عرض مشاركة واحدة
  #5  
قديم 22-10-2022, 12:11 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,450
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (373)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 243 إلى صـ 250




هذا هو حاصل حجة من قال : إن على من نذر نذرا ، ولم يطقه كفارة يمين ، وأما الذين قالوا : عليه صيام ثلاثة أيام ، فقد احتجوا بما رواه أحمد ، وأصحاب السنن عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - أن أخته نذرت أن تمشي حافية ، غير مختمرة ، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : " إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئا ، مرها فلتختمر ولتركب ولتصم ثلاثة أيام " ، اهـ بواسطة نقل المجد في " المنتقى " . قال الشوكاني في هذا الحديث : حسنه [ ص: 243 ] الترمذي ولكن في إسناده عبيد الله بن زحر ، وقد تكلم فيه غير واحد من الأئمة ، انتهى محل الغرض منه .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : ظاهر كلام أبي داود في عبيد الله بن زحر المذكور : أنه ثقة عنده ; لأنه ذكر تزكيته عن يحيى بن سعيد الأنصاري ، ولم يتعقب ذلك بشيء .

فقد قال أبو داود في هذا الحديث : حدثنا مسدد ، ثنا يحيى بن سعيد القطان قال : أخبرني يحيى بن سعيد الأنصاري ، أخبرني عبيد الله بن زحر أن أبا سعيد أخبره أن عبد الله بن مالك أخبره أن عقبة بن عامر أخبره : أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، عن أخت له نذرت أن تحج حافية غير مختمرة ، فقال : " مرها فلتختمر ولتركب ولتصم ثلاثة أيام " .

حدثنا مخلد بن خالد ، ثنا عبد الرزاق ، ثنا ابن جريج قال : كتبت إلى يحيى بن سعيد ، أخبرني عبيد الله بن زحر ، مولى لبني ضمرة ، وكان أيما رجل أن أبا سعيد الرعيني ، أخبره بإسناد يحيى ، ومعناه ، اهـ من سنن أبي داود ، فكتابة يحيى بن سعيد الأنصاري إلى ابن جريج في ابن زحر المذكور . وكان أيما رجل فيه أعظم تزكية ; لأن قولهم فكان أيما رجل يدل على أنه من أفاضل الرجال والتفضيل في هذا المقام ، إنما هو في الثقة والعدالة ، كما ترى ومن هذا القبيل قول الراعي :
فأومأت إيماء خفيا لحبتر فلله عينا حبتر أيما فتى
وقال ابن حجر في " التقريب " ، في ابن زحر المذكور : صدوق يخطئ ، وكلام أئمة الحديث فيه كثير منهم : المثني ، ومنهم القادح .

وحجة من قال إن عليه بدنة : هي ما رواه عكرمة ، عن ابن عباس أن عقبة بن عامر سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : إن أخته نذرت أن تمشي إلى البيت وشكا إليه ضعفها ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله غني عن نذر أختك فلتركب ولتهد بدنة " ، رواه أحمد ، وأبو داود . وقال الشوكاني في هذا الحديث : سكت عنه أبو داود والمنذري ، ورجاله رجال الصحيح : قال الحافظ في " التلخيص " : إسناده صحيح .

وحجة من قال : إن عليه هديا هي : ما رواه أبو داود ، حدثنا محمد بن المثنى ، ثنا أبو الوليد ، ثنا همام ، عن قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أن أخت عقبة بن عامر نذرت أن تمشي إلى البيت ، فأمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تركب وتهدي هديا . وقال الشوكاني في [ ص: 244 ] هذا الحديث : سكت عنه أبو داود والمنذري ، ولزوم الهدي المذكور مروي عن مالك في " الموطأ " وفسر الهدي : ببدنة ، أو بقرة ، أو شاة ، إن لم تجد غيرها .

هذا هو حاصل أدلة أقوال أهل العلم : فيما يلزم من نذر شيئا ، وعجز عن فعله . والقول بالهدي والقول بالبدنة ، يمكن الجمع بينهما ; لأن البدنة هدي ، والخاص يقضي على العام .

وقد ذكرنا كلام الناس في أسانيد الأحاديث الواردة في ذلك ، وأحوطها فيمن عجز عن المشي ، الذي نذره في الحج : البدنة ; لأنها أعظم ما قيل في ذلك ، وليس من المستبعد ، أن تلزم البدنة ، وأنه يجزئ الهدي والصوم وكفارة اليمين ; لأن كل الأحاديث الواردة بذلك ليس فيها التصريح بنفي إجزاء شيء آخر . فحديث لزوم كفارة اليمين لم يصرح بعدم إجزاء البدنة ، وحديث الهدي لم يصرح بعدم إجزاء الصوم مثلا وهكذا .

