عرض مشاركة واحدة
  #4  
قديم 02-11-2022, 02:41 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,408
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب المناسك)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (228)

صـــــ(1) إلى صــ(27)






وهل يسجد على الحجر؟ السجود على الحجر أن يدخل رأسه بحيث تكون جبهته على الحجر، نقلها شيخ الإسلام رحمه الله، وثبت وصح عن جمعٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يسجدون على الحجر، بمعنى: أنهم يضعون الجبهة على الحجر، وصح هذا عن أبي هريرة و أبي سعيد الخدري وعن عبد الله بن عمر ، و جابر بن عبد الله رضي الله عن الجميع، صحت عنهم بذلك الأخبار، ولذلك نص العلماء على أنه لا حرج على الإنسان أن يفعل ذلك، والثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم الاستلام والتقبيل، وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه للحجر: (لولا أني رأيت رسول الله صلى عليه وسلم يقبلك ما قبلتك) وهذا يدل على أن السنة والأفضل أن الإنسان يحرص على تقبيل الحجر، ويتعاطى الأسباب التي لا ضرر فيها على الناس، وهذا إنما يكون للرجال في الغالب، وأما النساء فالغالب فيهن أنهن إذا قبلن الحجر زاحمنَ الرجال وفتنّ العباد، فالأفضل لهنّ أن لا يقتربن من جهة الحجر، خاصةً وأنهنّ قد ينحرفنَ في طوافهن، فإنهنّ إذا انحرفنَ عن الطواف، وأصبح البيت عن يمين المرأة بطل ذلك، ولزمها أن تعيد من أول ذلك الشوط؛ لأنها إذا انحرفت بيدها وجاء البيت عن يمينها -كما سيأتي إن شاء الله- لم يصح ذلك منها، ولزمها أن تعود إلى أول شوطها؛ لأنه لابد وأن يكون البيت عن اليسار، وقد طاف عليه الصلاة والسلام وجعل البيت عن يساره.
ثم إذا أراد الإنسان أن يقبل، فلا يزاحم الناس ولا يؤذهم، أما لو زاحمه الغير، وصبر على أذيته فإنه أفضل؛ لما فيه من الصبر على طاعة الله، فلو كان هناك زحام فصبرت ولم تؤذ أحداً حتى تبلغ الحجر، فهذا لا شك أنه أفضل؛ لأن التعب والنصب في طاعة الله يعظم به الأجر للإنسان، وكون الإنسان يرى الزحام عليه ويتركه لغيره فلا إيثار في القُرب، فحرص الإنسان عليه لا شك أنه أفضل وأكمل، وقد كان ابن عمر رضي الله عنهما لا يترك تقبيل الحجر منذُ أن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبله، ما ترك استلام الركن ولا تقبيل الحجر منذُ أن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم ويقبل، ولذلك لما جاءه السائل وقال له: يا أبا عبد الرحمن ! أرأيت إن كان عليه زحام؟ قال: (دع أرأيت باليمن، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبله).
وهذا يدل على حرصه رضي الله عنه وأرضاه وحبه لهذه السنة، ولكن الإنسان لا يؤذ الغير، فإذا استطاع أن يصل إلى الحجر من دون أذية، ومن دون إضرار فلا شك أنه أفضل وأكمل، وكان ابن عمر يقرأ في الشوط الواحد ما يقرب من خمسمائة آية، وذلك لأنه يصبر على الحجر وينتظر، وقد يكون في شدة الشمس والحر، وأثر عنه رضي الله عنه أنه كان الناس يزاحمونه حتى يدمون أنفه، فيصيبه الرعاف رضي الله عنه وأرضاه، وهو صابرٌ لا يفارق سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ليس بواجب، ولكن حبه للسنة، وحبه للتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم جعل من الصعب عنده أن يجاوز الحجر وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم يفعل شيئاً فيه فيجاوزه دون أن يفعله، فهذا من باب الأفضل، ولكن إذا كان الأمر فيه مشقة، أو فيه إضرارٌ بالغير فلا؛ فإنه لا تلتمس السنن بما فيه محظورٌ شرعي، وخاصةً إذا كان على الإنسان فيه فتنة.
