عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 05-11-2022, 05:55 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,030
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شعراء الأندلس ورثاء الشباب

ويا ظِلَّ الشَّبابِ، وكُنْتَ تَنْدِى
على أفْياءِ سَرْحتِكَ السَّلامُ

يتقدَّم الشاعر في العمر، فيحنُّ إلى أيامه الأوائل، ويتمنَّى عودةَ أطايِبِه، باكيًا مَعاهِدَه، مُرسِلًا إليها السلام، بعدما دال عصرُها، وانقطع ريحُها الطيِّب، وخبرُها السارُّ، فيُطالب الغمام بمُساجلة دموعِه، والحَمامَ بمُطارحتِه بشجْوِهِ، وقد ولَّى جميلُ عمرِه.
لقد تميَّز الشعرُ الأندلسي بالحيوية والحركة، فبات مِن المألوف فيه كما هو الحال هنا، " أنْ تعدُو الذكرياتُ السعيدةُ مسترخيةً على وسادة الطبيعة الجميلة، كما نرى مشاعر الشاعر وهي تهتزُّ لسجْع الحمائم، وتهْفو للمصيف والمربع، مستمتعةً بالليل الساجي، والصبح الجميل... حين كانت السَّرحة تمتدُّ بظلالها، والبلابل تصدَح بألحانها، والحُقُول تندَى بمياهها"[5].

أمَّا "عبد الحق بن عطية" [6]، فإنه يصوِّر أيام فتاءته، ونضارة شبيبته، متحسِّرًا على فقدِها، وفقْد ما كان بها مِن لهوٍ ومُتع، فقد انقشع ظلُّ طلاوتِهِ وبهجتِهِ، والباقي آثارٌ أورثتْ قلبَه نارَ الأسى والأحزان. فيقول: [7] [من البسيط]
سَقْيًا لِعَهْدِ شَبابٍ ظَلْتُ أمْرَحُ في
رَيْعانِه وليالي العيشِ أَسْحَارُ

أيّامُ عَهْدِ الصِّبا لم تَذْوِ أَغْصُنه
ورَوْنَقُ العُمْرِ غَضٌّ والهوى جَارُ


إلى أن يقول:
عَهِدًا كَريمًا لَبِسْنَا مِنْهُ أَرْدِيةً
كانت عُيُونًا ومحَّتْ فَهْيَ آثَارُ

مَضَى وأبقى بِقَلْبِي مِنْه نَار أَسًى
كُوني سَلاَمًا وبَرْدًا فيه يا نَارُ


.... إلخ الأبيات، التي تصوِّر عُزوفه عن التَّصَابي، ورزانته وصلاحه، بعد المشيب، فالشاعر جدُّ حزينٍ على شبابه الدَّفين، خاصة وأنه جرى فيه طلق الجموح، والشطر الأخير من قوله -تعالى-:﴿ قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ [الأنبياء: 69][8].

وهذا أبو عبد الله، محمد بن عائشة البلنسي[9]، يصوِّر أحاسيسَه، بعدما أسنَّ واكتهل، وكان قبل قد "غدا على ما أحبَّ وراح، وجرى متهافتًا في ميدان ذلك المراح، وسنُّه قريبُ عهدٍ بالفطام، ودهرُه ينقاد للإسعاد في حطام، فلما اشتعل رأسُه شيبًا، وزرَّت عليه الكهولة جيبًا، أقصر عن تلك الهنات، واستيقظ مِن تلك السِّنات، وشبَّ عن ذلك الطوق، وأقصر عن الحنين والشوق، وقنع بإهداء تحية، وما يستشعره في وصف تلك المعاهد مِن أريحية." فيقول: [10] [من الطويل]
أآمَنُ شخصًا للمسرَّةِ بَادِيَا
وأنْدُبُ رَسْمًا للشَّبيبة بالِيَا

تولَّى الصِّبا إلَّا تواليَ ذِكْرة
قَدَحْتُ بها زندًا مِن الوَجْد وارِيَا

وقَدْ بانَ حُلْوُ العَيش إلَّا تَعِلَّةً
تُحَدِّثُني عنْها الأمانِي خَوَالِيَا

فيا بَرْدَ ذاك الماءِ هلْ منْك قَطْرةٌ
فها أنا أسْتَسْقِي غَمامَكَ نَاشِيَا


فجَع الشبابُ أحبابَه، وذويه، برحيله عنهم وتركهم إلى خصْمِه - المشيب - سالب الفتاءة والنضارة والحسن والطلاوة، فَبَكَوْهُ بكاءُ مُرًّا ينبئ عن عظيم حُبِّهم له، وكبيرِ رُزْئِهم في فقيدهم، عندئذ تمنَّو عودة - هذا الشباب - والتدثُّر بردائه.

ويَجري أبو الحسن بن الفضل[11]، وابن الصباغ[12] على سنَنِ مَن سَبق مِن الشعراء، في ندْب الشباب المفارق، والبكاء، مِن شيب المفارق، ومعنى هذين الشاعرين متقارب إلى حدٍّ كبير. وعلى المعنى نفسِه، يأتي ابنُ سهل، ولكنه يرى: أن رضَا الحبيب مستحيل، كما يستحيل رجوع الشباب، فيقول[13]: [من المجتث]
كَأنَّني حِين أَبْغِي
رِضَاكَ أَبْغِي الشَّبابا

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 18.91 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 18.28 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (3.32%)]