب الناس في هذا الباب هو بسبب ما وقع من الإجمال والاشتراك في الألفاظ ومعانيها، [ ص: 1969 ] حتى تجد أكثرهم لا يعرف في هذا الباب فصل الخطاب. فلفظ الوسيلة مذكور في القرآن في قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وفي قوله تعالى: قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا فالوسيلة التي أمر الله أن تبتغى إليه، وأخبر عن ملائكته وأنبيائه أنهم يبتغونها إليه، هي ما يتقرب به إليه من الواجبات والمستحبات، فهذه الوسيلة التي أمر الله المؤمنين بابتغائها تتناول كل واجب ومستحب، وما ليس بواجب ولا مستحب لا يدخل في ذلك، سواء كان محرما أو مكروها أو مباحا، فالواجب والمستحب هو ما شرعه الرسول فأمر به أمر إيجاب واستحباب. وأصل ذلك الإيمان بما جاء به الرسول. فجماع الوسيلة التي أمر الله الخلق بابتغائها، هو التوسل إليه باتباع ما جاء به الرسول، لا وسيلة لأحد إلى الله إلا ذلك.

والثاني - لفظ الوسيلة في الأحاديث الصحيحة كقوله صلى الله عليه وسلم: «سلوا الله لي الوسيلة؛ فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله. وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد. فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة» . وقوله: «من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة» . فهذه الوسيلة للنبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 1970 ] خاصة. وقد أمرنا أن نسأل الله له هذه الوسيلة. وأخبرنا أنها لا تكون إلا لعبد من عباد الله. وهو يرجو أن يكون ذلك العبد، وهذه الوسيلة أمرنا أن نسألها للرسول صلى الله عليه وسلم. وأخبرنا أن من سأل له الوسيلة فقد حلت عليه الشفاعة يوم القيامة. لأن الجزاء من جنس العمل. فلما دعوا للنبي صلى الله عليه وسلم استحقوا أن يدعو هو لهم. فإن الشفاعة نوع من الدعاء. كما قال: إنه من صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشرا. وأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم والتوجه به في كلام الصحابة، فيريدون به التوسل بدعائه وشفاعته. والتوسل به في عرف كثير من المتأخرين يراد به الإقسام به والسؤال به. كما يقسمون بغيره من الأنبياء والصالحين. ومن يعتقدون فيه الصلاح. وحينئذ، فلفظ التوسل به يراد به معنيان صحيحان باتفاق المسلمين. ويراد به معنى ثالث لم ترد به السنة. فأما المعنيان الأولان الصحيحان باتفاق العلماء، فأحدهما هو أصل الإيمان والإسلام، وهو التوسل بالإيمان به وبطاعته. والثاني: دعاؤه وشفاعته كما تقدم. فهذان جائزان بإجماع المسلمين. ومن هذا قول عمر بن الخطاب: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا. أي: بدعائه وشفاعته. وقوله تعالى: وابتغوا إليه الوسيلة أي: القربة إليه بطاعته. وطاعة رسوله طاعته; قال تعالى: من يطع الرسول فقد أطاع الله فهذا التوسل الأول هو أصل الدين، وهذا لا ينكره أحد من المسلمين. وأما التوسل بدعائه وشفاعته - كما قال عمر - فإنه توسل بدعائه لا بذاته، ولهذا عدلوا عن التوسل به إلى التوسل بعمه العباس، [ ص: 1971 ] ولو كان التوسل هو بذاته لكان هذا أولى من التوسل بالعباس. فلما عدلوا عن التوسل به إلى التوسل بالعباس، علم أن ما يفعل في حياته قد تعذر بموته. بخلاف التوسل الذي هو الإيمان به والطاعة له، فإنه مشروع دائما.

فلفظ التوسل يراد به ثلاث معان:

أحدهما: التوسل بطاعته. فهذا فرض لا يتم الإيمان إلا به.

والثاني: التوسل بدعائه وشفاعته وهذا كان في حياته، ويكون يوم القيامة يتوسلون بشفاعته.