فالمقصود: أنه يحرص الإنسان على تقبيل الحجر، وإذا قبله فإنه يراعي الثبات في الموضع، يثبت في موضعه فيقبل، ثم بعد ذلك ينصرف حتى يستتم الطواف بالبيت في شوطه؛ لأنه في بعض الأحيان إذا قبل فإنه ربما ينحرف فيصرف بجذعه إلى ما بعد موضع الاعتداد ببداية الطواف، فحينئذٍ يلزمه أن يجعل البيت عن يساره، حتى يقع طوافه كاملاً.
ومن الأخطاء التي قد يقع فيها بعض الناس: أنه إذا جاء لتقبيل الحجر وهو في حج، أو طواف ركن عليه في عمرة، ونحو ذلك، فإنه يصعد على الحجر الذي على البيت، وهذا الحجر من البيت، فيبطل شوطه؛ لأن الحجر الذي هو الشاذروان -وهي الزيادة الموجودة في أسفل البيت من البيت- وهو مأمورٌ بالطواف بكل البيت، فصعوده على هذا الجزء من أجل التقبيل -خاصة إذا كان عليه طواف ركن- يفوّت هذا الموضع، وقد نص جماهير العلماء رحمة الله عليهم على أنه لو ترك خطوةً واحدة من الطواف لم يصح؛ لأنه عبادة كالصلاة ينبغي أن تؤدى بصفتها مثل ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهذا الجزء من البيت؛ فلابد وأن يجعله في طوافه، بحيث يطوف به كاملاً، أما لو رقى عليه، ومشى فإنه في هذه الحالة كأنه لم يطف بالبيت كاملاً لهذا النقصان.
الإشارة باليد إلى الحجر وما يقوله، وأين يكون البيت منه؟
قال رحمه الله تعالى: [فإن شق اللمس أشار إليه ويقول ما ورد].
أي: إن شق عليه اللمس أشار إليه، فيشير إليه بكفه، ويقول ما ورد، والذي ورد هو ما في مستدرك الحاكم: ( اللهم إيماناً بك، وتصديقاً بكتابك، ووفاءً بعهدك، واتباعاً لسنة نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم )، فهذا الذي ورد في الحاكم ، وسامح فيه العلماء رحمة الله عليهم أن يقوله في بداية طوافه.
ثم بعد ذلك يدعو بما تيسر له من خيري الدنيا والآخرة، فيسأل الله عز وجل صلاح دينه ودنياه وآخرته، ويدعو لمن له حقٌ عليه كوالديه وذرياته وأهله وزوجه، يدعو لهم بالصلاح والخير، فيسعى بالدعاء، وسؤال الله عز وجل خيري الدنيا والآخرة.
قال رحمه الله تعالى: [ويجعل البيت عن يساره].
أجمع العلماء على أنه لا يصح الطواف إذا جعل البيت عن يمينه، مع أن اليمين أشرف من اليسار، واعتبر بعض العلماء بأن اليسار فيه القلب، وأشرف ما في الإنسان قلبه؛ لما فيه من توحيد الله عز وجل، فهو أشرف ما في الإنسان، قالوا: لذلك يكون إلى جهة اليسار لمكان القلب، فهذا اعتبار لبعض العلماء، ولكن هذه أمور تعبدية، ولا يتكلف في بحث مثل هذه الأمور أو السؤال عنها، إنما يطوف على اليسار؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف عن اليسار، والشرع أمره أن يطوف بهذه الصفة المخصوصة، فيتأسى بما ورد فيجعل البيت عن يساره.
مسائل في الطواف ينبغي مراعاتها
وفي الطواف مسائل، أهمها: أن الطواف يختلف بحسب الأحوال، فتارةً يكون طواف ركن، وتارةً يكون طوافاً واجباً، وتارةً يكون طواف نافلة.
