عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 31-10-2022, 09:25 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,180
الدولة : Egypt
افتراضي الشيب والموت في الشعر

الشيب والموت في الشعر


محمد حمادة إمام







يَحُلُّ المشيبُ، فَيَدِبُّ الوهنُ، ويَسْري العجزُ - غالبًا - في الجسم، عندئذ يكون التفكير في الموت، وكثرة التفكير فيه تؤدِّي إلى الخوف منه، وترقُّبِه وانتظارِه، "فالإنسانُ يموت منه كلَّ يوم شيءٌ، وشجرتُه لا تزال تتساقط ورقاتها وزهراتها واحدة في إثْرِ أخرى حتى تصوَّح وتَعْطَب. "[1].



قال قيس بن عاصم: "الشيب حطام المنيَّة." وقال المعتمر بن سليمان: "الشيب موتُ الشعر، وموت الشعر علة لموت البشَر"[2].



و"عندما يَضعُف جسمُ الفرد في منتصف العمر[3]، وتبدأ علامات الشيخوخة، تسيطر على الإنسان ألوانٌ جديدة من الخوف، لم يألفها من قبل؛ فيخاف من الشيخوخة نفسِها وما تحمله من مرارة، وخوفُه من الشيخوخة هو خوفُه من اقتراب النهاية، ويؤدي به هذا الخوف إلى الهروب من كل حديث، أو حوار، أو تفكير، يدُور حول هذا الموضوع، ويذكِّر به.



يخاف الفردُ من المرض لخوفه من الموت؛ فلم تعد صحته من القوة بحيث تقاوم الأمراضَ المختلفة، التي قد تصيبه في شيخوخته، وهو في مرضه كثيرُ الهواجس والأوهام، جَهْمُ الوجه، عابس المحيَّا، يستغلق عليه الأمر، ويقوده إلى الظنون، وينتابُه خوف يهتك حجُب القلوب.



ينظر الإنسان حوله، فيرى رفقاءَ صِباهُ يذهبون إلى غير ما رجعة، فيدرك أن جِيلَه قد بدأ ينقضي بموت أفراده؛ ولذا فهو يخاف الوحدة الرهيبة، أو العزلة القاسية، التي لم يتعوَّدها من قبل، وتزداد مرارة هذه الوحدة كلما انفضَّ مِن حوله أولادُه وأهله، وذلك عندما تشغلهم وتلهيهم معارك الكفاح الشديد في سبيل تحقيق مطالب الحياة، وقد يخامره شعور غريب بأنه إنسان غير مرغوب فيه، لا في الدار، ولا في العمل."[4]




فهذا "أبو الأصبغ"[5]، يرى أن المشيبَ نذيرُ موتِه، بعد أن ارتآه سالبَه الشباب، ومبليًّا ثوبَه القشيب، وآتيا على عيشه الرطيب؛ لذلك كان هاجرَه، ومسيئًا إليه، وطاردَه، وهذا حال الكثير - إن لم يكن جميعهم.

".. جرى ذكْر المشيب، وذمُّه في مجلس للأمير عبد الله، وكان يكره الشيب، فسأل عن أحسن ما يُروى في هذا الباب؟ فقال له أبو الأصبغ: أحسن ما قيل فيه عندي... قول الأول؛ أي: قول شاعر قديم:[6] [ من الطويل]



أقولُ لضِيفِ الشَّيَبِ، إِذْ حَلَّ مَفْرِقي

نصيبُكَ مِنِّي جَفْوَةٌ وقُطُوبُ



حرامٌ علينا أن تنالَك عِنَدَنا

كرامةُ بِرِّ أو يمَسَّكَ طِيبُ






فاستحسَن الأميرُ عبدُ الله البيتين، وأمَر أبا الأصبغ أن يزيد فيهما، فزاد عليهما أبو الأصبغ في المجلس نفسِه أبياتًا هي:



فيا شَرَّ ضَيْفٍ حَلَّ بي وحُلُولُه

يُخَبِّرُنِي أَنَّ المماتَ قَريبُ



وأنَّ جديدي كُلَّ يَوْمٍ إِلى بِلًى

وأنِّيَ مِن ثوبِ الشَّباب سَليبُ



فما طِيبُ عَيْشِ المرْءِ إلا شَبَابُه

وليس إذا ما بان عنه يَطيبُ



سأَقْرِيكَ، يا ضيفَ المشيبِ قِرَى القِلَى

فما لك عندي في سِواهُ نَصيبُ



وأَبْكِي عَلَى مَا قَدْ مَضَى مِن شَبيبَتِي

بُكاءَ مُحبٍّ قَدْ جَفَاهُ حَبِيبُ



مَضَى - مُسْلِمًا - لَهْفِي عليه! مَدَى المدَى

فليس إلى يوم التَّنَادِ يَؤوب






فهذه الأبيات وقصَّتُها، توضِّح مدى بُغض البشَر للمشيب؛ لأمور منها: سلبُه ثوبَ الحبيب - الشباب -، وإنذارُه بِقُرْب الممات. وفوق هذا، فهي ناطقة بمقدرة الشاعر على قرْض الشِّعر" رَوِيَّةً وبديهةً، وأنه كان حَسَنَ التحديث في الجدِّ والهزل، وشِعرُه كثيرُ المعاني، سهل، عذب، وأبرز فنونه الأدبُ والوصف"[7].



ويَرى ابن عبد ربه - كذلك - في المشيب شاهدًا على المنيَّة؛ فنجومُه ساطعة لا تغيب، تزداد استحكامًا بمرور الأيام، وتعمل على الفتْك بالأنام؛ فيقول:[8] [ من الوافر]



نُجومٌ في المَفَارقِ مَا تَغُورُ

ولا يَجْري بِها فَلَكٌ يَدُورُ



كأنَّ سوادَ لِمَّتِه ظلامٌ

أَغَارَ مِن المَشِيبِ عَلَيْه نورُ



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 19.87 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 19.24 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (3.16%)]