عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 05-11-2022, 09:09 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,740
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1765 الى صـ 1772
الحلقة (282)




وقد ذكر السيد عبد الله الهندي في مناظرته مع قسيس الهند حكاية عن مناظره أنه [ ص: 1765 ] حكى أن فرقة من النصارى تسمى (كولى ري دينس) كانت تقول: الآلهة ثلاثة: الأب والابن ومريم، قال: ولعل هذا الأمر كان مكتوبا في نسخهم؛ لأن القرآن كذبهم. انتهى.

أو التقدير: ولا تقولوا: الله ثلاثة، أي: ثلاثة أقانيم، وفي تعاليمهم المدرسية المطبوعة الآن ما نصه: أخص أسرار المسيحية سر الثالوث، وهو إله واحد في ثلاثة أقانيم: الأب والابن وروح القدس.

والأب هو الله، والابن هو الله، وروح القدس هو الله، وليسوا ثلاثة آلهة، بل إله واحد موجود في ثلاثة أقانيم متساوين في الجوهر، ومتميزين فيما بينهم بالأقنومية؛ وذلك لأن لهم جوهرا واحدا ولاهوتا واحدا، وذاتا واحدة، وليس أحد هذه الأقانيم الثلاثة أعظم أو أقدم أو أقدر من الآخرين؛ لكون الثلاثة متساوية في العظمة والأزلية والقدرة وفي كل شيء، ما عدا الأقنومية، ولا نقدر أن نفهم جيدا هذه الحقائق؛ لأنها أسرار فائقة العقل والإدراك البشري. انتهى كلامهم في تعليمهم المدرسي المطبوع في بيروت سنة (1876) مسيحية.

فانظر إلى هذا التناقض والتمويه، يعترفون بأن الثلاثة آلهة، ثم يناقضون قولهم وينكرون ذلك.

ونقل العلامة الشيخ رحمة الله الهندي في كتابه "إظهار الحق" عن صاحب "ميزان الحق" النصراني أنه قال: نحن لا نقول: إن الله ثلاثة أشخاص أو شخص واحد، بل نقول بثلاثة أقانيم في الوحدة، وبين الأقانيم الثلاثة وثلاثة أشخاص بعد السماء والأرض. انتهى.

قال رحمة الله: وهذه مغالطة صرفة؛ لأن الموجود لا يمكن أن يوجد بدون التشخص، فإذا فرض أن الأقانيم موجودون وممتازون بالامتياز الحقيقي - كما صرح هو بنفسه في كتبه - فالقول بوجود الأقانيم الثلاثة هو بعينه القول بوجود الأشخاص الثلاثة، على أنه وقع في الصحيفة التاسعة والعشرين من كتاب الصلاة، الرائج في كنيسة إنكلترة، المطبوع سنة (1818) ما ترجمته: أيها الثلاثة المقدسون والمباركون والعالون منزلة، الذين هم واحد. يعني ثلاثة أشخاص وإلها واحدا، فوقع فيه ثلاثة أشخاص صريحا، وكذلك مملوءة بعبارات [ ص: 1766 ] مصرحة بأن عيسى ابن الله، وأنه الله، وأن مريم أم الله وزوجة الله، ويسجدون لها ولصورتها السجود المحرم في كتبهم لغير الله، كما يسجدون لله، نسأله سبحانه وتعالى الحفظ، ونعوذ به من الخذلان وتسويلات الشيطان.

ولقد شفى الغليل الأستاذ الجليل الشيخ رحمة الله في "إظهار الحق" فساق - في الباب الرابع منه - إبطال التثليث بالبراهين الدامغة والحجج البالغة.

كما رد عليهم من المسلمين وممن أسلم منهم عدد وافر يفوت الحصر، وقد انتشر - ولله الحمد - في ذلك مؤلفات نافعة، بل رد عليهم فرق كثيرة منهم.

