عرض مشاركة واحدة
  #7  
قديم 22-10-2022, 12:17 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,565
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (375)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 259 إلى صـ 266



قوله تعالى : وبشر المخبتين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم ، أمر الله - جل وعلا - - نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يبشر المخبتين : أي المتواضعين لله المطمئنين الذين من صفتهم : أنهم إذا سمعوا ذكر الله ، وجلت قلوبهم أي : خافت من الله - جل وعلا - وأن يبشر الصابرين على ما أصابهم من الأذى ، ومتعلق التبشير محذوف لدلالة المقام عليه أي بشرهم بثواب الله وجنته ، وقد بين في موضع آخر : أن الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم : هم المؤمنون حقا وكونهم هم المؤمنين حقا ، يجعلهم جديرين بالبشارة [ ص: 259 ] المذكورة هنا ، وذلك في قوله تعالى : إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم الآية [ 8 \ 2 ] وأمره في موضع آخر أن يبشر الصابرين على ما أصابهم مع بيان بعض ما بشروا به ، وذلك في قوله تعالى : وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون [ 2 \ 155 - 157 ] .

واعلم : أن وجل القلوب عند ذكر الله أي : خوفها من الله عند سماع ذكره لا ينافي ما ذكره - جل وعلا - ، من أن المؤمنين تطمئن قلوبهم بذكر الله كما في قوله تعالى : الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب [ 13 \ 28 ] ووجه الجمع بين الثناء عليهم بالوجل الذي هو الخوف عند ذكره - جل وعلا - ، مع الثناء عليهم بالطمأنينة بذكره ، والخوف والطمأنينة متنافيان هو ما أوضحناه في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " ، وهو أن الطمأنينة بذكر الله تكون بانشراح الصدر بمعرفة التوحيد ، وصدق ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فطمأنينتهم بذلك قوية ; لأنها لم تتطرقها الشكوك ، ولا الشبه ، والوجل عند ذكر الله تعالى يكون بسبب خوف الزيغ عن الهدى ، وعدم تقبل الأعمال ; كما قال تعالى عن الراسخين في العلم ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا [ 3 \ 8 ] وقال تعالى : والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون [ 23 \ 60 ] وقال تعالى : تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله [ 39 \ 23 ] ولهذا كان - صلى الله عليه وسلم - يقول في دعائه : " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " .
قوله تعالى : فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر ، قد قدمنا أنه تعالى أمر بالأكل من بهيمة الأنعام وهي : الإبل والبقر والغنم بأنواعها الثمانية ، وأمر بإطعام البائس الفقير منها ، وأمر بالأكل من البدن وإطعام القانع والمعتر منها ، وما كان من الإبل ، فهو من البدن بلا خلاف .

واختلفوا في البقرة ، هل هي بدنة ، وقد قدمنا الحديث الصحيح : أن البقرة من البدن ، وقدمنا أيضا ما يدل على أنها غير بدنة ، وأظهرهما أنها من البدن ، وللعلماء في تفسير القانع والمعتر أقوال متعددة متقاربة أظهرها عندي : أن القانع هو الطامع الذي يسأل أن يعطى من اللحم ومنه قول الشماخ :


