التذوق الأدبي
د. إبراهيم عوض
كذلك فقولهم: إن "الذَّوق" الذي يعانيه الصوفي يغنيه عن إدراكات الحواس والدراسة وقراءة الكتب والتفكير العقلي هو أيضًا دعوى جامحة، لا تستحق غير الرفض؛ لأن هذه الحالة لا تتحقق لغير الأنبياء؛ إذ ينزل اللهُ سبحانه عليهم وحيَه، فيقوم لهم مقام الكتب والدراسة بالنسبة لنا نحن البشر العاديين، الذين لا يمكننا اكتساب أية معرفة إلا من خلال القراءة والاستماع وسائر الحواس، فضلًا عن التجارِب التي نمر بها في رحلة الحياة، وعلى هذا فأي شعور يحسه المتصوف مما يزعمونه تجليًا لله سبحانه على قلبه ليس إلا محصلة لما اكتسبه من معارف تعلمها من الكتب أو أخذها عن المشايخ أو استقاها من تجارِب الحياة اليومية، ولِما أدَّاه إليه عقله من أفكارٍ ووجدانات، هذه هي حقيقة الأمر، ولا شيء غير ذلك! ولو أنهم قد عرفوا "الذَّوق" بأنه اللذة التي يشعر بها الصوفي جراء إخلاصه في عبادته وإقباله على ربه إقبال الخشية والإخبات، أو جراء زهده في حطام الدنيا وقيامه على مساعدة المحتاجين والضعفاء بما يملِك من مال أو صحة أو علم مثلًا، لقلنا: نعم، ونَعام عين، أما تلك الدعوى الجامحة فكلا وألف كلا!
ولعل هذا ما تومئ إليه كلمات د. التفتازاني حين ذكر أن المعرفة عند أهل التصوف "ذات طبيعة وجدانية ذاتية تمامًا"، وأن "اعتبار المعرفة الصوفية ذوقًا يجعل من التصوف شيئًا أقرب إلى الفن، الذي يقوم على الخبرة الذاتية والمعاناة، منه إلى العلم، وهذا يفسر اختلاف الصوفية في التعبير عن معارفهم؛ لأن كل صوفي إنما يعتمد في التعبير على ذوقه الخاص وتجرِبته الشخصية"[12].
ولعلنا قد لاحظنا أن تعريف الصوفيين للذوق لا يقف به عند الناحية الوجدانية فقط، بل يمده ليشمل الجانب العقلي أيضًا، وهو ما يصدق على "الذَّوق" في مجال الأدب، بخلاف تذوق الطعام أو الموسيقا أو النسيم العليل أو العطر وما أشبه مما لا يحتاج الإنسان معه إلى أن يفهمه بعقله قبل أن يتذوقه، أستبق فأقول هذا الآن قبل أن أعود إليه بالتفصيل فيما بعد؛ لأن بعض النقاد في الآونة الأخيرة يدعون إلى أن يدخل القارئ على العمل الأدبي مباشرة دون محاولة الاستعانة على فهمه بالاطلاع على أخبار مبدعه مثلًا، أو معرفة الظروف التي أحاطت بإبداعه... إلخ، وهو ما يقف بيقينٍ حاجزًا بين القارئ وتذوق النص؛ لأنه في مجال الآداب لا تذوق دون فهم، كما أنه كلما زاد فهم النص والتغلغل في أغواره وأبعاده ازدادت اللذة الحاصلة من هذا التذوق.