فقد جاء في كتاب "الرأي الصواب وفصل الخطاب" للقس جبارة ما صورته: إن المسيحيين الموحدين الذين ظهروا منذ (80) سنة في أميركا ولهم الآن ثلاثمائة كنيسة، والدرجة الأولى في المعارف والمدارس والاجتماعات الأدبية، وكذلك لهم في إنكلترا ثلاثمائة كنيسة، وتآليف عديدة معتبرة، ويعتبرون القرآن كما يعتبرون الإنجيل والتوراة كتبا إلهية - لا يؤمنون بتثليث الآلهة، أي أنهم لا يعتقدون بكون السيد المسيح أو الروح القدس هو إله حقيقي، كالله الواجب الوجود، بل يعتقدون أن الله وحده هو الإله الحق. انتهى.

وفيه أيضا ما لفظه: كل الكتب المنزلة تعلم بالوحدانية وتنفي تثليث الآلهة، أو كون الله ثلاثة، وتعلن صريحا بأوضح العبارة أن الله واحد أحد، وأنه لا إله حقا سواه. انتهى.

وفي كتاب "سوسنة سليمان" ذكر فرق منهم متعددة صارت إلى إنكار ألوهية المسيح والروح القدس، وهذا الكتاب ساق من فرقهم العتيقة والحديثة واختلافهم ما يقضي بالعجب، مما يؤيد ما قاله الحافظ ابن كثير من أن لهم آراء مختلفة وأقوالا غير مؤتلفة. ولقد أحسن بعض المتكلمين حيث قال: لو اجتمع عشرة من النصارى لافترقوا عن أحد عشر قولا. انتهى.

قال شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية في "الرسالة القبرصية": فتفرق النصارى في التثليث والاتحاد تفرقا، وتشتتوا تشتيتا لا يقر به عاقل، ولم يجئ نقل إلا كلمات متشابهات في الإنجيل وما قبله من الكتب، قد بينتها كلمات محكمات في الإنجيل وما قبله، كلها تنطق [ ص: 1767 ] بعبودية المسيح وعبادته لله وحده، ودعائه وتضرعه.

ولما كان أصل الدين هو الإيمان بالله ورسله كان أمر الدين توحيد الله والإقرار برسله، فأرباب التثليث في الوحدانية والاتحاد في الرسالة قد دخل في أصل دينهم من الفساد ما هو بين بفطرة الله التي فطر الناس عليها، وبكتب الله التي أنزلها. انتهى.

وقد اجتمع لدي - بحمده تعالى - حين كتابة هذه السطور عشرون مؤلفا في الرد عليهم، وكلها - ولله الحمد - مطبوعة منتشرة، فلا حاجة للإطالة بالنقل عنها؛ لسهولة الوقوف عليها.

قال الماوردي في "أعلام النبوة": فأما النصارى فقد كانوا قبل أن تنصر قسطنطين الملك على دين صحيح في توحيد الله تعالى ونبوة عيسى - عليه السلام - ثم اختلفوا في عيسى بعد تنصر قسطنطين، وهو أول من تنصر من ملوك الروم، أي: لأن الروم كانت صابئة، ثم قهرهم على التنصر قسطنطين لما ملكهم.

فقال أوائل النسطورية: إن عيسى هو الله.

وقال أوائل اليعاقبة: إنه ابن الله.

وقال أوائل الملكانية: إن الآلهة ثلاثة، أحدهم عيسى.

ثم عدل أواخرهم عن التصريح بهذا القول المستنكر، حين استنكرته النفوس، ودفعته العقول، فقالوا: إن الله تعالى جوهر واحد، هو ثلاثة أقانيم، أقنوم الأب، وأقنوم الابن، وأقنوم روح القدس، وأنها واحدة في الجوهرية، وأن أقنوم الأب هو الذات، وأقنوم الابن هو الكلمة، وأقنوم روح القدس هو الحياة.

واختلفوا في الأقانيم، فقال بعضهم: هي خواص، وقال بعضهم: هي أشخاص، وقال بعضهم: هي صفات، وقالوا: إن الكلمة اتحدت بعيسى ، واختلفوا في الاتحاد.

ثم قال: وليس لهذه المذاهب شبهة تقبلها العقول، وفسادها ظاهر في المعقول.