لمال المرء يصلحه فيغني مفاقره أعف من القنوع


[ ص: 260 ] يعني أعف من سؤال الناس ، والطمع فيهم ، وأن المعتر هو الذي يعتري متعرضا للإعطاء من غير سؤال وطلب ، والله أعلم . وقد قدمنا حكم الأكل من أنواع الهدايا والضحايا ، وأقوال أهل العلم في ذلك بما أغنى عن إعادته هنا .
قوله تعالى : كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون ، قوله كذلك : نعت لمصدر أي : البدن لكم تسخيرا كذلك أي : مثل ذلك التسخير الذي تشاهدون أي : ذللناها لكم ، وجعلناها منقادة لكم تفعلون بها ما شئتم من نحر وركوب ، وحلب وغير ذلك من المنافع ، ولولا أن الله ذللها لكم لم تقدروا عليها ; لأنها أقوى منكم ألا ترى البعير ، إذا توحش صار صاحبه غير قادر عليه ، ولا متمكن من الانتفاع به ، وقوله هنا : لعلكم تشكرون قد قدمنا مرارا أن لعل تأتي في القرآن لمعان أقربها ، اثنان : أحدهما : أنها بمعناها الأصلي ، الذي هو الترجي والتوقع ، وعلى هذا فالمراد بذلك خصوص الخلق ; لأنهم هم الذين يترجى منهم شكر النعم من غير قطع ، بأنهم يشكرونها أو لا ينكرونها لعدم علمهم بما تؤول إليه الأمور ، وليس هذا المعنى في حق الله تعالى ; لأنه عالم بما سيكون فلا يجوز في حقه - جل وعلا - إطلاق الترجي والتوقع لتنزيهه عن ذلك ، وإحاطة علمه بما ينكشف عنه الغيب ، وقد قال تعالى لموسى وهارون : فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى [ 20 \ 44 ] أي على رجائكما وتوقعكما أنه يتذكر أو يخشى ، مع أن الله عالم في سابق أزله أن فرعون لا يتذكر ولا يخشى ، فمعنى لعل بالنسبة إلى الخلق ، لا إلى الخالق - جل وعلا - ، المعنى الثاني : هو ما قدمنا من أن بعض أهل العلم ، قال : كل لعل في القرآن فهي للتعليل إلا التي في سورة الشعراء وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون [ 26 \ 129 ] قال : فهي بمعنى : كأنكم تخلدون ، وإتيان لفظة لعل للتعليل معروف في كلام العرب ، وقد قدمناه موضحا مرارا وقد قدمنا من شواهده العربية قول الشاعر :


فقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا نكف ووثقتم لنا كل موثق


يعني كفوا الحروب لأجل أن نكف ، وإذا علمت أن هذه الآية الكريمة بين الله فيها أن تسخيره الأنعام لبني آدم نعمة من إنعامه ، تستوجب الشكر لقوله : لعلكم تخلدون .

فاعلم : أنه بين هذا في غير هذا الموضع كقوله تعالى [ ص: 261 ] أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون [ 22 \ 36 ] وقوله في آية " يس " : هذه : أفلا يشكرون كقوله في آية " الحج " : لعلكم تشكرون ويشير إلى هذا المعنى قوله تعالى قريبا : كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم الآية [ 22 \ 37 ] ، وقد قدمنا معنى شكر العبد لربه وشكر الرب لعبده ، مرارا بما أغنى عن إعادته هنا والتسخير : التذليل .
قوله تعالى : إن الله يدافع عن الذين آمنوا ، بين - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أنه يدفع السوء عن عباده الذين آمنوا به إيمانا حقا ، ويكفيهم شر أهل السوء ، وقد أشار إلى هذا المعنى في غير هذا الموضع كقوله تعالى : ومن يتوكل على الله فهو حسبه الآية [ 65 \ 3 ] ، وقوله : أليس الله بكاف عبده [ 39 \ 36 ] وقوله تعالى : قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم [ 9 \ 14 - 15 ] وقوله تعالى : إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا الآية [ 40 \ 51 ] ، وقوله : وكان حقا علينا نصر المؤمنين [ 30 \ 47 ] وقوله : وإن جندنا لهم الغالبون [ 37 \ 173 ] إلى غير ذلك من الآيات ، وقرأ هذا الحرف ابن كثير وأبو عمرو : إن الله يدافع عن الذين آمنوا بفتح الياء والفاء بينهما دال ساكنة مضارع دفع المجرد ، وعلى هذه القراءة ، فالمفعول محذوف أي يدفع عن الذين آمنوا الشر والسوء ، ; لأن الإيمان بالله هو أعظم أسباب دفع المكاره ، وقرأ الباقون : يدافع بضم الياء ، وفتح الدال بعدها ألف ، وكسر الفاء مضارع دافع المزيد فيه ألف بين الفاء والعين على وزن فاعل ، وفي قراءة الجمهور هذه إشكال معروف ، وهو أن المفاعلة تقتضي بحسب الوضع العربي اشتراك فاعلين في المصدر ، والله - جل وعلا - يدفع كل ما شاء من غير أن يكون له مدافع يدفع شيئا .

