عرض مشاركة واحدة
  #209  
قديم 30-10-2022, 10:03 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,279
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ النساء
المجلد الخامس
الحلقة( 209)

من صــ 441 الى صـ 450





قال تعالى {ولو تقول علينا بعض الأقاويل} {لأخذنا منه باليمين} {ثم لقطعنا منه الوتين} وقال تعالى {أم يقولون افترى على الله كذبا فإن يشأ الله يختم على قلبك} فأخبر: أنه - بتقدير الافتراء - لا بد أن يعاقب من افترى عليه.
فصل:
وهذا الموضع مما اضطرب فيه الناس، فاستدلت القدرية النفاة والمجبرة على أنه إذا جاز أن يضل شخصا: جاز أن يضل كل الناس. وإذا جاز أن يعذب حيوانا بلا ذنب ولا عوض: جاز أن يعذب كل حي بلا ذنب ولا عوض. وإذا جاز عليه أن لا يعين واحدا ممن أمره على طاعة أمره: جاز أن لا يعين كل الخلق. فلم تفرق الطائفتان بين الشر الخاص والعام. وبين الشر الإضافي، والشر المطلق. ولم يجعلوا في الشر الإضافي حكمة يصير بها من قسم الخير. ثم قال النفاة: وقد علم أنه منزه عن تلك الأفعال. فإنا لو جوزنا عليه هذا لجوزنا عليه تأييد الكذاب بالمعجزات، وتعذيب الأنبياء وإكرام الكفار، وغير ذلك، مما يستعظم العقلاء إضافته إلى الله تعالى.
فقالت المثبتة من الجهمية المجبرة: بل كل الأفعال جائزة عليه، كما جاز ذلك الخاص. وإنما يعلم أنه لا يفعل ما لا يفعل، أو يفعل ما يفعل: بالخبر، خبر الأنبياء عنه. وإلا فمهما قدر: جاز أن يفعله، وجاز أن لا يفعله. ليس في نفس الأمر سبب ولا حكمة، ولا صفة تقتضي التخصيص ببعض الأفعال دون بعض. بل ليس إلا مشيئة، نسبتها إلى جميع الحوادث سواء. ترجح أحد المتماثلين بلا مرجح. فقيل لهم: فيجوز تأييد الكذاب بالمعجز. فلا يبقى المعجز دليلا على صدق الأنبياء. فلا يبقى خبر نبي يعلم به الفرق. فيلزم - مع الكفر بالأنبياء - أن لا يعلم الفرق، لا بسمع ولا بعقل.
فاحتالوا للفرق بين المعجزات وغيرها. بأن تجويز إتيان الكذاب بالمعجزات يستلزم تعجيز الباري تعالى عما به يفرق بين الصادق والكاذب. أو لأن دلالتها على الصدق معلوم بالاضطرار. كما قد بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع. وبين خطأ الطائفتين. وأن هؤلاء الذين اتبعوا جهما في الجبر - ونفوا حكمة الله ورحمته، والأسباب التي بها يفعل، وما خلقه من القوى وغيرها - هم مبتدعة مخالفون للكتاب والسنة وإجماع السلف، مع مخالفتهم لصريح المعقول. كما أن القدرية النفاة: مخالفون للكتاب والسنة وإجماع السلف، مع مخالفتهم لصريح المعقول.
فصل:

والمقصود هنا: الكلام على قوله {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} وأن هذا يقتضي، أن العبد لا يزال شاكرا مستغفرا. وقد ذكر: أن الشر لا يضاف إلى الله، إلا على أحد الوجوه الثلاثة. وقد تضمنت الفاتحة للأقسام الثلاثة هو سبحانه الرحمن الذي وسعت رحمته كل شيء. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم {أنه أرحم بعباده من الوالدة بولدها} وقد سبقت وغلبت رحمته غضبه، وهو الغفور الودود، الحليم الرحيم.

