عرض مشاركة واحدة
  #5  
قديم 05-11-2022, 05:52 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,114
الدولة : Egypt
افتراضي رد: السعادة في الشعر

السعادة في الشعر


د. أحمد الخاني



التجربة الشعورية، والقيمة التعبيرية:


بعد أن تذوقنا النص، وقمنا برحلة معه، نتهيأ الآن إلى أن نبحر مع التجربة الشعورية التي فجرت النص في قيمته التعبيرية.

التجربة الشعورية:
لقد فجر النص فيض الحنين، حنين الجمال إلى الجمال، ونما هذا الكائن الحي نمواً طبيعياً، وتنامى إلى أن استوى ناضجاً، وهو يبحث عن السعادة حتى وجدها في الإيمان بالله تعالى.
فالنص وحدة متكاملة، بدأ البحث مع الهجير، هجير الكدح في الحياة لجمع حطامها، أم هجير العقل وهجيراه في البحث الفلسفي العميق عن السعادة، ولطالما أشقى هذا السؤال عقولاً كثيرة؛ بعضها ظن أن السعادة في الحب،في أوربا كثر الانتحار عقب صدور كتاب (آلام فيرتر) وكتاب (رفائيل) لجوتة، خلال ثلاثة أشهر من صدور هما انتحر أكثر من سبعين عاشقاً..
وانتحر آخرون لفساد بضاعتهم التي ألقيت في البحر، انتحر التاجر لأنه ظن أن سعادته في المال وقد خسر المال وانتحر المحب لأنه خسر الحبيب وقد ظن أن السعادة عند الحبيب, ولو علم الذي يريد الانتحار أن السعادة في داخل النفس لا خارجها لما انتحر، فالعرض زائل؛ المال يعوض، والحب؟! يا له من يلمع! ذلك الشقاء العذب أو عذوبة الشقاء؟ وما أكثر من طلق محبوبته في الشرق!وما أكثر من قتل محبوبته في الغرب! وهل كل البيوت تبنى على الحب؟ وهل يأتي الحب قبل الزواج؟ أم بعده؟ المهم أن السعادة مع الإنسان الذي ضيعها، كما قال شاعرنا، وقد أدرك هذا إيليا أبوماضي فقال:
إن التي ضيعتها كانت معي
إن هذه القيمة الشعورية قد صبها شاعرنا عدنان في قيمة تعبيرية، فما صفاتها؟

القيمة التعبيرية:
حن الجمال إلى الجمال:
قام الشاعر بإسقاط جمالي؛ يعزف على وتر الحنين، والحنين من صفات القلوب، سواء صدر من الإنسان أو الحيوان أو الطير، فابن الرومي يحن إلى ولده محمد المفجوع به، ويذكره ما حنت النيب في نجد، وقال القطامي التغلبي[2]
أحن إلى تلك المنازل كلما ♦♦♦ غدا طائر في أيكه يترنم

والحنين باب في الشعر العربي والإسلامي والإنساني لا أرق منه ولا ألطف ولا أعذب، يذكر الشاعر الحنين في شفافية ندية، ويشبهه بالإنسان الذي يحن إلى شبيهه على طريقة الاستعارة المكنية، ذكر المشبه وهو الحنين، وحذف المشبه به وهو الإنسان، ورمز إليه بشيء من لوازمه وهو حن، وهذا هو القرينة الدالة عليه.
وتواثبت صور الدلال: إن صيغة: تواثب (تفاعل) تدل على المشاركة، فمع من تتشارك صور الدلال في وثباتها؟. ربما تدل هذه الصيغة على تفاعلها مع ذاتها بحركة ديناميكية داخل نفس الشاعر الموارة بالحركة والاضطراب، تلك الحركة الاستشرافية نحو هذا الجمال.
كما تدل هذه الصيغة (تفاعل) على بدء الفعل وتتابع الحدث كما تقول: تبادرت الفرسان على الميدان، إي بدأت بالحركة المتلاحقة.

دوالُّ النص:
إن النظام اللغوي يتالف من مجموعة دوالّ.
الدالَّة الأولى: المستوى الصوتي:
وهو (حن) نجد أن النون مدغمة في مثيلتها فيشكل
الحرفان المدغمان مع بعضهما غنة محببة كأنها عزف الريح في يوم المطر.

الدالة الثانية: المستوى الصرفي:
وهو في (تواثبت) على وزن تفاعلت. وهو في علم الصرف، وقد أشبعها دراسة ابن جني في. كتابه العظيم (الخصائص).

الدالة الثالثة: المستوى الدلالي:
وهو التواثب وقد عرفنا أن معناه المشاركة في الوثوب أو المبادرة، ولو قال: وثبت لضعف الفعل، فزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى.

الدالة الرابعة: المستوى النحوي:
الجمال هو الذي حن، فهو الفاعل، إذاً فأين الشاعر؟ الشاعر هو باني النص، وقد قام بإسقاط خيالي دلالي ليبدع هذه الصورة البلاغية الرائعة، وهي أن الجمال تجوهر بصورة إنسان، الجمال مجرد والإنسان محسوس صور المجرد بالمحسوس.

الدالة الخامسة: المستوى الكتابي:
وهو الذي جرى فيه رسم الحروف وفقاً لمنطوقها؛ أي أنها تمثل الأصوات المنطوقة تمثيلاً مطابقاً أو أن الحروف انعكاس عن الأصوات.

الدالة السادسة: المستوى الأسلوبي:
وهو الذي يجمع الدوال كلها بنسق معين متناسق.