وقوله تعالى: انتهوا أي: عن التثليث خيرا لكم أي: انتهاء خيرا، أو اقصدوا خيرا من التثليث وهو التوحيد.

إنما الله إله واحد أي: بالذات، لا تعدد فيه بوجه ما.

وبقوله: سبحانه أن يكون له ولد تنزيه لمقامه - جل شأنه - عما زعموه من بنوة عيسى؛ [ ص: 1768 ] حيث قالوا: إنه الله وابن الله، والذي أوقعهم في هذه المهلكة الوخيمة، والورطة الجسيمة - ما ورد موهما من ألفاظ الإنجيل كالأب والابن، فلم يحملوها على ما أريد منها، وحملوها على ظاهرها، فضلوا وأضلوا.

وفي "منية الأذكياء" ما نصه: وأما ما ورد في الإنجيل الموجود الآن من إطلاق ابن الله على عيسى - عليه السلام - فهو إن لم يكن مما حرف يكون مجازا، بمعنى ابن المحبة، كما يقال: فلان من أبناء الدنيا.

ونظير ذلك قول عيسى - عليه السلام – لليهود حين ادعوا أن لهم أبا واحدا هو الله: (لو كان الله أباكم لكنتم تحبونني) ثم قال لهم: (أنتم من أب هو إبليس، وشهوات أبيكم تريدون أن تعلموا) ادعت اليهود أن الله تعالى أبوهم، أي أنهم مطيعون له إطاعة الابن للأب، فكذبهم عيسى - عليه السلام - وجعلهم أبناء الشيطان، أي: أنهم مطيعون له، ولا يخفى أن الابن والأب هنا مجازان.

وقد كثر إطلاق اسم الأب على الله تعالى، واسم الابن على العبد الصالح - في الكتب السالفة، فهو إما من الخبط في الترجمة، وإما مؤول بما ذكرنا، فلا تغفل.

لكن قد منع من هذا الإطلاق في الملة المحمدية بالكلية؛ تحرزا من الإيهام والوقوع في شرك الأوهام، وهذا هو الطريق الرشد.

وقوله تعالى: له ما في السماوات وما في الأرض تعليل لتنزهه مما نسب إليه، بمعنى أن كل ما فيهما خلقه وملكه، فكيف يكون بعض ملكه جزءا منه؟! إذ البنوة والملك لا يجتمعان.

وكفى بالله وكيلا أي: إليه يكل كل الخلق أمورهم، وهو غني عنهم، فأنى يتصور في حقه اتخاذ الولد، الذي هو شأن العجزة المحتاجين في تدبير أمورهم إلى من يخلفهم ويقوم مقامهم، وقوله تعالى:
[ ص: 1769 ] القول في تأويل قوله تعالى:

لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا [172]

لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله جملة مستأنفة لتقرير ما سبق من التنزيه، أي: لن يأنف من أن يكون عبدا لله، فإن عبوديته شرف يتباهى به.

ولا الملائكة المقربون من أن يكونوا عبيدا له تعالى، واحتج بالآية من زعم فضل الملائكة على الأنبياء.

قال الزمخشري : أي: ولا من هو أعلى منه قدرا، وأعظم منه خطرا، وهم الملائكة الكروبيون، الذين حول العرش، كجبريل وميكائيل وإسرافيل ، ومن في طبقتهم.

ثم قال: فإن قلت: من أين دل قوله: ولا الملائكة المقربون على أن المعنى: ولا من فوقه؟ قلت: من حيث إن علم المعاني لا يقتضي غير ذلك، وذلك أن الكلام إنما سيق لرد مذهب النصارى وغلوهم في رفع المسيح عن منزلة العبودية، فوجب أن يقال لهم: لن يترفع عيسى عن العبودية، ولا من هو أرفع منه درجة، كأنه قيل: لن يستنكف الملائكة المقربون من العبودية، فكيف بالمسيح ؟ ويدل عليه دلالة ظاهرة بينة تخصيص المقربين؛ لكونهم أرفع الملائكة درجة وأعلاهم منزلة، ومثاله قول القائل:


وما مثله من يجاود حاتم ولا البحر ذو الأمواج يلتج زاخره


لا شبهة في أنه قصد بالبحر ذي الأمواج ما هو فوق حاتم في الجود، ومن كان له [ ص: 1770 ] ذوق فليذق مع هذه الآية قوله: ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى [البقرة: 120] حتى يعترف بالفرق البين. انتهى.