وقد عرفت أقوال أهل العلم في ذلك مع أن الأحاديث لا يخلو شيء منها من كلام . وظاهر النصوص العامة : أنه لا شيء عليه ; لأن الله يقول : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [ 2 \ 286 ] ، ويقول : فاتقوا الله ما استطعتم [ 64 \ 16 ] ، ويقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم " وقد ثبت في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قرأ : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا الآية [ 2 \ 286 ] قال الله : قد فعلت " . وفي رواية : نعم ، ويدخل في حكم ذلك قوله تعالى : ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به .

الآية [ 2 \ 286 ] .
الفرع الرابع : في حكم الإقدام على النذر ، مع تعريفه لغة وشرعا .

اعلم أن الأحاديث الصحيحة دلت على أن النذر لا ينبغي ، وأنه منهي عنه ، ولكن إذا وقع وجب الوفاء به ، إن كان قربة كما تقدم .

قال البخاري - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا يحيى بن صالح ، حدثنا فليح بن سليمان ، حدثنا سعيد بن الحارث : أنه سمع ابن عمر - رضي الله عنهما - يقول : أولم ينهوا عن النذر ، إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن النذر لا يقدم شيئا ولا يؤخر شيئا ، وإنما يستخرج بالنذر من البخيل " . وفي البخاري ، عن ابن عمر قال : نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النذر فقال : " إنه لا يرد شيئا ولكنه يستخرج به من البخيل " . وفي لفظ للبخاري من حديث أبي هريرة قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لا يأتي ابن آدم النذر بشيء لم أكن قدرته ، ولكن يلقيه النذر إلى القدر قد قدر له ; فيستخرج الله به من البخيل فيؤتي عليه ما لم يكن يؤتي عليه من [ ص: 245 ] قبل " ، اهـ من صحيح البخاري ، وهو صريح في النهي عن النذر ، وأنه ليس ابتداء فعله من الطاعات المرغب فيها .

وقال مسلم بن الحجاج - رحمه الله - في صحيحه : وحدثني زهير بن حرب ، وإسحاق بن إبراهيم ، قال إسحاق : أخبرنا ، وقال زهير : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن عبد الله بن مرة ، عن عبد الله بن عمر قال : أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما ينهانا عن النذر ويقول : " إنه لا يرد شيئا وإنما يستخرج به من الشحيح " . وفي لفظ لمسلم ، عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " النذر لا يقدم شيئا ولا يؤخره ، وإنما يستخرج به من البخيل " . وفي لفظ لمسلم عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنه نهى عن النذر ، وقال : " إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل " .

وقال مسلم في صحيحه أيضا : وحدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا عبد العزيز يعني : الدراوردي ، عن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا تنذروا ، فإن النذر لا يغني من القدر شيئا ، وإنما يستخرج به من البخيل " . وفي لفظ لمسلم ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن النذر ، وقال : " إنه لا يرد من القدر ، وإنما يستخرج به من البخيل " . وفي لفظ لمسلم ، عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن النذر لا يقرب من ابن آدم شيئا لم يكن الله قدره له ، ولكن النذر يوافق القدر فيخرج بذلك من البخيل ما لم يكن البخيل يريد أن يخرج " ، انتهى من صحيح مسلم .

وهذا الذي ذكرنا من حديث الشيخين ، عن ابن عمر وأبي هريرة : فيه الدلالة الصريحة على النهي عن الإقدام على النذر ، وأنه لا يأتي بخير ، وإنما يستخرج به من البخيل . وفي الأحاديث المذكورة إشكال معروف ; لأنه قد دل القرآن على الثناء على الذين يوفون بالنذر ، وأنه من أسباب دخول الجنة كقوله تعالى : إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا [ 76 \ 5 - 7 ] ، وقوله تعالى : وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه [ 2 \ 27 ] ، وقد دل الكتاب والسنة على وجوب الوفاء بنذر الطاعة كقوله تعالى في هذه الآية التي نحن بصددها : ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم الآية [ 22 \ 29 ] وكقوله - صلى الله عليه وسلم - : " من نذر أن يطيع الله فليطعه " ، ويؤيد ذلك ما ثبت في الصحيح ، من ذم الذين لم يوفوا بنذورهم .