والجواب : هو ما عرف من أن المفاعلة قد ترد بمعنى المجرد ، نحو : جاوزت المكان بمعنى جزته ، وعاقبت اللص ، وسافرت ، وعافاك الله ، ونحو ذلك ، فإن فاعل في جميع ذلك بمعنى المجرد ، وعليه فقوله : يدافع بمعنى : يدفع ، كما دلت عليه قراءة ابن كثير وأبي عمرو ، وقال الزمخشري : ومن قرأ يدافع فمعناه : يبالغ في الدفع عنهم كما يبالغ من يغالب فيه ; لأن فعل المغالب يجيء أقوى وأبلغ اهـ منه ، ولا يبعد عندي أن يكون [ ص: 262 ] وجه المفاعلة أن الكفار يستعملون كل ما في إمكانهم لإضرارهم بالمؤمنين ، وإيذائهم ، والله - جل وعلا - يدفع كيدهم عن المؤمنين ، فكان دفعه - جل وعلا - لقوة عظيمة أهلها في طغيان شديد ، يحاولون إلحاق الضرر بالمؤمنين وبهذا الاعتبار كان التعبير بالمفاعلة ، في قوله : يدافع ، وإن كان - جل وعلا - قادرا على إهلاكهم ، ودفع شرهم عن عباده المؤمنين ، ومما يوضح هذا المعنى الذي أشرنا إليه قول كعب بن مالك - رضي الله عنه - :
زعمت سخينة أن ستغلب ربها

وليغلبن مغالب الغلاب


والعلم عند الله تعالى : ومفعول يدافع : محذوف فعلى القول بأنه بمعنى : يدفع فقد ذكرنا تقديره ، وعلى ما أشرنا إليه أخيرا فتقدير المفعول : يدافع عنهم أعداءهم ، وخصومهم فيرد كيدهم في نحورهم .
وقوله تعالى : إن الله لا يحب كل خوان كفور ، صرح - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : بأنه لا يحب كل خوان كفور ، والخوان والكفور كلاهما صيغة مبالغة ; لأن الفعال بالتضعيف والفعول بفتح الفاء من صيغ المبالغة ، والمقرر في علم العربية أن نفي المبالغة في الفعل لا يستلزم نفي أصل الفعل ، فلو قلت : زيد ليس بقتال للرجال فقد نفيت مبالغته ، في قتلهم ، ولم يستلزم ذلك أنه لم يحصل منه قتل لبعضهم ولكنه لم يبالغ في القتل ، وعلى هذه القاعدة العربية المعروفة ، فإن الآية قد صرحت بأن الله لا يحب المبالغين في الكفر والمبالغين في الخيانة ، ولم تتعرض لمن يتصف بمطلق الخيانة ومطلق الكفر من غير مبالغة فيهما ، ولا شك أن الله يبغض الخائن مطلقا ، والكافر مطلقا ، وقد أوضح - جل وعلا - ذلك في بعض المواضع ، فقال في الخائن : وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين [ 8 \ 58 ] وقال في الكافر : قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين [ 3 \ 32 ] .
قوله تعالى : أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير ، متعلق أذن محذوف في هذه الآية الكريمة أي : أذن لهم في القتال بدليل قوله : يقاتلون ، وقد صرح - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أنه أذن للذين يقاتلون وهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ودل قوله : يقاتلون : على أن المراد من يصلح للقتال منهم دون من لا يصلح له ، كالأعمى والأعرج والمريض والضعيف والعاجز عن السفر للجهاد لفقره [ ص: 263 ] بدليل قوله تعالى : ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض الآية [ 24 \ 61 ] ، وقوله - جل وعلا - : ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل [ 9 \ 91 ] وقوله : بأنهم ظلموا الباء فيه سببية وهي من حروف التعليل ، كما تقرر في مسلك النص الظاهر من مسالك العلة ، وهذه الآية هي أول آية نزلت في الجهاد كما قال به جماعات من العلماء ، وليس فيها من أحكام الجهاد إلا مجرد الإذن لهم فيه ، ولكن قد جاءت آيات أخر دالة على أحكام أخر زائدة على مطلق الإذن فهي مبينة عدم الاقتصار ، على الإذن كما هو ظاهر هذه الآية ، وقد قالت جماعة من أهل العلم : إن الله تبارك وتعالى لعظم حكمته في التشريع ، إذا أراد أن يشرع أمرا شاقا على النفوس كان تشريعه على سبيل التدريج ; لأن إلزامه بغتة في وقت واحد من غير تدريج فيه مشقة عظيمة ، على الذين كلفوا به قالوا فمن ذلك الجهاد ، فإنه أمر شاق على النفوس لما فيه من تعريضها لأسباب الموت ; لأن القتال مع العدو الكافر القوي من أعظم أسباب الموت عادة ، وإن كان الأجل محدودا عند الله تعالى كما قال تعالى : وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا [ 3 \ 145 ] وقد بين تعالى مشقة إيجاب الجهاد عليهم ، بقوله : ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب [ 4 \ 77 ] ومع تعريض النفوس فيه لأعظم أسباب الموت ، فإنه ينفق فيه المال أيضا كما قال تعالى : وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم [ 61 \ 11 ] قالوا : ولما كان الجهاد فيه هذا من المشقة ، وأراد الله تشريعه شرعه تدريجا ، فأذن فيه أولا من غير إيجاب بقوله : أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا الآية [ 22 \ 39 ] ، ثم لما استأنست به نفوسهم بسبب الإذن فيه ، أوجب عليهم فقال : من قاتلهم دون من لم يقاتلهم بقوله : وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا الآية [ 2 \ 190 ] ، وهذا تدريج من الإذن إلى نوع خاص من الإيجاب ، ثم لما استأنست نفوسهم بإيجابه في الجملة أوجبه عليهم إيجابا عاما جازما في آيات من كتابه ; كقوله تعالى : فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد [ 9 \ 5 ] وقوله تعالى : وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة [ 9 \ 36 ] وقوله : [ ص: 264 ] تقاتلونهم أو يسلمون [ 48 \ 16 ] إلى غير ذلك من الآيات .