وقد استعملت كلمة "الذَّوق" في النقد العربي القديم منذ وقت مبكر: ففي مقدمة "عيار الشعر" مثلًا لابن طباطبا العلوي (ت 322هـ) نقرأ أن الشعر "كلام منظوم بائن عن المنثور الذي يستعمله الناس في مخاطبتهم بما خُص به من النظم، الذي إن عدل به عن جهته مجَّتْه الأسماع وفسد في الذَّوق، ونظمه معلوم محدود، فمن صح طبعه وذوقه لم يحتَجْ إلى الاستعانة على نظم الشعر بالعَرُوض التي هي ميزانه، ومن اضطرب عليه الذَّوق لم يستغنِ عن تصحيحه وتقويمه بمعرفة العَرُوض والحِذْق به حتى تعتبر معرفته المستفادة كالطبع الذي لا تكلف فيه"[13]، وفي "دلائل الإعجاز" لعبدالقاهر الجرجاني (ت 471هـ) يقابلنا - على سبيل المثال - هذا النص الذي يقول فيه ذلك الناقد الكبير: "واعلَمْ أنه لا يصادف القول في هذا الباب[14] موقعًا من السامع، ولا يجد لديه قبولًا، حتى يكون من أهل الذَّوق والمعرفة، فأما من كانت الحالان والوجهان عنده سواءً... فما أقلَّ ما يجدي الكلام معه، فليكن مَن هذه صفتُه عندك بمنزلة مَن عدم الإحساس بوزن الشعر والذَّوق الذي يقيمه به والطبع الذي يميز صحيحه من مكسوره... في أنك لا تتصدى له ولا تتكلف تعريفه"[15]، بل إن ابن الأثير (ت 627هـ) ليفرق بين "الذَّوق السليم"، ويقصد به الملَكة الفطرية التي يدرك بها الإنسان مواطن الجمال في الأدب، و"ذوق التعليم"، وهو الذَّوق المصقول الذي درس صاحبه قواعد البلاغة والنقد، يقول: "اعلم أيها الناظر في كتابي أن مدار علم البيان على حُكم الذَّوق السليم الذي هو أنفع من ذوق التعليم"[16]، كذلك نقرأ لابن أبي الحديد (ت 656هـ) أن "معرفة الفصيح والأفصح والرشيق والأرشق من الكلام لا يدرك إلا بالذَّوق، ولا يمكن إقامة الدليل عليه"[17]، وبالمثل يجعل ابن خلدون (ت 808هـ) مدار البلاغة على الذَّوق؛ إذ يقول: "اعلَمْ أن لفظة "الذَّوق" يتداولها المعتنون بفن البيان، ومعناها حصول ملكة البلاغة للسان، واستعير لهذه الملكة عندما ترسخ وتستقر اسم "الذَّوق"، الذي اصطلح عليه أهل صناعة البيان، وإنما هو موضوع لإدراك الطعوم، ولكن لما كان محل هذه الملكة في اللسان من حيث النطق بالكلام، كما هو محل لإدراك الطعوم، استُعير لها اسمه، وأيضًا فهو وجدان اللسان، كما أن الطعوم محسوسة له، فيقال له: ذوق"[18]... وهكذا.
أما بالنسبة للنقد الأوروبي فقد جاء مثلًا في "A Dictonary of Litaerary Terms" أن لفظة "الذَّوق: taste" قد أصبحت مصطلحًا نقديًّا أواخر القرن السابع عشر الميلادي؛ إذ نجد مثلًا في كتاب "Les Caracterses" للناقد الفرنسي لابرويير أنه في الأمور الفنية "il y a donc un bon et un mauvais gout: هناك ذوق سليم وذوق فاسد، كما يحدد أديسون في بداية القرن الثامن عشر الميلادي "الذَّوق" بأنه تلك الملَكة النفسية التي من شأنها إدراك نواحي الجمال في نتاج كاتب ما، والتلذذ بها، وكذلك الالتفات إلى جوانب النقص فيه والنفور منها، ثم استقر هذا الاصطلاح في ميدان النقد الأدبي في القرن الثامن عشر لينتشر بعد ذلك في الكتابات التي تبحث في فلسفة العلوم والجمال[19].