فطواف الركن: كأن يكون طواف عمرة، وكذلك طواف الركن في الحج، كطواف الإفاضة.
ويكون الطواف واجباً كطواف الوداع في الحج.
ويكون الطواف نافلةً كسائر الأطوفة التي يقصد بها التقرب إلى الله عز وجل في غير النذر.
المسألة الثانية: إذا طاف فإنه ينبغي أن يدور بالبيت كاملاً، أي: أن يدور بجسمه كاملاً بالبيت، ويشترط أن يكون هناك استقبالٌُ للبيت، قالوا: الطائف بالبيت قبلته أن يجعل البيت عن اليسار، وعلى هذا فلو انحرف أثناء طوافه فأصبح البيت عن يمينه، أو انحرف لتقبيله فأصبح البيت عن يمينه، فلابد وأن يرجع من الموضع الذي انحرف فيه، حتى يستتم طوافه بالبيت عن اليسار.
المسألة الثالثة: أن الطواف بالبيت لا يصح إلا داخل الحرم، فإذا طاف خارج الحرم -كأن يطوف خارج حدود الحرم- فإنه يبطل طوافه؛ لأن الله تعالى قال: { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ } [الحج:26] فهذا يدل على أن الطواف إنما يكون في المسجد، وعلى هذا إجماع العلماء رحمة الله عليهم: أن الطواف لا يصح إلا في المسجد، فلو طاف بسيارةٍ، أو طاف مثلاً بقدميه خارج بناء المسجد فإنه لا يصح طوافه بإجماع العلماء.
ولو طاف في الدور الثاني فإنه يجزيه؛ لأنه طائفٌ بالبيت، فالطواف في الدور الثاني كالطواف في الدور الأسفل؛ لأن أعلى المسجد آخذٌ حكم أسفله، ولذلك لو اعتكف إنسانٌ فصعد إلى سطح المسجد فإنه بالإجماع لم يبطل اعتكافه، ويدل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ( من اغتصب قيد شبرٍ من الأرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين )، فجعل المحاذي من أسفل له حكم الأعلى، وكأنه اغتصب الأرض بما سفُل، قالوا: كذلك أيضاً له حكم الأعلى، وعليه قالوا: إن الإنسان إذا طاف في سطح المسجد في الدور الثالث، أو طاف في الدور الثاني فإن طوافه صحيح؛ لأنه قد طاف بالبيت داخل البيت، وهو آخذٌ حكم من هو بداخل المسجد.
عدد أشواط الطواف، وحكم النقص منها، أو الإضافة عليها
قال رحمه الله تعالى: [ويطوف سبعاً].
قوله: (ويطوف سبعاً).
أي: ويطوف سبعة أشواط كاملة، فلو انتقص منها خطوةً واحدة فإنه لم يصح طوافه حتى يتم هذه الخطوة، إذا كان في الداخل أمكنه التدارك، وإلا بطل طوافه، ولزمته الإعادة إذا خرج من المسجد.
فإذا انتقص من هذه السبعة شوطاً، أو نصف الشوط أو قدراً من شوط فإنه يقضيه ما دام في المسجد، ما لم يطل الفاصل المؤثر، وقال بعض العلماء: يجوز له القضاء ما دام في المسجد، وهذا قوي، ثم إذا لم يقضه وخرج من المسجد بطل طوافه، ولزمه أن يرجع ويعيد الطواف ويستأنف، وحينئذٍ يقولون: يتدارك ما دام في المسجد، فإذا خرج من المسجدٍ قطع التدارك ولزمه الاستئناف.
فيطوف سبعة أشواط؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت سبعة أشواط، وهذا في جميع الأطوفة، السنة فيها أن تكون سبعة أشواط.