فإرادته: أصل كل خير ونعمة، وكل خير ونعمة فمنه {وما بكم من نعمة فمن الله}. وقد قال سبحانه {نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم} ثم قال {وأن عذابي هو العذاب الأليم} وقال تعالى {اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم} فالمغفرة والرحمة من صفاته المذكورة بأسمائه. فهي من موجب نفسه المقدسة، ومقتضاها ولوازمها. وأما العذاب: فمن مخلوقاته، الذي خلقه بحكمة، هو باعتبارها حكمة ورحمة. فالإنسان لا يأتيه الخير إلا من ربه وإحسانه وجوده. ولا يأتيه الشر إلا من نفسه. فما أصابه من حسنة: فمن الله. وما أصابه من سيئة: فمن نفسه. وقوله {وما أصابك} إما أن تكون كاف الخطاب له صلى الله عليه وسلم - كما قال ابن عباس وغيره - وهو الأظهر. لقوله بعد ذلك {وأرسلناك للناس رسولا}.
وإما أن تكون لكل واحد من الآدميين، كقوله {يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم}. لكن هذا ضعيف. فإنه لم يتقدم هنا ذكر الإنسان ولا مكانه. وإنما تقدم ذكر طائفة قالوا ما قالوه. فلو أريد ذكرهم: لقيل ما أصابهم من حسنة فمن الله وما أصابهم من سيئة. لكن خوطب الرسول بهذا، لأنه سيد ولد آدم. وإذا كان هذا حكمه: كان هذا حكم غيره بطريق الأولى والأحرى. كما في مثل قوله {اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين} ، وقوله تعالى {لئن أشركت ليحبطن عملك} وقوله {فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك}. ثم هذا الخطاب نوعان: نوع يختص لفظه به لكن يتناول غيره بطريق الأولى، كقوله {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك} ثم قال {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم}.
ونوع: قد يكون خطابه خطابا به لجميع الناس، كما يقول كثير من المفسرين: الخطاب له والمراد غيره. وليس المعنى: أنه لم يخاطب بذلك. بل هو المقدم. فالخطاب له خطاب لجميع الجنس البشري. وإن كان هو لا يقع منه ما نهي عنه. ولا يترك ما أمر به. بل هذا يقع من غيره. كما يقول ولي الأمر للأمير: سافر غدا إلى المكان الفلاني. أي أنت ومن معك من العسكر. وكما ينهى أعز من عنده عن شيء. فيكون نهيا لمن دونه. وهذا معروف من الخطاب. فقوله {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} الخطاب له صلى الله عليه وسلم.

وجميع الخلق داخلون في هذا الخطاب بالعموم، وبطريق الأولى. بخلاف قوله {وأرسلناك للناس رسولا} فإن هذا له خاصة. ولكن من يبلغ عنه يدخل في معنى الخطاب. كما قال صلى الله عليه وسلم {بلغوا عني ولو آية} وقال {نضر الله امرأ سمع منا حديثا فبلغه إلى من لم يسمعه} وقال {ليبلغ الشاهد الغائب} وقال {إن العلماء ورثة الأنبياء} وقد قال تعالى في القرآن {وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ}. والمقصود هنا: أن " الحسنة " مضافة إليه سبحانه من كل وجه. و " السيئة " مضافة إليه لأنه خلقها. كما خلق " الحسنة " فلهذا قال {كل من عند الله}.