ويؤكد هذا ما جاء في كل من "Grand Larousse de la [20]Langue Francaise Oxford English Dicatioar [21]"؛ إذ يقول قاموس لاروس الكبير: إن استعمال كلمة " gout " للدلالة على الملَكة التي ندرك من خلالها الجمال والقُبح، وكذلك الكمال والنقص في الإبداع الأدبي والفني، يرجع إلى أواسط القرن السابع عشر، وهو يستشهد على ذلك بعبارات مأخوذة من فولتير وتين ولابرويير وغيرهم، كما نقرأ في قاموس أكسفورد أن دلالة كلمة "taste" على الشعور بما هو لائق أو منسجم أو جميل، وعلى القدرة على إبصار الجمال وتقديره سواء في الطبيعة أو في ميدان الفنون، وعلى نحو خاص الملَكة التي ندرك بها ونستمتع من خلالها بما هو ممتاز في الفن والأدب وما أشبه، يعود تاريخها إلى القرن السابع عشر، وقد مثل لهذا بنص من ملتون وآخر من كونجريف في ذلك القرن.
والملاحظ أن بعض النصوص التي تتحدث عن "الذَّوق" بمعناه الأدبي والفني تحصر مهمته في إدراك الجوانب الجميلة في العمل الأدبي والفني، غافلة عن أن الذَّوق في معناه الأصلي؛ أي: ذوق المطعوم والمشروب، لا يقتصر على الحُلْو وحده، بل يشمل الحُلْو والمُرَّ، والمِلح والمز والحامض... إلى آخر الطعوم، وليس يُعقل أن تكون وظيفة الذَّوق الأدبي هي إبصار الجميل فقط، بل الجميل والقبيح، والحسن والرديء، والممتع والمنفِّر... وهلم جرًّا، وهذا من الوضوح بمكان بحيث يعجَب الإنسان كيف فات أولئك النقاد الالتفات إليه؛ فقارئ النص الأدبي أو الناظر إلى اللوحة المصورة أو المستمع إلى القطعة الموسيقية مثلًا قد يجد في العمل الذي بين يديه ما يسره ويثير نشوته وأريحيته، أو قد يجد فيه ما يهيج منه النفور ويجعله يلوي عطفه ويزورُّ بوجهه ضيقًا وضجرًا، ومبعث هذا وذاك هو الذَّوق الأدبي أو الفني، ومن النصوص التي قصرت الذَّوق على إدراك الجوانب الجميلة في الإبداعات الأدبية والفنية ما جاء في "Current Literary Terms" من أن "الذَّوق: taste هو الملَكة التي ندرك بها ونحب ما هو جميل، وبخاصة في الآداب والفنون"[22]، ومثله ما يقول د. جميل صليبا في تعريفه للذوق الأدبي من أنه "قوة إدراكية لها اختصاص بإدراك لطائف الكلام ومحاسنه الخفية"[23]، ومن هنا فإننا مع التعريف الذي ساقه د. جبور عبدالنور للذوق الأدبي من أنه "ملَكة الإحساس بالجمال والتمييز بدقة بين حسنات الأثر الفني وعيوبه وإصدار الحكم عليه"[24]، والواقع أن الإنسانَ لا يستطيع أن يميز الجمال ويستمتع به إلا إذا كان قادرًا في ذات الوقت على تمييز القُبح والاشمئزاز منه، فبضدها تتميز الأشياءُ، كما هو معروف.
بَيْدَ أن القارئ لا يمكنه تذوق العمل الأدبي إلا إذا فهمه أولًا، وذلك على العكس من تذوق الطعام والشراب أو الاستمتاع بالعطر الفواح أو الانبهار بمنظر البحر عند الغروب أو الضيق بالأصوات المزعجة، أو الاشمئزاز من رائحة الجيف المنتنة مثلًا؛ إذ الشعور بتلك الأشياء والتلذذ بها أو النفور منها لا يحتاج منا إلى أن نفهمها أولًا، بل يقع مباشرة ودون الحاجة إلى بذل أي جهد من جانبنا، أما فهم العمل الأدبي فيقتضي أن نفهم اللغة التي كُتب بها ونفهم مضمونه، ويزداد فهمنا له ويعمق إذا أضفنا إلى ذلك معرفة كل ما نستطيع الوصول إليه من معلومات تتعلق بمبدعه والظروف التي أبدعه فيها... إلخ.