أما في طواف الركن فلا إشكال، وكذلك الواجب، لكن لو أن إنساناً أراد أن يجمع السبع إلى سبعٍ أخرى في نافلة، كأن يطوف سبعاً؛ ومن بعدها سبعاً، ومن بعدها سبعاً، ثم يجمع ركعات الطواف سرداً وراء بعضهن، كأن يطوف السبع الأولى، ثم يتبعها بنية السبع الثانية، ثم يتبعها بالسبع الثالثة، ثم يصلي ست ركعات، فقد أُثر عن بعض السلف رحمهم الله أنه كان يرخص في ذلك، ويفتي بأنه لا حرج أن يجمع الأطوفة وراء بعضها، خاصةً حين يكون هناك عذر، كأن يكون بعد صلاة العصر أو عند طلوع الشمس أو عند غروبها في ساعة النهي المجمع عليها، ويكون طوافه نافلة، فلا يحب أن يصلي في هذا الوقت، فيطوف سبعاً ثم يطوف من بعدها سبعاً، حتى يستتم الغروب ويدخل وقت الإذن فيجمع الصلوات.
وكذلك أيضاً قالوا: قد يؤخر ركعتي المقام، كأن يطوف بعد الفجر، ويغلب على ظنه أنه إذا ارتفع النهار يفرغ الموضع الذي خلف المقام، فيريد -مثلاً- فضيلة الصلاة في هذا الموضع، فحينئذٍ قالوا: لا حرج أن يجمع السبع إلى السبع، ويضم السبع إلى السبع، ولو تكررت شفعاً أو وتراً.
الرمل في الطواف، صفته ومحله
قال رحمه الله تعالى: [يرمل الآفاقي في هذا الطواف ثلاثاً ثم يمشي أربعاً].
أي: يرمل الآفاقي في هذا الطواف ثلاثاً، لما ثبت في الصحيح من حديث ابن عمر رضي الله عنهما ( أن النبي صلى الله عليه وسلم خبَّ الأشواط الثلاثة الأول، ومشى باقي الطواف )، وهذه -كما قلنا- سنة الرَّمَل، والرمل للعلماء فيه قولان: القول الأول: قال بعض العلماء: هو تقارب الخطى مع هز المناكب.
والقول الثاني: أن يباعد في الخطى ولا يصل إلى درجة السعي، ولا يهز منكبه.
وظاهر قولهم: (إنهم ينقزون نقز الظباء) -كما جاء في السير- أن هز المنكب فيه أوجَه، وهو أقوى وأدل على القوة والجلد، وكان المقصود من الرمل إظهار القوة والجلد، والسنة -كما ذكرنا- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رمل الثلاثة الأشواط الأولى في عمرة القضاء أو القضية والتي كانت بعد عام من الحديبية، فلما فتح الله عليه مكة، وجاء بعد فتحها في عمرة الجعرانة منصرفه من غنائم الطائف، اعتمر من الجعرانه صلوات الله وسلامه عليه، فخبَّ الأشواط الثلاثة كاملة، كما جاء في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وأرضاهما، فقال العلماء: إنه لما شُرع الرمل في أول الأمر كان يمشي بين الركنين -بين الركن اليماني والحجر-، ولكن بعد أن زال السبب رمل الأشواط الثلاثة كاملة، ولذلك قال: ( من الحجر إلى الحجر )، أي: أن رمله كان كاملاً صلوات الله وسلامه عليه.
فيرمل الثلاثة الأشواط الأولى متتابعة، ولا يمشي بين الركنين، وهذا هو أصح القولين، أن المشي بين الركنين منسوخ، وأن السنة إذا رمل أن يستتم الرمل للثلاثة الأشواط كاملة، فإذا فعل ذلك فهي السنة، وهذه الثلاثة الأشواط يصحبها الاضطباع كما ذكرناه.
قوله: [ثم يمشي أربعاً].
وهي الأربعة الأشواط المتبقية.