قال البيضاوي : وجوابه أن الآية للرد على عبدة المسيح والملائكة، فلا يتجه ذلك، وإن سلم اختصاصها بالنصارى فلعله أراد بالعطف المبالغة باعتبار التكثير دون التكبير، كقولك: أصبح الأمير لا يخالفه رئيس ولا مرؤوس، وإن أراد به التكبير فغايته تفضيل المقربين من الملائكة، وهم الكروبيون الذين هم حول العرش، أو من أعلى منهم رتبة من الملائكة على المسيح من الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - وذلك لا يستلزم فضل أحد الجنسين على الآخر مطلقا والنزاع فيه. انتهى.

قال ناصر الدين في "الانتصاف": وقد كثر الاختلاف في تفضيل الأنبياء على الملائكة ، فذهب جمهور الأشعرية إلى تفضيل الأنبياء، وذهب القاضي أبو بكر - منا - والحليمي وجماعة المعتزلة إلى تفضيل الملائكة، واتخذ المعتزلة هذه الآية عمدتهم في تفضيل الملائكة، من حيث الوجه الذي استدل به الزمخشري .

ونحن - بعون الله - نشبع القول في المسألة من حيث الآية، فنقول: أورد الأشعرية على الاستدلال بها أسئلة:

أحدها: أن سيدنا محمدا عليه - أفضل الصلاة والسلام - أفضل من عيسى - عليه الصلاة والسلام - فلا يلزم من كون الملائكة أفضل من المسيح أن تكون أفضل من محمد - عليه الصلاة والسلام - وهذا السؤال إنما يتوجه إذ لم يدع مورده أن كل واحد من آحاد الأنبياء أفضل من كل واحد من آحاد الملائكة. وبين طائفتنا في هذه الطرف خلاف.

(السؤال الثاني) أن قوله: ولا الملائكة المقربون صيغة جمع، تتناول مجموع الملائكة، فهذا يقتضي كون مجموع الملائكة أفضل من المسيح [ ص: 1771 ] ولا يلزم أن يكون كل واحد منهم أفضل من المسيح ، وفي هذا السؤال أيضا نظر؛ لأن مورده إذا بنى على أن المسيح أفضل من كل واحد من آحاد الملائكة فقد يقال يلزمه القول بأنه أفضل من الكل، كما أن النبي - عليه الصلاة والسلام - لما كان أفضل من كل واحد من آحاد الأنبياء كان أفضل من كلهم، ولم يفرق بين التفضيل على التفصيل والتفضيل على الجملة أحد ممن صنف في هذا المعنى.

وقد كان بعض المعاصرين يفصل بين التفضيلين، وادعى أنه لا يلزم منه على التفصيل تفضيل على الجملة، ولم يثبت عنه هذا القول، ولو قاله أحد فهو مردود بوجه لطيف، وهو: أن التفضيل المراد جل أماراته رفع درجة الأفضل في الجنة، والأحاديث متوافرة بذلك، وحينئذ لا يخلو إما أن ترفع درجة واحد من المفضولين على من اتفق على أنه أفضل من كل واحد منهم، أو لا ترفع درجة أحد منهم عليه، لا سبيل إلى الأول؛ لأنه يلزم منه رفع المفضول على الأفضل، فتعين الثاني وهو ارتفاع درجة الأفضل على درجات المجموع ضرورة، فيلزم ثبوت أفضليته على المجموع من ثبوت أفضليته على كل واحد منهم قطعا.