ولا ريب أن القارئ إذا لم يكن عارفًا باللغة التي كُتب بها العمل الأدبي فلن يفهم منه شيئًا، ومِن ثم لن يكون بمقدوره أن يتذوقه، على أن يكون معلومًا أن معرفة اللغة درجات متفاوتة: فمنا من يعرف اللغة التي ينتمي إليها العمل الأدبي معرفة عامة دون أن يفهم نحوها وصرفها، أو يعرف شيئًا عن بلاغتها في التعبير، كما قد يكون محصوله اللغوي من الألفاظ والتعبيرات غير كافٍ، أو ربما لم يكن مهيأ للتعامل إلا مع لغة العصر الذي يعيش فيه، بحيث لا يستطيع أن يفهم أي عمل أدبي ينتسب إلى عصر من العصور الأدبية السابقة... إلخ، ترى هل يستطيع القارئ العادي في عصرنا هذا أن يفهم قصائد الشعر الجاهلي مثلًا؟ الجواب في الغالب هو بكل تأكيد: "كلا"، وهل يستطيع القارئ الذي لا يعرف شيئًا عن البحر والسفن أن يفهم، كما ينبغي أن يكون الفهم، رواية تصف حياة البحارة على ظهر السفن والمحيطات والعمل الذي يؤدونه في مثل هذه الظروف؟ لا أظن ذلك، ولقد حاولتُ منذ نحو عشرين عامًا قراءة رواية "موبي دك" لهرمان ملفيل "الكاتب الأمريكي المعروف" في لغتها الأصلية، وهي تدور على حياة البحر، ومضيتُ في قراءتها إلى منتصفها تقريبًا، إلا أن غرابة الجو الذي تتحدث عنه، سواء على أثباج الموج أو في الحانات التي يرتادها بحارة السفينة، وكذلك جهلي المطلق بالمصطلحات البحرية التي تكتظ بها، فضلًا عن غرام المؤلف المفرط بوصف كل شيء وصفًا مفصلًا لا يكاد يغادر منه كبيرة أو صغيرة إلا أحصاها، كل ذلك جعل تقدمي في القراءة عملًا صعبًا، مما صرفني عن متابعة السير فيها إلى النهاية.
كذلك أعترفُ أن في الشعر الجاهلي الذي قرأتُه (وما أكثره!) أبياتًا لا أحقِّق لها معنى، أو على الأقل لا أحقق معناها على وجه الدقة، ومنها على سبيل المثال: الأبيات التي يتحدث فيها امرؤ القيس في معلقته عن نجوم الثريا وتعرُّضها كتعرُّض أثناء الوشاح المفصل، إن الأبيات تعالج موضوعًا من موضوعات الفلك لا بد من إقراري بأني لا أعرف منه شيئًا، على حين كان الجاهليون يعرفونه كما يعرفون ظهور أيديهم حسب التعبير الإنجليزي المشهور! ومثل ذلك كل المقاطع التي يخصصها كثير من شعرائنا القدامى لوصف ناقتهم التي كانوا يرتحلون عليها وكانوا يجدون لذة أي لذة في الوقوف طويلا إزاءها عضوًا عضوًا، على حين لا أفهم أنا هذا الوصف إلا فهمًا عامًّا مقاربًا، وأحيانًا لا أكاد أفهم شيئًا رغم معرفتي بكثير من مفردات ذلك الوصف وتراكيبه واستعانتي بالمعاجم وشروح نقادنا ولغويينا القدماء في معرفة الباقي، والسبب؟ السبب هو أن الموضوع غريب عليَّ إلى حد كبير، فأنا مِن أسرة تجار، ومن ثم لا أعرف شيئًا عن البادية والناقة، فضلًا عن أن تجرِبة السفر على ذلك الحيوان هي تجرِبة مجهولة لدينا نحن المصريين، ودَعْك من أن الحياة قد تغيرت منذ العصر الجاهلي حتى الآن تغيرًا شاملًا أو يكاد! ولهذا السبب يجدني القارئ، في كتابي عن النابغة الجعدي، أبدي ضيقي بمثل هذه الأشعار.