ازدحام الفضائل في الطواف وما يقدم منها

إذا كان قربك من البيت يمنعك من الرمل للزحام، وبعدك عن البيت تتمكن معه من الرمل، فهل الأفضل القرب من البيت مع فوات الرمل؟ أو البعد عن البيت مع تحصيل الرمل؟ إن هذه المسألة تعرف عند العلماء بازدحام الفضائل، وقد تزدحم الفضائل وتزدحم السنن المؤكدة، وقد تزدحم الفرائض، فقال بعض العلماء -كما اختاره ابن عقيل -: الأفضل أن يبتعد عن البيت لكي يرمل؛ لأن فضيلة الرمل مؤكدة في الطواف، حتى أوجبها بعض العلماء، فقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم رمل وقال: ( خذوا عني مناسككم )، فقالوا: إنها متصلة بالعبادة، وفضيلة القرب من البيت متصلة بالمكان لمكان العبادة، والمتصل بذات العبادة يقدم على المتصل بزمانها ومكانها، وتوضيح ذلك أنه إذا رمل فإن الرمل متصل بذات الطواف، ومن نفس أفعال الطواف، ولكن القرب من البيت متصلٌ بالمكان -بمكان العبادة- فاختار بعض العلماء أنه يبتعد من البيت للرمل، وهذا ما يميل إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
وأشكل على هذا القول أنهم قالوا: لو قلنا بهذا -أي: تفضيل ما اتصل بالعبادة على ما اتصل بمكانها- لساغ للرجل -كما يقول ابن عقيل رحمه الله تعالى- أن يتأخر عن الصف الأول لفضيلة التورك! فإن الإنسان في الصف الأول في الرباعية لا يستطيع أن يتورك، فالتورك فضيلةٌ متصلةٌ بالعبادة ذاتها، والصف الأول فضيلةٌ متصلةٌ بالمكان، فقالوا: لو قلنا بهذا فإنه يلزم -بناءً عليه- أن يتأخر إلى الصف الثاني، ولم يقل أحد: إنه يشرع التأخر إلى الصف الثاني من أجل التورك.
وقد أجاب شيخ الإسلام رحمه الله تعالى عن هذا بأجوبة نفيسة.
أولها: أن الصف الأول من اللازم على المكلف أن يتمه بخلاف القرب من البيت، ولم يرد النص بالقرب من البيت وتأكُّدِ القرب أو الدعوة إليه، وإنما هو فُضِّل بصورة العبادة، وفرقٌ بين ما ورد النص به، كما قال عليه الصلاة والسلام: ( يتمون الصف الأول فالأول )، ونص العلماء على أنه لو رأى في الصف الذي أمامه فرجة قبل إحرام الصلاة ولم يسدها أنه آثم؛ لأنه ترك المأمور، ولذلك قالوا: إنه يأثم بتأخره عن هذه الفرجة، بخلاف القرب من البيت.
الأمر الثاني: أن الصلاة متصلةٌ بالجماعة في المسجد، فلابد من إكمال الصفوف، فاتصل الناس بعضهم ببعض، ولكن الطواف ليست له صفةٌ معينة تعين على الناس أن يتصل بعضهم ببعض، فقال: إن هذه الفضيلة -أعني: فضيلة البعد عن البيت مع الرمل- آكد من فضيلة التورك في الصف الأول، فقالوا: يترك التورك في الصف الأول ولو أنه متصل، ويكتب له أجره بالنية.
استلام الركن، وماذا يفعل من عجز عنه؟
قوله: [يستلم الحجر والركن اليماني كل مرة].
يستلم الحجر والركن اليماني؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم استلم الركن اليماني، وهل إذا عجز عن استلام الركن اليماني يشير إليه أو لا؟ جمهور العلماء على أنه لا يشير إذا عجز عن استلامه، وأنه يكفيه أن يقول الدعاء بين الركنين: { رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } [البقرة:201]، وأنه لا يشير بيده وإنما تختص الإشارة بالحجر.
