عرض مشاركة واحدة
  #6  
قديم 05-11-2022, 05:53 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,740
الدولة : Egypt
افتراضي رد: السعادة في الشعر

السعادة في الشعر


د. أحمد الخاني





ونتوقف عند هذه الصورة:
ولممت من بين الجداول ♦♦♦ همستي وصدى خيالي
لملم الشاعر همسته من أين؟ لملمها من بين الجداول، في الأدب العربي شعراء بعضهم أوحى بما يقترب من هذا المعنى كبدوي الجبل، ومن باب التداعي ذكرت له هنا بيته الذي يقول فيه:

لملمت ذكرى لقاء الأمس بالهدُب ♦♦♦ ورحت أحضرها في الخافق التعب
فهل نقول: هناك تواصل بين الشاعرين؟ بل نقول: هناك تصاقب، أو كما يقول نقادنا القدامى (حذو النعل على النعل) ومثل هذا ما حصل بيني وبين أخي الدكتور عبد الرحمن العشماوي، فقد كنت في الإمارات في مدينة العين، زارني وفد الشباب الإسلامي ودعوني إلى حفل أقيم للإشادة بالانتفاضة الإسلامية المباركة فقلت قصيدة عنوانها (لغة الحجارة) وبعد عودتي إلى الرياض كان صديقي رفيق النتشة سفير فلسطين في الرياض فدعاني إلى حفل مشابه لذاك وكنا ثمانية شعراء من بينهم العشماوي إذا به يقول: وهذه قصيدتي بعنوان (لغة الحجارة) ولم يسمع مني ولم أسمع منه لأن قصيدتي نشرت في جريدة القبس بعد ذلك. لملم شاعرنا همسته من بين الجداول، كما انه لملم صدى خياله، يا للفن المبدع! ويا لهذا التصوير الفني المحلق.

ويتنامى الحدث، إنه ينمو ويكبر.. وفيه لولب من الصور الرشيقة الخلابة، شاعرنا:
جمع الجواهر واللآلئ.
قطف من حلو الثمار
هجع في فيء الدوالي
ركض إلى التلال
نزل الأودية،
وجرى.. وأوهامه تجري أمامه.
ويظل يلهث وهو يجري وهي تجري
ولكن إلى أين؟
(شوقاً إلى دنيا الجمال) وماذا في دنيا الجمال؟ الحقيقة.
مد الشاعر كفيه بحثاً عنها.
مزق الدرب الطويل.
ويسير والأيام تركض.
وتفر الأحلام.
وتفر اللآلئ وكأنها أضحت لآلئ المتنبي في شعب بوان حيث قال:
وألقى الشرق منها في ثيابي دنانيراً تفر من البنان
ولكن دنانير المتنبي من ضياء الشمس، ولآلئ شاعرنا من بنات الأحلام.
ويكاد يمسك بهذه الآمال التي ترفرف على هدبيه أحلامها، وترف على أخيلته...
يا حسرتاه.

هكذا جاءت اللفظة تخفي وراءها عالماُ من معاني المعاناة والإحساس بها، لا أمرّ منه ولا أبلغ في ارتكاس الآمال وما خلّفها من آلام.
أدرك الشاعر أن المروج والزهر ومظاهر الحضارة التي تعب الشاعر في السعي لحيازتها ظناً منه أنها هي سر السعادة، إذا بأحلامه هذه كلها تتبخر، وبدأت المأساة، وهي خيبة الأمل في مظاهر الحضارة أن تكون السعادة ساكنة فيها ولكن..
وتظهر هذه الآثار السلبية على كيان الشاعر، فقد تصبب عرقاً وعاد من حيث بدأ، فإذا لم يجد الشاعر الحقيقة في مظاهر الحياة الخادعة، فليبحث عنها في مجال آخر عله يجدها هناك.

ربما كان طريق الهوى هو الطريق مع الرغاب الماجنات وماذا لاقى العقلاء في طريق الهوى؟ يجيب الأخطل الصغير في قصيدته (المسلول) عن هذا السؤال:
هذا قتيل هوى ببنت هوى
فإذا مررت بأختها فحُدِ

طريق الهوى تلوث لطهر الجمال وجناية على الصبا، وتحقير لكل القيم الجمالية في الطبيعة، وفي النفس الإنسانية،حتى إن الجنان قد تنكرت للجمال بعد أن رحل عنها ربيعها، فصوحت الواحة، وغابت تلك الظلال والأفياء... وكأن عالم الجمال كان وهماً من سراب، وحل الهجير، وحمى الهجير، ونار الهجير
وفي كل محطة من محطات الحياة يتوقف الشاعر بعد غياب الأمل وتعب الطريق فيصرخ مستنجداً مستغيثاً ربه سبحانه وتعالى: رباه..
ويومض قبس في الظلام، لقد أومض في نفس الشاعر، انبجس من أعماقه؛ إنه الإيمان. الإيمان بالله تعالى فهو السعادة.
يا لها من قصة شعرية تقمص فيها الشاعر الإنسان في رحلة الإيمان، فطاف في أرجاء ما يرتاده الناس بحثاً عن السعادة فلم يجدها خارج النفس الإنسانية.