كذلك أحب أن أذكر للقارئ تجرِبة ثالثة لي في القراءة تتصل بما نحن فيه، فقد قرأت عددًا من الدراسات حول شِعر الشاعر العراقي المعاصر بدر شاكر السياب، وظل هناك رغم ذلك حائل بيني وبين النفوذ القوي العميق إلى روح ذلك الشاعر وشعره؛ إذ كنت لا أستطيع تحقيق نوع المرض الذي كان يعاني منه، كما كنت أجهل جوانبَ كثيرة من حياته الأسرية والشخصية... إلى أن وقع في يدي بقَطَر كتاب د. حجر أحمد حجر البنعلي: "معاناة الداء والعذاب في أشعار السياب"، الذي جلَّى فيه طبيعة مرض الشاعر المسكين، وألقى الضوء على بعض الأمور التي كانت خافية عليَّ من حياته وعلاقته بأسرته وزوجته وأصدقائه وما إلى ذلك، فانفتحَتْ أمامي إلى الشاعر وشعره أبواب أخرى غير التي كانت مفتوحة لي من قبل، واستطعت لذلك فهمَ أشياءَ مِن شعره على نحو أفضل... وهكذا، ومثل ذلك كتابان قرأتهما بأخرة (هما "أيام مع طه حسين" للدكتور محمد الدسوقي، و"مسامرات نقدية" للدكتور عبدالكريم الأشتر) جعلاني أتعاطف مع الدكتور طه وظروفه أكثرَ من ذي قبل، وأُبصر نتاجه الأدبي بعينٍ غيرِ العين التي كنت أراه بها إلى حد ما، وإن لم يتغيَّرْ موقفي من تمجيده المطلق للحضارة الغربية وما كتبه عن الإسلام أيام كان يعتسف الحديث عن دِين محمد عليه الصلاة والسلام اعتسافًا لا يعرف التبصُّر.
على أن ذلك كله، مع أهميته الشديدة، لا يكفي؛ إذ لا بد للقارئ، إذا كان يريد أن يكون تذوقه للعمل الذي يقرؤه أقوى وأعمق، أن يعرف أيضًا طبيعة الجنس الأدبي الذي ينضوي تحته ذلك العمل، إن لكل جنس أدبي خريطتَه ومفاتيحه، وإذا لم يُرِدِ القارئ أن يضرب في أرجاء العمل الذي في يده على غير هدًى فعليه أن يلمَّ بقواعد الجنس الذي ينتمي إليه، ترى هل يتم تذوق سليم لقصيدة شعرية دون أن يعرف القارئ شيئًا عن موسيقا الشعر مثلًا؟ الحق أنه بدون مثل هذه المعرفة لن يكون بمستطاعه إدراك كثير من نواحي الجمال أو النقص فيها بكل يقين، وقُلْ مثل ذلك فيمن يقرأ رواية للدكتور طه حسين مثلًا فيفتن بأسلوبه الساحر ولا يتنبه إلى أن فن الرواية ليس أسلوبًا فحسب، بل هناك عناصر أخرى من تشخيص وسرد وحوار ووصف وبناء لا يتم تذوق أي عمل روائي بعمق، أو الحُكم عليه حُكمًا دقيقًا، دون الإحاطة بها.
إن العمل الأدبي، بالنسبة للقارئ الذي لا يعرف اللغة التي كُتب بها، ليشبه شيئًا تراد رؤيته، لكنه غارق تمامًا في ظلام دامس، فليس من وسيلة لإبصاره، فإذا عرف القارئ تلك اللغة انجاب بعضٌ مِن ذلك الظلام، فإذا عرَف طبيعة الجنس الذي ينتسب إليه العمل انجاب بعض آخر، فإذا عرف ظروف تأليفه انجاب بعض ثالث، فإذا عرف حياة مؤلفه وشخصيته تكاثرت أشعة الضوء المبدِّدة للظلام... وهكذا دواليك، الفهم إذًا هو الوسيلة إلى التذوق، وفي ضوء هذا يمكننا أن نقرأ عبارة الشاعر والناقد الإنجليزي كوليردج، التي يقول فيها: إن "الذَّوق الجيد، مثله مثل كثير من الأشياء الجيدة، هو نتاج الفكر والدراسة المخلصة لأفضل النماذج"[25]، وهذا يأخذنا إلى ما يسمى بـ"تفسير النص"، وهو ما يطلقون عليه في الإنجليزية: "exegesis"، وفي الفرنسية: "exegese".