وقال بعض السلف -وهو أيضاً عن الإمام مالك إمام دار الهجرة- إنه لا بأس أن يشير بيده إذا عجز؛ لأن كلا الركنين من البيت، ولما عجز عليه الصلاة والسلام عن استلام الحجر أشار بيده صلوات الله وسلامه عليه، ولكن لم يثبت عنه أنه عجز عن استلام الركن اليماني، فقالوا: إنه يغتفر في هذا لو أشار بيده.
والأمر ما دام أن له وجهاً، وقال به بعض السلف فهو خفيف، فلو أنه أشار بيده لا ينكر عليه، ولكن قالوا: الأفضل والأكمل أنه لا يشير بيده، فإن أشار بيده فلا بأس، فيستلم الركن بيده، فإن لم يستطع لزحامٍ، ونحوه تركه كما ذكرنا.
مما يبطل به الطواف فعلاً أو تركاً

قال رحمه الله تعالى: [ومن ترك شيئاً من الطواف، أو لم ينوه، أو نسكه، أو طاف على الشاذروان، أو جدار الحجر، أو عريان أو نجس لم يصح].
قوله: [ومن ترك شيئاً من الطواف].
في هذه الجمل يشير المصنف إلى أمورٍ لابد من توفرها للحكم بصحة الطواف.
أولها: أن الطواف لابد وأن يكون كاملاً، فإذا ترك شيئاً من الطواف -وشيئاً نكرةٌ- لم يصلح طوافه، فلو ترك -كما قالوا- خطوةً واحدة فإنه حينئذٍ لا يصح ذلك الشوط حتى يتم هذه الخطوة، فإذا لم يتمها بطل طوافه كله إن خرج من البيت، ولزمته الإعادة كما ذكرنا.
والسبب في هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف السبعة الأشواط كاملةً، وعليه فإنه إذا انتقص شيئاً منها لم يطف كما أمره الله تعالى، ويلزمه حينئذٍ قضاء هذا الشوط، أو التدارك إذا أمكنه التدارك.
ويحصل التدارك لو كان الشخص -مثلاً- في آخر شوط، وبدل أن ينتهي مقابلاً للحجر انصرف قبل أن يستتم الطواف، فبقيت له خطوتان، أو ثلاث، أو أربع، فحينئذٍ يرجع من الموضع الذي انصرف منه ثم يتمه، فإذا فعل ذلك صح طوافه، وأما إذا لم يرجع، ولو كان القدر خطوة واحدة -كما ذكرنا- فإنه حينئذٍ يبطل الطواف إن خرج من البيت.
قوله: [أو لم ينوه].
من شروط صحة الطواف: النية، قال تعالى: { فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ } [الزمر:2]، والطواف بالبيت من العبادة والقربة، ولا يمكن له أن يتحقق إلا بالنية، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ( إنما الأعمال بالنيات )، أي: إنما اعتبار الأعمال وصحتها بالنية، فإذا لم ينو الطواف لم يصح طوافه، أي: لم يصح على الوجه الذي يريده، فلو دخل لطواف عمرة، أو دخل لطواف ركن في الحج ناسياً، فحينئذٍ لا يجزيه ذلك، وتلزمه الإعادة.
قوله: [أو نسكه].
كشخصٍ أحرم إحراماً مبهماً، ولم يعين إحرامه قبل الطواف بالبيت؛ لأنه يصح -على أحد أقوال العلماء كما اختاره المصنف وغيره- أن يحرم بالعمرة والحج إحراماً مبهماً، ثم يعين قبل أن يبتدئ الطواف، فإذا ابتدأ الطواف ولم يعين فحينئذٍ لا يقع طوافه عن الفرض ، ويبطل فرضاً، ويلزمه أن يعيده بعد تعيينه.
قوله: [أو طاف على الشاذروان].
هي قمة قدرها ثلاثة أذرع ارتفاعاً من الأرض من البيت، وهي من البيت، ولابد لهذا القدر أن يطوف الإنسان عليه بجسمه، بحيث لو رقى عليه فإنه لم يستتم الطواف على الوجه الشرعي، فلا يصح طوافه من هذا الوجه.