[ ص: 246 ] قال البخاري في صحيحه : حدثنا مسدد ، عن يحيى ، عن شعبة : حدثني أبو جمرة ، حدثنا زهدم بن مضرب ، قال : سمعت عمران بن حصين - رضي الله عنهما - يحدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " خيركم قرني ، ثم الذين يلونهم " قال عمران : لا أدري ذكر ثنتين أو ثلاثا بعد قرنه : " ثم يجيء قوم ينذرون ولا يوفون ، ويخونون ولا يؤتمنون ، ويشهدون ولا يستشهدون ، ويظهر فيهم السمن " ، اهـ من صحيح البخاري . وهو ظاهر جدا في إثم الذين لا يوفون بنذرهم ، وأنهم كالذين يخونون ، ولا يؤتمنون . وهذا الحديث أخرجه أيضا مسلم في صحيحه ، عن عمران بن حصين . وقال النووي في شرحه لحديث عمران هذا : فيه وجوب الوفاء بالنذر ، وهو واجب بلا خلاف ، وإن كان ابتداء النذر منهيا عنه : كما سبق في بابه ، انتهى محل الغرض منه .

ولأجل هذا الإشكال المذكور اختلف العلماء في حكم الإقدام على النذر ، فذهب المالكية : إلى جواز نذر المندوبات إلا الذي يتكرر دائما كصوم يوم من كل أسبوع فهو مكروه عندهم ، وذهب أكثر الشافعية : إلى أنه مكروه ، ونقله بعضهم عن نص الشافعي للأحاديث الدالة على النهي عنه . ونقل نحوه عن المالكية أيضا ، وجزم به عنهم ابن دقيق العيد . وأشار ابن العربي إلى الخلاف عنهم ، والجزم عن الشافعية بالكراهة . وجزم الحنابلة بالكراهة ، وعندهم رواية في أنها كراهة تحريم ، وتوقف بعضهم في صحتها ، وكراهته مروية عن بعض الصحابة . اهـ بواسطة نقل ابن حجر في " الفتح " . وجزم صاحب " المغني " : بأن النهي عنه نهي كراهة .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الظاهر لي في طريق إزالة هذا الإشكال ، الذي لا ينبغي العدول عنه أن نذر القربة على نوعين .

أحدهما : معلق على حصول نفع كقوله : إن شفى الله مريضي ، فعلي لله نذر كذا ، أو إن نجاني الله من الأمر الفلاني المخوف ، فعلي لله نذر كذا ، ونحو ذلك .

والثاني : ليس معلقا على نفع للناذر ، كأن يتقرب إلى الله تقربا خالصا بنذر كذا من أنواع الطاعة ، وأن النهي إنما هو في القسم الأول ; لأن النذر فيه لم يقع خالصا للتقرب إلى الله ، بل بشرط حصول نفع للناذر وذلك النفع الذي يحاوله الناذر هو الذي دلت الأحاديث على أن القدر فيه غالب على النذر وأن النذر لا يرد فيه شيئا من القدر .

أما القسم الثاني : وهو نذر القربة الخالص من اشتراط النفع في النذر ، فهو الذي فيه [ ص: 247 ] الترغيب والثناء على الموفين به المقتضي أنه من الأفعال الطيبة ، وهذا التفصيل قالت به جماعة من أهل العلم .

وإنما قلنا : إنه لا ينبغي العدول عنه لأمرين :

الأول أن نفس الأحاديث الواردة في ذلك فيها قرينة واضحة ، دالة عليه ، وهو ما تكرر فيها من أن النذر لا يرد شيئا من القدر ، ولا يقدم شيئا ، ولا يؤخر شيئا ونحو ذلك . فكونه لا يرد شيئا من القدر قرينة واضحة على أن الناذر أراد بالنذر جلب نفع عاجل ، أو دفع ضر عاجل فبين - صلى الله عليه وسلم - أن ما قضى الله به في ذلك واقع لا محالة ، وأن نذر الناذر لا يرد شيئا كتبه الله عليه ، ولكنه إن قدر الله ما كان يريده الناذر بنذره ، فإنه يستخرج بذلك من البخيل الشيء الذي نذر وهذا واضح جدا كما ذكرنا .

الثاني أن الجمع واجب إذا أمكن وهذا جمع ممكن بين الأدلة واضح تنتظم به الأدلة ، ولا يكون بينها خلاف ، ويؤيده أن الناذر الجاهل ، قد يظن أن النذر قد يرد عنه ما كتبه الله عليه . هذا هو الظاهر في حل هذا الإشكال . وقد قال به غير واحد . والعلم عند الله تعالى .

تنبيه

فإن قيل : إن النذر المعلق كقوله : إن شفى الله مريضي أو نجاني من كذا فلله علي نذر كذا ، قد ذكرتم أنه هو المنهي عنه ، وإذا تقرر أنه منهي عنه لم يكن من جنس القربة ، فكيف يجب الوفاء بمنهي عنه .