وفي "المعجم الوسيط" مثلًا: "فسَّر الشيء: وضحه"، و"فسَّر آيات القرآن الكريم: شرحها ووضح ما تنطوي عليه من معانٍ وأسرار وأحكام"، و"التفسير" هو "الشرح والبيان"، و"تفسير القرآن" هو "توضيح معاني القرآن الكريم وما انطوت عليه آياتُه من عقائد وأسرار وحِكَم وأحكام"، وفي "الصحاح في اللغة والعلوم" لنديم وأسامة مرعشلي أن "التفسير" هو "البيان"، أما في الاصطلاح النقدي (بما يقابل "exegesis/ exegese") فهو عبارةٌ عن "شرح لغوي أو مذهبي لنص ما، وبوجه خاص للنصوص الدينية"، وقد عرَّفه "Current Litereary Terms" بما لا يقع بعيدًا عن هذا؛ إذ قال: إن الـ"exegesis" هو توضيح للنصوص، وبخاصة نصوص الكتاب المقدس، وإن كان قد أضاف أنه يعني أيضًا تصنيف النص[26]، وهو ما نجده كذلك عند إبراهيم فتحي في "معجم المصطلحات الأدبية"، فقد عرَّف المصطلح "exegesis" (الذي ترجمه إلى "تفسير تأويلي") بأن المقصود به تفسير العمل الأدبي وشرحه، مضيفًا أن الكلمة "تطلق عادة على تحليل فقرة ليست عادية من ناحية الصعوبة في الشعر أو النثر"، وأنها تشير بوجه خاص "إلى تفسيرات وشروح تتعلق بأجزاء من الكتاب المقدس"[27]، ويتوسع Cuddon بعض التوسُّع في الكلام عن هذا المصطلح في المادة التي خصصها له في معجمه الخاص بالمصطلحات الأدبية قائلًا: إن "الرومان كانت لديهم وظيفة رسمية يقوم بها محترفون، مهمتهم تفسير الرؤى والتعاويذ والقانون المقدس وما يصدر عن الكهَّان من أقوال، ومن ثم أصبحت كلمة "exegesis" تدل على الشرح والتفسير، وغالبًا ما يراد بها الدراسات التي تتناول الكتاب المقدس، أما في مجال الأدب فالمقصود بها التحليل النقدي للنص، وإزالة ما فيه من صعوبات وغموض"[28]، وواضح أن هذه الكلمة، سواء عندنا أو عند الغربيين، كانت تعني في البداية شرحَ النصوص المقدسة، ثم توسع فيها وأصبحت أحد مصطلحات النقد الأدبي، وهو ما يقول به أيضًا كريس بولديك في معجمه المسمَّى: "Oxford Concsise Dictionarry of Literary Tems"[29]).
وعَوْدًا إلى ما سبق أن قلناه من أن عملية فهم النص الأدبي تتطلب أشياءَ غير قليلة نذكر أن تفسير القرآن، كما هو معروف، يستلزم الإلمام الجيد بطائفة كبيرة من العلوم العربية والشرعية والإنسانية، وهي النَّحْو والصرف والمعاجم والمعاني والبديع والبيان والقراءات والفقه وأصوله وأسباب النزول والقصص والناسخ والمنسوخ والمكي والمدني والأحاديث النبوية وكتب التفسير والتاريخ وعلم الاجتماع وعلم النفس والاقتصاد والسياسة والفلك والطب والجيولوجيا وغير ذلك مما لا غنى عنه في تفسير آيات الكتاب المجيد.