مفردات النص:
وهو أسلوب سلس، لا تنافر بين حروف الألفاظ، ولا تعاظل في التركيب كلفظة الهعخع أو هذا التركيب للمتنبي:
(عش ابق اسم سد جد قد مر انه فه تُسَل)
فلو قرأت هذا الشطر قراءة عادية لما فُهم معناه. فنسق هذه الدوال مما يترنم الإنسان بإنشاده لعذوبة الأسلوب فيه.

الإيقاع والموسيقا:
القصيدة من البحر الكامل؛ من البحور الصافية ذات التفعيلات الموحدة الإيقاع: متفاعلن، ولكنه جاء هنا مجزوءاً مرفلاً: متفاعلن متفاعلاتن.
اختزل التفعيلة الثالثة ورفّل الثانية، ولهذا دلالته النفسية والبيانية، فالشاعر مستغرق في تجربته الشعورية، فاضت من وجدانه شعراً موحد الإيقاع، جاءت الدفقة الشعورية نظرة تأملية، استخدم لها الوحدة اللغوية (حن) وحرف النون متصل نطقه بآلية التطريب بالغنة مع إدغام الحرفين، وهذه اللفظة لم يبحث عنها الشاعر، وإنما وردت لاشعورياً رشحها له عقله الباطن ليتناسب الحنين مع ما يعبر عنه من حروف تعكس هذا المعنى، فالمعنى كما يقول الجرجاني في قلب الشاعر وجاءت الألفاظ مناسبة لها كما قال الأخطل:
لا يعجبنك من خطيب خطبة
حتى يكون مع الكلام أصيلا

إن الكلام لفي الفؤاد وإنما
جعل اللسان على الفؤاد دليلا


لكن هذه الطاقة الشعورية الكامنة، يمكن أن تستوعبها طاقة بيانية محددة، وهي مجزوء الكامل، لكن المخزون العاطفي الوجداني في نفس الشاعر أعطى الدفقة الشعورية بعداً آخر، سببه حرارة العاطفة وقوتها وعمقها وشدة تدفقها، كان يمكن أن تكون التفعيلة الثانية كافية كالشعر المجزوء في هذا البحر في قول الشاعر[3]:
بكت الحمامة لوعة
سحَراً فسالت ادمعي

أنا في الصحارى مُبعد
ما الكون حولي؟ لا أعي


أو كان يمكن أن تكون التفعيلة بزيادة حرف واحد كأن يقول مثلاً:
حن الجمال إلى الجمالْ ♦♦♦ وتواثبت صور الدلالْ
وتكون التفعيلة هنا: متفاعلن متفاعلان
ولكنها جاءت في القصيدة: متفاعلاتن، بزيادة حرفين، وتعليل ذلك ما نلاحظه على ساحل البحر من موجة تتهادى على الساحل، وقبل أن تتناهى تأتيها موجة أقوى تدفعها وتسندها وتعززها وتزيد من قوتها هذا هو تعليل الترفيل في نظرنا.

روح النص:
النص كائن حي له روح، وليس بجثة محنطة، يمكن أن نسمي (الشكل) الثوب أو الهيكل.
أما المعاني أو المضمون فيمكن أن نسميه: روح النص، وإذا كنت رومنسياً يمكن أن تطلق مسمى (الكأس) على الشكل و(الشراب) على المعنى الذي سكب في الكأس.
حنّ: حاء ونون مشددة، نتصور إيحاء هذه اللفظة ومعناها وما يشي به في النفس عند تذوق اللفظة واستحضار دواعيها، هذا التداعي له مهمة، فبعد أن نستشعر الحنين في داخل أنفسنا، حنين الحبيب إلى الحبيب، حنين الجمال إلى الجمال.. بعد هذا التداعي نجد في أنفسنا الراحة، وذلك لأن حنين الجمال إلى الجمال قد أثار في داخلنا عنصر الجمال وذلك من الإحساس بالحنين، نراه قد تولد في أنفسنا أو بعثه من جديد من إيحاء تجربة لها رصيد في أنفسنا، إن هذا الإيحاء من مهماته أنه يعيد استحضار تجربة مرت بنا يعرضها أمام مخيلتنا لنتقمص تجربة النص الذي هو بين أيدينا فبعد أن تذوقناه، نغدوا نحن شركاء فيه، مع الشاعر وكأننا نحن أصحاب النص وذلك لقوة انطباع هذا الإحساس في أنفسنا، ولقد بكى أستاذنا الدكتور عبد الكريم الأشتر على مدرج جامعة دمشق وهو يلقي نصاً حزيناً. نصبح شركاء في عاطفة الشاعر؛ ما أضحكه أضحكنا، وما أبكاه أبكانا.

ثم تتراقص أمام مخيلتنا التصويرية هذه الصور وأي صور؟ إنها صور الدلال، الدلال فتاة فتانة صورها الشاعر بريشة فنان على سبيل الاستعارة المكنية، وجعلها ترقص بل تتراقص وتثب بل تتواثب ليقوي الفعل.
ويقول الشاعر: رباه؛ في علم النفس أن الألفاظ لها تأثير بالمشاعر، إن حرف الهاء وقبله ألف ممدودة عندما ينطقه الإنسان يشعر بالارتياح النفسي، فلما جاءت اللفظة (رباه) بهذا السياق شعرنا أن هناك ما يشبه المشكلة العاطفية، أو الموضوع العاطفي لدى الشاعر وأن هذه النفسية المضطرمة قد أطلقت هذه اللفظة لا شعورياً بغية الارتياح النفسي، هذه المشكلة النفسية التي هي موضوع النص كله، هذا الموضوع قد بدأ بلحظة تفجير مفتاحه الحنين، ثم جاءت الضراعة والشكوى في صيغ كثيرة في صيغة التكثير:
ولكم هُرعت إلى الجنان!
ولكم هربت من الهجير!
يتبع





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 22.50 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 21.87 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.79%)]