قوله: [أو جدار الحِجْر].
طبعاً الحجر ليس كله من البيت، وإنما قيل: قدر ثلاثة أذرع، فلابد أن يكون طوافه من وراء الحجر، فلو دخل بين الحِجْر وبين الكعبة لم يصح طوافه.
وقال الإمام أبو حنيفة رحمة الله عليه: يصح طوافه، والصحيح أنه لا يصح، كما هو مذهب الجمهور، والدليل على أنه لابد وأن يطوف من ورائه: قوله سبحانه وتعالى: { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } [الحج:29]، فقال: (بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)، أي: القديم، إشارةً إلى أن العبرة ببناء إبراهيم عليه السلام، فلما تركت قريش من البيت قدر هذا، وهو من البيت، فإن جاء الطائف وطاف فيما بين هذا القدر بين الحجر وبين البيت، فإنه لم يطف بالبيت العتيق الذي هو بناء إبراهيم عليه السلام، الذي وضع بناءه عليه، وإنما تقاصرت النفقة بقريش، فكان بناؤها ناقصاً.
فإذا طاف فإنما طاف بالبيت بالبناء، ولم يطف بالبيت العتيق، وعلى هذا قالوا: إن الله عز وجل نص على (العتيق)؛ تنبيهاً على استتمام الطواف بالبيت على ما كان عليه من بناء إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
قوله: [أو عريانٌ].
أي: إن طاف بالبيت عريان، فإنه لا يصح طوافه، وقد ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه بعث مناديه ينادي -في سنة تسع-: ألا يحج بعد العام مشرك، وألا يطوف بالبيت عُريان.
فلا يصح الطواف بالبيت والإنسان عارٍ، بل لابد من أن يكون مستتراً، فإذا طاف عارياً لم يصح طوافه.
وعلى هذا فلو انكشفت عورته أثناء الطواف ففيه تفصيل: قال بعض العلماء: إن انكشفت وتدارك؛ لغلبة الناس والحطمة والزحام، كأن تكون حطمةٌ من الناس وغلب على أمره، أو كان ضعيفاً، أو مريضاً فغلب على أمره، فانكشفت عورته أثناء الطواف، وتدارك فستر مباشرةً بعد الانكشاف، صح طوافه ولم يؤثر.
وأما إذا ترك وتساهل، فإنه لا يصح طوافه كما ذكرنا، فلا يصح طوافه بالبيت إلا إذا استتر، فلابد وأن يكون ساتراً لعورته.
قوله: [أو نجس لم يصح].
هو في الحقيقة (متنجساً)؛ لأن المؤمن لا ينجس، أي: إن طاف بالبيت متنجساً؛ لأن المؤمن لا ينجس، ولكنهم يقولون: والحال أنه نجس، أو وهو نجس، لكن على العموم فلفظ (متنجس) أنسب؛ لأن المؤمن لا ينجس، وإنما يقال: متنجس.
والمتنجس: هو الذي عليه نجاسة في ثوبه، أو بدنه، فإذا كان في ثوبه نجاسة كرعافٍ، أي: إن رعفَ الدَمَ فنزل على ثوبه الذي هو إحرامه، أو نزل الدم على بدنه نفسه، فحينئذٍ لا يصح طوافه، إلا إذا كان معذوراً، كالشخص الذي معه الدم مسترسل، أو كان قدر الدم في حال العذر وهو ما دون الدرهم، أي: قدر الهللة القديمة فما دونها فهو معفوٌ عنه، فإذا كان الدم متفرقاً أو مجتمعاً بقدر الدرهم البغلي -وهو الدرهم الذي كان موجوداً في القديم، يقال له: البغلي، وهو يعادل الهللة القديمة الصفراء، وأقل من القرش الموجود في زماننا بقليل- فهو معفو عنه، فلو طاف وعليه هذا القدر فإنه بالإجماع يصح طوافه؛ لأن اليسير من الدم مستثنى إجماعاً.