فإذا انتقلنا بهذه الكلمة إلى مجال النقد الأدبي، وتذكرنا ما قلناه من أن تفسير نصوص الأدب هو وسيلتنا إلى فهمها الفهم الصحيح كي نستطيع تذوقها كما ينبغي، تبين لنا على نحوٍ جليٍّ أن عملية الفهم هذه ليست بالبساطة التي قد يظنها المتعجِّلون، وأننا لم نبالغ البتة في الحديث عن أبعادها، بل العكس هو الصحيح؛ فقد اختصرنا في الواقع الكلام اختصارًا، واكتفينا بمجرد الإيماءة السريعة مع إيراد بعض الأمثلة العارضة على ما نقول.
[1] القين: هو الحداد. والمستذاق: هو من تخبره فلا تحمد مخبرته.
[2] ذاق القوس: اختبرها ليعرف مدى لينها من شدتها.
[3] المسمى "ترجمان القرآن".
[4] أما إدوارد وليم لين (E.W.Lane) في "مد القاموس" فإنه كان يترجم بعض العبارات العربية المجازية الخاصة بـ"الذوق" أحيانًا بـ"to taste"، وأحيانًا بـ"to experience"، وأحيانًا بالكلمتين معًا، واضعًا إحداهما بين معقوفتين إشارة إلى أن كلتا الترجمتين صحيحة، ولهذه الطريقة الثالثة نُمثِّل بترجمته لقولهم: "ذاق الرجل عُسيلة المرأة"؛ إذ جاءت على النحو التالي: "The man tasted or experienced the sweetness of the carnal enjoyment of the woman".
[5] صحيح مسلم/ إيمان/ 56.
[6] مسند أحمد بن حنبل/ 5/ 135.
[7] صحيح البخاري/ شهادات/ 3.
[8] مسند أحمد بن حنبل/ 1/ 428.
[9] صحيح الترمذي/ مناقب/ 65.
[10] موطأ مالك/ مدينة/ 15.
[11] الموسوعة الفلسفية العربية/ معهد الإنماء العربي/ 1986م/ 1/ 457.
[12] نفس المرجع والجزء والصفحة.
[13] ابن طباطبا/ عيار الشعر/ تحقيق طه الحاجري ومحمد زغلول سلام/ المكتبة التجارية/ 1956م.
[14] يقصد نظريته القائمة على أن النظم هو لباب البلاغة.
[15] عبدالقاهر الجرجاني/ دلائل الإعجاز/ مطبعة المنار/ 1321هـ/ 225.
[16] ابن الأثير/ المثل السائر/ مكتبة نهضة مصر/ 1959م/ 1/ 38.
[17] نقلًا عن "الإتقان" للسيوطي/ ط4/ مصطفى البابي الحلبي/ 1398هـ - 1978م/ 2/ 231.
[18] مقدمة ابن خلدون/ المطبعة البهية/ القاهرة/ 516.
[19]J.A. Cuddon، A Dictionary of Literary Terms، Andre Deutsch London، 1977، p. 670.
[20]Librireie Larousse، 1973، Tome 3، p. 2269.
[21] Oxford، 1989، ed.2، Vol. XVII، P. 650.
[22]A.F. Scott، Current Literary Terms، Macmilland، London a Basingstoke، 1980، p. 288.
[23] د. جميل صليبا/ المعجم الفلسفي/ دار الكتاب اللبناني/ 1982م/ 1/ 597.
[24] د. جبور عبدالنور/ المعجم الأدبي/ دار العلم للملايين/ 1979م/ 118.
[25] A.F. Scott، Current Literary Terme، p. 288.
[26] P. 107.
[27] إبراهيم فتحي/ معجم المصلحات الأدبية/ المؤسسة العربية للناشرين المتحدين/ 1986م/ 98.
[28] J. A. Cuddon، A Dictionary of Litarary Terms، P. 670.
[29]Chris Baldick، Oxford Concise Dictioary of Literary Critiscism، Oxford University Press، 1966، P. 76.