واعلم : أن لبعض أهل العلم في بعض الآيات التي ذكرنا أقوالا غير ما ذكرنا ، ولكن هذا التدريج الذي ذكرنا دل عليه استقراء القرآن في تشريع الأحكام الشاقة ، ونظيره شرب الخمر فإن تركه شاق على من اعتاده ، فلما أراد الله أن يحرم الخمر حرمها تدريجا ، فذكر أولا بعض معائبها كقوله تعالى : يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما [ 2 \ 219 ] ثم لما استأنست نفوسهم بأن في الخمر إثما أكثر مما فيها من النفع ، حرمها عليهم في أوقات الصلاة بقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى الآية [ 4 \ 43 ] ، فكانوا بعد نزولها ، لا يشربونها إلا في وقت يزول فيه السكر قبل وقت الصلاة ، وذلك بعد صلاة العشاء وبعد صلاة الصبح ; لأن ما بين العشاء والصبح يصحو فيه السكران عادة ، وكذلك ما بين الصبح والظهر ، وهذا تدريج من عيبها إلى تحريمها في بعض الأوقات ، فلما استأنست نفوسهم بتحريمها حرمها عليهم تحريما عاما جازما بقوله : ياأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إلى قوله : فهل أنتم منتهون [ 5 \ 90 - 91 ] وكذلك الصوم ، فإنه لما كان الإمساك عن شهوة الفرج والبطن شاقا على النفوس ، وأراد تعالى تشريعه شرعه تدريجا فخير أولا بين صوم اليوم وإطعام المسكين في قوله : وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين [ 2 \ 184 ] فلما استأنست النفوس به في الجملة ، أوجبه أيضا إيجابا عاما جازما بقوله : فمن شهد منكم الشهر فليصمه الآية [ 2 \ 185 ] وقال بعض أهل العلم : التدريج في تشريع الصوم على ثلاثة مراحل كما قبله قالوا : أوجب عليهم أولا صوما خفيفا لا مشقة فيه وهو صوم يوم عاشوراء وثلاثة من كل شهر ، ثم لما أراد فرض صوم رمضان شرعه تدريجا على المرحلتين اللتين ذكرناهما آنفا ، هكذا قالته جماعات من أهل العلم ، وله اتجاه والعلم عند الله تعالى . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وإن الله على نصرهم لقدير يشير إلى معنيين .

أحدهما : أن فيه الإشارة إلى وعده للنبي وأصحابه ، بالنصر على أعدائهم كما قال قبله قريبا : إن الله يدافع عن الذين آمنوا [ 22 \ 38 ] .