ثم إنه إنما خلقها لحكمة. ولا تضاف إليه من جهة أنها سيئة، بل تضاف إلى النفس التي تفعل الشر بها لا لحكمة. فتستحق أن يضاف الشر والسيئة إليها. فإنها لا تقصد بما تفعله من الذنوب خيرا يكون فعله لأجله أرجح. بل ما كان هكذا فهو من باب الحسنات. ولهذا كان فعل الله حسنا. لا يفعل قبيحا ولا سيئا قط. وقد دخل في هذا سيئات الجزاء والعمل. لأن المراد بقوله {ما أصابك من حسنة} و {من سيئة} النعم والمصائب، كما تقدم. لكن إذا كانت المصيبة من نفسه - لأنه أذنب - فالذنب من نفسه بطريق الأولى. فالسيئات من نفسه بلا ريب. وإنما جعلها منه مع الحسنة بقوله:
{كل من عند الله} كما تقدم. لأنها لا تضاف إلى الله مفردة. بل في العموم، كقوله {كل من عند الله}. وكذلك الأسماء التي فيها ذكر الشر، لا تذكر إلا مقرونة، كقولنا " الضار النافع، المعطي المانع، المعز المذل " أو مقيدة، كقوله {إنا من المجرمين منتقمون}. وكل ما خلقه - مما فيه شر جزئي إضافي - ففيه من الخير العام والحكمة والرحمة أضعاف ذلك. مثل إرسال موسى إلى فرعون. فإنه حصل به التكذيب والهلاك لفرعون وقومه. وذلك شر بالإضافة إليهم.
لكن حصل به - من النفع العام للخلق إلى يوم القيامة، والاعتبار بقصة فرعون - ما هو خير عام. فانتفع بذلك أضعاف أضعاف من استضر به. كما قال تعالى {فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين} {فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين} وقال تعالى بعد ذكر قصته {إن في ذلك لعبرة لمن يخشى}. وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم شقي برسالته طائفة من مشركي العرب وكفار أهل الكتاب، وهم الذين كذبوه، وأهلكهم الله تعالى بسببه. ولكن سعد بها أضعاف أضعاف هؤلاء. ولذلك من شقي به من أهل الكتاب كانوا مبدلين محرفين قبل أن يبعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم. فأهلك الله بالجهاد طائفة. واهتدى به من أهل الكتاب أضعاف أضعاف أولئك. والذين أذلهم الله من أهل الكتاب بالقهر والصغار، أو من المشركين الذين أحدث فيهم الصغار، فهؤلاء كان قهرهم رحمة لهم.

لئلا يعظم كفرهم، ويكثر شرهم. ثم بعدهم حصل من الهدى والرحمة لغيرهم ما لا يحصيهم إلا الله. وهم دائما يهتدي منهم ناس من بعد ناس ببركة ظهور دينه بالحجة واليد. فالمصلحة بإرساله وإعزازه، وإظهار دينه، فيها من الرحمة التي حصلت بذلك ما لا نسبة لها إلى ما حصل بذلك لبعض الناس من شر جزئي إضافي، لما في ذلك من الخير والحكمة أيضا. إذ ليس فيما خلقه الله سبحانه شر محض أصلا، بل هو شر بالإضافة.

فصل:
الفرق الخامس: أن ما يحصل للإنسان من الحسنات التي يعملها كلها أمور وجودية. أنعم الله بها عليه، وحصلت بمشيئة الله ورحمته وحكمته وقدرته وخلقه، ليس في الحسنات أمر عدمي غير مضاف إلى الله. بل كلها أمر وجودي. وكل موجود وحادث فالله هو الذي يحدثه. وذلك: أن الحسنات إما فعل مأمور به، أو ترك منهي عنه. والترك: أمر وجودي. فترك الإنسان لما نهي عنه، ومعرفته بأنه ذنب قبيح، وبأنه سبب للعذاب، وبغضه وكراهته له، ومنع نفسه منه إذا هويته، واشتهته وطلبته. كل هذه أمور وجودية. كما أن معرفته بأن الحسنات - كالعدل والصدق - حسنة، وفعله لها أمور وجودية. ولهذا إنما يثاب الإنسان على فعل الحسنات إذا فعلها محبا لها بنية وقصد فعلها ابتغاء وجه ربه.
وطاعة لله ولرسوله، ويثاب على ترك السيئات إذا تركها بالكراهة لها، والامتناع منها. قال تعالى {ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون} وقال تعالى {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى} {فإن الجنة هي المأوى} وقال تعالى {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر}. وفي الصحيحين عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال {ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما. ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله. ومن كان يكره أن يرجع في الكفر - بعد إذ أنقذه الله منه - كما يكره أن يلقى في النار}. وفي السنن عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم {أوثق عرى الإيمان: الحب في الله، والبغض في الله}. وفيها عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم {من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان}.

وفي الصحيح عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال {من رأى منكم منكرا فليغيره بيده. فإن لم يستطع فبلسانه. فإن لم يستطع فبقلبه. وذلك أضعف الإيمان}. وفي الصحيح من حديث ابن مسعود رضي الله عنه - لما ذكر الخلوف - قال {من جاهدهم بيده فهو مؤمن. ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن. ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن. ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل} وقد قال تعالى {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء}.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 44.26 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 43.63 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.42%)]