أحكام ركعتي الطواف
قال رحمه الله تعالى: [ثم يصلي ركعتين خلف المقام].
أي: إذا انتهى من طوافه صلى ركعتين خلف المقام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من طوافه، جاء إلى المقام، وصلى عليه الصلاة والسلام ركعتين، قال تعالى: { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } [البقرة:125] فقوله: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ) قيل: هو المقام، والسنة لكل من طاف بالبيت أن يصلي خلفه، ويجعله بينه وبين البيت، فقد كان المقام في القديم متصلاً ملتصقاً بالبيت، ثم نظراً لوجود الأذية بالطائفين في الزحام أُخِّر عن البيت، فإذا صلى وجعل المقام بينه وبين البيت، فهذه هي السنة، فلو كان هناك زحام حول المقام فإنه يتأخر، حتى ولو في أروقة المسجد، فيجعل المقام بينه وبين البيت.
وقال بعض العلماء: إذا تأخر بحيث لا يستطيع أن يصلي في جهة المقام إلا في الأروقة فالأفضل أن يصلي في صحن المسجد، ولا يتأخر إلى الأروقة، والسبب في ذلك أن قديم المسجد أفضل مما هو بعد؛ لقوله تعالى: { لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ } [التوبة:108]، خاصةً وأن هناك قولاً يقول: إن المقام هو مكة كلها، فإذا كان مصلياً، أو صلى في أي موضع من مكة أجزأه، لذلك يقولون: إنه يصلي في أي مكان من صحن المسجد، والأفضل والسنة أن يجعل المقام بينه وبين البيت على ظاهر السنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فيصلي هاتين الركعتين، يقرأُ في الأولى: (قل يا أيها الكافرون)، وفي الثانية: (قل هو الله أحد)، وهما سورتا الإخلاص؛ لاشتمالهما على أعظم الأشياء وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى، التي من أجلها أنزل كتبه، وأرسل رسله، وهو توحيد الله عز وجل، ولذلك قرأها عليه الصلاة والسلام في صلاته كما ثبت في الحديث الصحيح عنه، يقرأ في الركعة الأولى (قل يا أيها الكافرون)، وهي براءة من عبادة غير الله عز وجل، ومن كل دينٍ سوى دين الله، ويقرأ في الثانية بـ(قل هو الله أحد) التي جمعت مقاصد التوحيد، ففيها النفي والإثبات، فقوله تعالى: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ } [الإخلاص:1-2] هذا إثبات، وقوله تعالى: { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } [الإخلاص:3-4] هو النفي، وهذا هو أصل شهادة التوحيد (لا إله إلا الله)؛ لأنها تشتمل على النفي، وعلى الإثبات، وهما أساس التوحيد.
ولا شك أن الحج والعمرة إنما شرعهما الله تعالى من أجل توحيده، فهذه المشاعر والمناسك ما أوجدها الله تعالى إلا من أجل الدلالة على التوحيد، ولذلك يقرأ الإنسان بهاتين السورتين، ويحرص على قراءتهما مستشعراً لمعانيهما العظيمة؛ لأن المقصود من حجه وعمرته أن يرجع بزاد التوحيد والإخلاص لله عز وجل، وينظر كيف أن هذه البنية أمر الله بالطواف بها، ولو طاف بغيرها فإنه لا يجوز، ومحرمٌ عليه، وقد يصل إلى الشرك والعياذ بالله، وهذا يدل على أنه عبدٌ مأمور تحت أمر الله عز وجل، وتحت حكمه، لا يقدم ولا يؤخر إلا بأمر الله سبحانه وتعالى، فيقرأ بهاتين السورتين العظيمتين مستشعراً لما فيهما من معاني التوحيد، وإخلاص العبادة لله عز وجل.

يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 39.78 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 39.15 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.58%)]