والمعنى الثاني : أن الله قادر على أن ينصر المسلمين على الكافرين من غير قتال [ ص: 265 ] لقدرته على إهلاكهم بما شاء ، ونصرة المسلمين عليهم بإهلاكه إياهم ، ولكنه شرع الجهاد لحكم منها : اختبار الصادق في إيمانه ، وغير الصادق فيه ، ومنها تسهيل نيل فضل الشهادة في سبيل الله بقتل الكفار لشهداء المسلمين ، ولولا ذلك لما حصل أحد فضل الشهادة في سبيل الله ، كما أشار تعالى إلى حكمة اختبار الصادق في إيمانه وغيره بالجهاد في آيات من كتابه ، كقوله تعالى : ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض [ 47 \ 4 ] وكقوله تعالى : ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب الآية [ 3 \ 179 ] وقوله تعالى : أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون [ 9 \ 16 ] وقوله تعالى : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين [ 3 \ 142 ] وقوله تعالى : ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم [ 47 \ 31 ] إلى غير ذلك من الآيات وكقوله تعالى في حكمة الابتلاء المذكور ، وتسهيل الشهادة في سبيله : إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين [ 3 \ 140 - 141 ] وقرأ هذا الحرف نافع ، وأبو عمرو وعاصم : " أذن " بضم الهمزة وكسر الذال مبنيا للمفعول ، وقرأ الباقون : بفتح الهمزة مبنيا للفاعل أي : أذن الله للذين يقاتلون ، وقرأ نافع وابن عامر وحفص ، عن عاصم : " يقاتلون " بفتح التاء مبنيا للمفعول ، وقرأ الباقون بكسر التاء مبنيا للفاعل .
قوله تعالى : الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ، تقدم ما يوضح هذه الآية من الآيات في سورة " براءة " في الكلام على قوله : وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله [ 9 \ 74 ] .

قوله تعالى : ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ، بين الله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أنه أقسم لينصرن من ينصره ، ومعلوم أن نصر الله إنما هو باتباع ما شرعه بامتثال أوامره ، واجتناب نواهيه ونصرة رسله وأتباعهم ، ونصرة دينه وجهاد أعدائه وقهرهم حتى تكون كلمته - جل وعلا - هي العليا ، وكلمة أعدائه هي السفلى ، ثم إن الله - جل وعلا - بين صفات الذين وعدهم بنصره لتمييزهم عن غيرهم فقال [ ص: 266 ] مبينا من أقسم أنه ينصره ; لأنه ينصر الله - جل وعلا - : الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر الآية [ 22 \ 41 ] وما دلت عليه هذه الآية الكريمة : من أن من نصر الله نصره الله جاء موضحا في غير هذا الموضع كقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم [ 47 \ 7 - 8 ] وقوله تعالى : ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون [ 37 \ 171 - 173 ] وقوله تعالى : كتب الله لأغلبن أنا ورسلي [ 58 \ 21 ] وقوله : وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض الآية [ 24 \ 55 ] ، إلى غير ذلك من الآيات وفي قوله تعالى : الذين إن مكناهم في الأرض الآية [ 22 \ 41 ] ، دليل على أنه لا وعد من الله بالنصر ، إلا مع إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، فالذين يمكن الله لهم في الأرض ويجعل الكلمة فيها والسلطان لهم ، ومع ذلك لا يقيمون الصلاة ولا يؤتون الزكاة ، ولا يأمرون بالمعروف ، ولا ينهون عن المنكر فليس لهم وعد من الله بالنصر ; لأنهم ليسوا من حزبه ، ولا من أوليائه الذين وعدهم بالنصر ، بل هم حزب الشيطان وأولياؤه ، فلو طلبوا النصر من الله بناء على أنه وعدهم إياه ، فمثلهم كمثل الأجير الذي يمتنع من عمل ما أجر عليه ، ثم يطلب الأجرة ، ومن هذا شأنه فلا عقل له ، وقوله تعالى : إن الله لقوي عزيز [ 22 \ 40 ] العزيز الغالب الذي لا يغلبه شيء ، كما قدمناه مرارا بشواهده العربية ، وهذه الآيات تدل على صحة خلافة الخلفاء الراشدين ; لأن الله نصرهم على أعدائهم ، لأنهم نصروه فأقاموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، وأمروا بالمعروف ، ونهوا عن المنكر ، وقد مكن لهم ، واستخلفهم في الأرض كما قال : وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض الآية [ 24 \ 55 ] ، والحق أن الآيات المذكورة تشمل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكل من قام بنصرة دين الله على الوجه الأكمل ، والعلم عند الله تعالى .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 37.17 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 36.54 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.69%)]