والثالث: التوسل به. بمعنى الإقسام على الله بذاته والسؤال بذاته. فهذا هو الذي لم تكن الصحابة يفعلونه في الاستسقاء ونحوه، لا في حياته ولا في مماته، لا عند قبره ولا غير قبره، ولا يعرف هذا في شيء من الأدعية المشهورة بينهم. وإنما ينقل شيء من ذلك في أحاديث ضعيفة مرفوعة وموقوفة. أو عن من ليس قوله حجة، وهذا هو الذي قال أبو حنيفة وأصحابه: إنه لا يجوز. ونهوا عنه حيث قالوا: لا يسأل بمخلوق، ولا يقول أحد: أسألك بحق أنبيائك. قال أبو الحسين القدوري في كتابه الكبير في الفقه المسمى ب "شرح الكرخي" في باب الكراهة: وقد ذكر هذا غير واحد من أصحاب أبي حنيفة. قال بشر بن الوليد: حدثنا أبو يوسف قال: قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو إلا به. وأكره أن يقول: بمعاقد العز من عرشك، أو بحق خلقك. وهو قول أبي يوسف. قال أبو يوسف: بمعقد العز من عرشه هو الله. فلا أكره هذا. وأكره أن يقول: بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت الحرام والمشعر الحرام. قال القدوري: المسألة بخلقه لا تجوز. لأنه لاحق للخلق على الخالق. فلا تجوز وفاقا.

وهذا الذي قاله أبو حنيفة وأصحابه - من أن الله لا يسأل بمخلوق - له معنيان: أحدهما هو موافق لسائر الأئمة الذين يمنعون أن يقسم أحد بالمخلوق، فإنه إذا منع أن يقسم على مخلوق بمخلوق، فلأن يمنع أن يقسم على الخالق بمخلوق أولى وأحرى. وهذا بخلاف [ ص: 1972 ] إقسامه سبحانه بمخلوقاته: ك: والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى والشمس وضحاها والنازعات غرقا والصافات صفا - فإن إقسامه بمخلوقاته يتضمن من ذكر آياته الدالة على قدرته وحكمته ووحدانيته، ما يحسن معه إقسامه. بخلاف المخلوق، فإن إقسامه بالمخلوقات شرك بخالقها. كما في "السنن" عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من حلف بغير الله فقد أشرك» . وقد صححه الترمذي وغيره. وفي لفظ: «فقد كفر» . وقد صححه الحاكم. وقد ثبت عنه في "الصحيحين" أنه قال: «من كان حالفا فليحلف بالله. وقال: لا تحلفوا بآبائكم فإن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم» . وفي "الصحيحين" عنه أنه [ ص: 1973 ] قال: «من حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله» . وقد اتفق المسلمون على أنه من حلف بالمخلوقات المحترمة، أو بما يعتقد هو حرمته - كالعرش والكرسي والكعبة والمسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم والملائكة والصالحين والملوك وسيوف المجاهدين وترب الأنبياء والصالحين وسراويل الفتوة وغير ذلك... - لا ينعقد يمينه، ولا كفارة في الحنث بذلك. والحلف بالمخلوقات حرام عند الجمهور، وهو مذهب أبي حنيفة، وأحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد. وقد حكى إجماع الصحابة على ذلك. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[36] إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم

إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض

من الأموال وغيرها: جميعا ومثله معه ليفتدوا به أي: ليفادوا به أنفسهم: من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم وهذا تمثيل للزوم العذاب لهم، وإنه لا سبيل لهم إلى النجاة منه بوجه.

[ ص: 1974 ] وقد روى البخاري عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبا أكنت تفتدي به؟ فيقول: نعم. فيقال له: قد كنت سئلت ما هو أيسر من ذلك: أن لا تشرك بي. فيؤمر به إلى النار» . ورواه مسلم وغيره بنحوه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[37] يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم

يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم دائم لا ينقطع. وهذا كما قال تعالى: كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها الآية.

روى ابن مردويه عن يزيد بن صهيب الفقير، عن جابر بن عبد الله. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يخرج من النار قوم فيدخلون الجنة» . قال: فقلت لجابر بن عبد الله، يقول الله: يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها قال: اتل أول الآية: إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به الآية. ألا إنهم الذين كفروا. [ ص: 1975 ] وقد روى الإمام أحمد ومسلم هذا الحديث من وجه آخر. عن يزيد الفقير عن جابر وهذا أبسط سياقا.

[ ص: 1976 ] زاد ابن أبي حاتم: قال جابر: أما تقرأ القرآن؟ قلت: بلى. قد جمعته قال: أليس الله يقول: ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ؟ فهو ذلك المقام، فإن الله تعالى يحبس أقواما بخطاياهم في النار ما شاء، لا يكلمهم، فإذا أراد أن يخرجهم أخرجهم.

ولما أوجب تعالى - في الآية المتقدمة - قطع الأيدي والأرجل عند أخذ المال على سبيل المحاربة - بين أن أخذ المال على سبيل السرقة يوجب قطع الأيدي والأرجل أيضا، فقال سبحانه:




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 50.43 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 49.80 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.25%)]