الوحدة العضوية في النص:
هل النص وحدة عضوية؟ أم يتخلله الاستطراد على طريقة القصيدة النابغية المعلقة في عرف من عدها مع المعلقات وهي القصيدة الدالية ومطلعها:
يا دار مية بالعلياء فالسند
أقوت وطال عليها سالف الأبد

وهي النموذج للاستطراد في القصيدة العربية، أم أن قصيدة شاعرنا موحدة الموضوع؟
يبدأ النص الإخبار عن الجمال في حنينه إلى شبيهه، وفي تواثب صور الدلال ثم يأتي الأسلوب الإنشائي التعجبي في تنامي الحدث وهو يستمر بأسلوب يشبه السرد القصصي بأسلوب درامي يشبه المنولوج أو، حديث النفس؛ تغلغل في هذه الرؤى إخبار الشاعر عن نفسه والإخبار عن هؤلاء المخدوعين الذين لوثوا طهر الجمال، وسحقوا الأزاهير، ثم رجع في حمى الهجير يلهث.. يبحث عن الحقيقة إلى أن وجدها.
فالقصيدة من النوع الموحد الموضوع وليس فيها استطراد يخرج عن هالته.

ما وراء النص:
قرأنا النص، وتذوقناه وفهمناه وحللناه، فهل هذا غاية في ذاته؟ أم وراء ذلك غاية أبعد؟ وما تلك الغاية؟
هل غاية الدراسة الأدبية أن تقول: ألفاظ فصيحة وتراكيب بليغة؟ معان عميقة، عاطفة حارة؟...
بل وراء ذلك الشاعر، وهذا ما يهمنا.

أنا أتساءل: هل هذا النص من الأدب الواقعي؟ بمعنى: هل مر الشاعر فعلاً بهذه التجربة التي يطرحها؟ وهل ذاق فعلاً مرارة هذه المعاناة؟.
الجواب: إن الأدب هو التعبير عن الحياة، أو هو التعبير عن لحظات وجدانية في الحياة، هذا التعريف للأدب هو التعريف الشائع للآداب الإنسانية، وهذا النص من الأدب الإيماني؛ إنه أدب يضيء النفس الإنسانية، أو يضيء لها الطريق لتصل إلى السعادة.
وراء هذا النص الشاعر، فهل نحكم بغيابه؟ هل نحكم بغياب صاحب النص إذا ملكنا النص؟ لقد عرفنا أن وراء هذا النص فكراً رائداً، أو قائداً يقود النفس البشرية إلى الحق والخير والحب والسلام، ولو أن هذا النص ترجم إلى الآداب العالمية فربما ساهم في تخفيف المعاناة عن الإنسان الذي أضناه البحث عن السعادة.

فماذا عن الشاعر صاحب هذا النص؟.
حضور الشاعر صاحب النص:
شاعر هذه القصيدة، من الأرض المباركة، ولد فيها، ودرج على أرضها، واستظل بسمائها، وتنسم هواءها وارتوى من مائها، وغذته من لبانها، وجبلته بطبيعتها، وأوحت إليه من وحيها..

وإذا سألته عن العوامل المؤثرة في شعره، فسيكون الجواب:
1- العقيدة الإسلامية.
2- الدراسات والعلوم.
3- قراءات ودراسات في الأدب والشعر.
4– البيئة والتاريخ.
5- السفر والتجوال.

فكيف نلغي الشاعر؟! ولماذا نلغيه؟ نلغيه لأنه قال النص؟ وهل نشر النص يقطع الحبل السُّري بين الشاعر وبين النص الذي قاله؟ في الغرب كثير من مشاهير الرجال من الزعماء وغيرهم، وكثير من الممثلين والممثلات لقطاء لا يعرف لهم أب، فهل تريد بعض المدارس الأدبية الغربية أن تلحق الشاعر أيضاً بمدرسة: (النسب المجهول) وتريد أن تصدر لنا نحن في الشرق الإسلامي هذه المدرسة؟ وإذا كان نشر النص قد أصبح ملكاً للأدب والتاريخ والنقد، فهل يعني هذا إلغاء صاحب النص كما تريد مدرسة البصل؛ التفكيكية؟ وكيف يدرس نص، إذا لم يوضع الشاعر قائل النص بالاعتبار؟

في دراساتنا الأكاديمية نبحث في الملابسات التاريخية للنص، ومنها البيئة التي كان الشاعر يسبح في بحرها كيف كونته، كيف صاغته كيف عجنته، كيف شكلته كيف احتضنته كيف رفضته لماذا أبعدته، ما المؤثرات الوراثية.. الكسبية.. الثقافية.. أصدقاؤه، خصومه لداته، محبوه.. أعداؤه.. ثقافة عصره، تأثره بها، خروجه عنها، عن المألوف فيها، ذاتيته التي تبلورت نفسه عليها، حضارة عصره، أعلامه..فالشاعر هو القطب، والدراسة تتناول صفات هذا القطب.

شاعرنا من أرض التين والزيتون، مهندس وشاعر، وهو ثر الإنتاج غزيره، وظفه للحرف المضيء والكلمة الطيبة المجنحة.
طرح فكرة آمن بها، وصدرها إلى الأدب العربي والإسلامي والعالمي، وهي فكرة أقلقت الفلسفة الغربية وأثْرت الفلسفة الإسلامية، نظر إليها الشاعر من خلال نظرة إيمانية شفافة.
فالشاعر حاضر حضوراً مفعماً بالتوقد، قدم نصه لوحة حضاري إيماني إنسانية، صاغها بأسلوبه المبدع، فجاء هذا النص النموذج في التنظير للنص المنشود.


[1] من ديوان: جراح على الدرب.

[2] الوطن في ضمير الشرفاء. بدر بن علي العبد القادر ط 1 ص 134.

[3] ديوان لحن الجراح. أحمد الخاني ط 1.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 21.50 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 20.87 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.92%)]