والجواب أن النص الصحيح دل على هذا ، فدل على النهي عنه أولا ، كما ذكرنا الأحاديث الدالة على ذلك ، ودل على لزوم الوفاء به بعد الوقوع ، فقوله - صلى الله عليه وسلم - : " وإنما يستخرج به من البخيل " نص صريح في أن البخيل يلزمه إخراج ما نذر إخراجه ، وهو المصرح بالنهي عنه أولا ، ولا غرابة في هذا ; لأن الواحد بالشخص قد يكون له جهتان . فالنذر المنذور له جهة هو منهي عنه من أجلها ابتداء ، وهي شرط حصول النفع فيه ، وله جهة أخرى هو قربة بالنظر إليها ، وهو إخراج المنذور تقربا لله وصرفه في طاعة الله ، والعلم عند الله تعالى .

واعلم أن النذر في اللغة النحب وهو ما يجعله الإنسان نحبا واجبا عليه قضاؤه ، ومنه قول لبيد : [ ص: 248 ]
ألا تسألان المرء ماذا يحاول أنحب فيقضى أم ضلال وباطل


وحاصله : أنه إلزام الإنسان نفسه بشيء لم يكن لازما لها ، فيجعله واجبا عليها وهو في اصطلاح الشرع : التزام المكلف قربة لم تكن واجبة عليه . وقال ابن الأثير في " النهاية " : يقال : نذرت أنذر وأنذر نذرا إذا أوجبت على نفسي شيئا تبرعا من عبادة أو صدقة أو غير ذلك . وقد تكرر في أحاديثه ذكر النهي عنه وهو تأكيد لأمره وتحذير عن التهاون به بعد إيجابه ، ولو كان معناه الزجر عنه حتى لا يفعل لكان في ذلك إبطال حكمه ، وإسقاط لزوم الوفاء به إذ كان بالنهي يصير معصية . فلا يلزم ، وإنما وجه الحديث أنه قد أعلمهم أن ذلك أمر لا يجر لهم في العاجل نفعا ، ولا يصرف عنهم ضرا ، ولا يرد قضاء . فقال : لا تنذروا على أنكم قد تدركون بالنذر شيئا لم يقدره الله لكم ، أو تصرفون به عنكم ما جرى به القضاء عليكم ، فإذا نذرتم ولم تعتقدوا هذا فأخرجوا عنه بالوفاء ، فإن الذي نذرتموه لازم لكم ، اهـ الغرض من كلام ابن الأثير . وقد قاله غيره ، ولا يساعد عليه ظواهر الأحاديث .

فالظاهر أن الأرجح الذي لا ينبغي العدول عنه هو ما قدمنا من الجمع ، والعلم عند الله تعالى .

واعلم أن تعريف المالكية للنذر شرعا : بأنه التزام مسلم مكلف ، ولو غضبان إلى آخره فيه أمران :

الأول أن اشتراط الإسلام في النذر فيه نظر ; لأن ما نذره الكافر من فعل الطاعات قد ينعقد نذره له بدليل أنه يفعله إذا أسلم بعد ذلك ، ولو كان لغوا غير منعقد ، لما كان له أثر بعد الإسلام .

قال البخاري - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا عبد الله ، أخبرنا عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر أن عمر قال : يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام قال : " أوف بنذرك " ، انتهى منه . فقوله - صلى الله عليه وسلم - لعمر في هذا الحديث الصحيح : " أوف بنذرك " مع أنه نذره في الجاهلية صريح في ذلك كما ترى ، ولا التفات إلى ما أوله به بعض العلماء من المالكية وغيرهم . وقول المالكية في تعريف النذر ، ولو غضبان لا يخفى أن العلماء مختلفون في نذر الغضبان ، هل يلزم فيه ما نذر أو هو من نوع اللجاج تلزم فيه كفارة يمين كما أوضحنا حكمه سابقا .

الفرع الخامس : اعلم أنه قد دل الحديث على أن من نذر أن ينحر تقربا لله في محل [ ص: 249 ] معين ، فلا بأس بإيفائه بنذره ، بأن ينحر في ذلك المحل المعين ، إذا لم يتقدم عليه أنه كان به وثن يعبد ، أو عيد من أعياد الجاهلية . ومفهومه أنه إن كان قد سبق أن فيه وثنا يعبد ، أو عيدا من أعياد الجاهلية : أنه لا يجوز النحر فيه .