الثالث: أنه عطف الملائكة على المسيح بالواو، وهي لا تقتضي ترتيبا، وأما الاستشهاد بالمثال المذكور على أن الثاني أبدا يكون أعلى رتبة - فمعارض بأمثلة لا تقتضي ذلك، كقول القائل: ما عابني على هذا الأمر زيد ولا عمرو. قلت: وكقولك: لا تؤذ مسلما ولا ذميا، فإن هذا الترتيب وجه الكلام، والثاني أدنى وأخفض درجة، ولو ذهبت تعكس هذا فقلت: لا تؤذ ذميا ولا مسلما ليجعل الأعلى ثانيا - لخرجت عن حد الكلام وقانون البلاغة. وهذا المثال بين ما يورد في نقض القانون المقرر، ولكن الحق أولى من المراء، وليس بين المثالين تعارض.

ونحن نمهد تمهيدا يرفع اللبس ويكشف الغطاء، فنقول: النكتة في الترتيب في المثالين الموهوم تعارضهما واحدة، وهي توجب في مواضع تقديم الأعلى، وفي مواضع تأخيره، وتلك النكتة مقتضى البلاغة، التنائي عن التكرار والسلامة عن النزول، فإذا اعتمدت ذلك فمهما أدى إلى أن يكون آخر كلامك نزولا بالنسبة [ ص: 1772 ] إلى أوله، أو يكون الآخر مندرجا في الأول، قد أفاده، وأنت مستغن عن الآخر - فأعدل عن ذلك إلى ما يكون ترقيا من الأدنى إلى الأعلى، واستئنافا لفائدة لم يشتمل عليها الأول، مثاله الآية المذكورة، فإنك لو ذهبت فيها إلى أن يكون المسيح أفضل من الملائكة وأعلى رتبة لكان ذكر الملائكة بعده كالمستغنى عنه؛ لأنه إذا كان الأفضل وهو المسيح - على هذا التقدير - عبدا لله غير مستنكف من العبودية - لزم من ذلك أن من دونه في الفضيلة أولى أن لا يستنكف عن كونه عبدا لله، وهم الملائكة على هذا التقدير، فلم يتجدد إذا بقوله: ولا الملائكة المقربون إلا ما سلف أول الكلام.

وإذا قدرت المسيح مفضولا بالنسبة إلى الملائكة فإنك ترقيت من تعظيم الله تعالى بأن المفضول لا يستنكف عن كونه عبدا له، إلا أن الأفضل لا يستنكف عن ذلك، وليس يلزم من عدم استنكاف المفضول عدم استنكاف الأفضل، فالحاجة داعية إلى ذكر الملائكة، إذ لم يستلزم الأول الآخر، فصار الكلام على هذا التقدير تتجدد فوائده وتتزايد، وما كان كذلك تعين أن يحمل عليه الكتاب العزيز؛ لأن الغاية في البلاغة.

وبهذه النكتة يجب أن نقول: لا تؤذ مسلما ولا ذميا، فتؤخر الأدنى على عكس الترتيب في الآية؛ لأنك إذا نهيته عن إيذاء المسلم فقد يقال: ذاك من خواصه؛ احتراما للإسلام، فلا يلزم من ذلك نهيه عن الكافر المسلوبة عنه هذه الخصوصية، فإذا قلت: ولا ذميا - فقد جددت فائدة لم تكن في الأول، وترقيت من النهي عن بعض أنواع الأذى إلى النهي عن أكثر منه.

ولو رتبت هذا المثال كترتيب الآية، فقلت: لا تؤذ ذميا، فهم المنهي أن أذى المسلم أدخل في النهي، إذ يساوي الذمي في سبب الاحترام - وهو الإنسانية مثلا - ويمتاز عنه بسبب أجل وأعظم وهو الإسلام، فيقنعه هذا النهي عن تجديد نهي آخر عن أذى المسلم.

فإن قلت: ولا مسلما، لم تجدد له فائدة، ولم تعلمه غير ما علمه أولا، فقد علمت أنها نكتة واحدة، توجب أحيانا تقديم الأعلى، وأحيانا تأخيره، ولا يميز لك ذلك إلا السياق، وما أشك أن سياق الآية يقتضي تقديم الأدنى وتأخير الأعلى.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 47.03 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 46.41 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.34%)]