قال أبو داود في سننه : حدثنا داود بن رشيد ، ثنا شعيب بن إسحاق ، عن الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير قال : حدثني أبو قلابة ، قال : حدثني ثابت بن الضحاك ، قال : نذر رجل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينحر إبلا ببوانة ، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : إني نذرت أن أنحر إبلا ببوانة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد ؟ قالوا : لا ، قال : " هل كان فيها عيد من أعيادهم ؟ " قالوا : لا ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أوف بنذرك ، فإنه لا وفاء لنذر في معصية ، ولا فيما لا يملك ابن آدم " انتهى منه .

وفيه الدلالة الظاهرة على أن النحر بموضع كان فيه وثن يعبد أو عيد من أعياد الجاهلية من معصية الله تعالى ، وأنه لا يجوز بحال ، والعلم عند الله تعالى . وإسناد الحديث صحيح .
الفرع السادس : اعلم أن الأحاديث الصحيحة دلت على أن من مات وعليه نذر أنه يقضى عنه ، وسنقتصر هنا على قليل منها اختصارا لصحته ، وثبوته .

قال البخاري - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب ، عن الزهري ، قال : أخبرني عبيد الله بن عبد الله أن عبد الله بن عباس أخبره : " أن سعد بن عبادة الأنصاري استفتى النبي - صلى الله عليه وسلم - في نذر كان على أمه ، فتوفيت قبل أن تقضيه ، فأفتاه أن يقضيه عنها فكانت سنة بعد " اهـ من صحيح البخاري .

وقد قدمنا بعض الأحاديث الدالة على ذلك فيمن مات وعليه نذر الحج ، أنه يقضى عنه كما تقدم إيضاحه ، والأحاديث في هذا الباب كثيرة معروفة .

تنبيه

اعلم أن ابن عمر وابن عباس أفتيا بقضاء الصلاة المنذورة عن الميت إذا مات ولم يصل ما نذر . قال البخاري في صحيحه : باب من مات وعليه نذر ، وأمر ابن عمر امرأة جعلت أمها على نفسها صلاة بقباء فقال : صلي عنها . وقال ابن عباس نحوه ، اهـ من البخاري . وفي " الموطأ " عن مالك ، عن عبد الله بن أبي بكر عن عمته : أنها حدثته ، عن جدته أنها كانت جعلت على نفسها مشيا إلى مسجد قباء ، فماتت ولم تقضه ، فأفتى [ ص: 250 ] عبد الله بن عباس ابنتها أن تمشي عنها . قال يحيى : وسمعت مالكا يقول : لا يمشي أحد عن أحد ، اهـ من " الموطأ " . وقال الزرقاني ، في شرحه : قال ابن القاسم : أنكر مالك الأحاديث في المشي إلى قباء ، ولم يعرف المشي إلا إلى مكة خاصة . قال ابن عبد البر يعني : لا يعرف إيجاب المشي للحالف والناذر . وأما المتطوع ، فقد روى مالك فيما مر أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يأتي قباء راكبا وماشيا ، وأن إتيانه مرغب فيه . اهـ فيه .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي عليه جمهور أهل العلم ، وحكى ابن بطال الإجماع عليه أنه لا يصلي أحد عن أحد ، أما الصوم والحج عن الميت فقد قدمنا مشروعيتهما . وإن خالف جل أهل العلم في الصوم عن الميت ، والعلم عند الله تعالى . وفي " الموطأ " عن مالك ، بعد أن ذكر حديث : " من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه " قال يحيى : وسمعت مالكا يقول : معنى قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه " أن ينذر الرجل أن يمشي إلى الشام ، أو إلى مصر ، أو إلى الربذة ، أو ما أشبه ذلك مما ليس لله بطاعة ، إن كلم فلانا أو ما أشبه ذلك فليس عليه في شيء من ذلك شيء إن هو كلمه ، أو حنث بما حلف عليه ; لأنه ليس لله في هذه الأشياء طاعة . وإنما يوفى لله بما له فيه طاعة ، اهـ . من " الموطأ " .
الفرع السابع : الأظهر عندي أن من نذر جميع ماله لله ليصرف في سبيل الله ، أنه يكفيه الثلث ولا يلزمه صرف الجميع ، وهذا قول مالك وأصحابه وأحمد وأصحابه ، والزهري . وفي هذه المسألة للعلماء عشرة مذاهب أظهرها عندنا : هو ما ذكرنا ، ويليه في الظهور عندنا قول من قال : يلزمه صرفه كله ، وهو مروي عن الشافعي والنخعي ، وعن أحمد رواية أخرى أن عليه كفارة يمين ، وعن ربيعة تلزمه الصدقة بقدر الزكاة ، وعن جابر بن زيد ، وقتادة : إن كان كثيرا وهو ألفان تصدق بعشره ، وإن كان متوسطا وهو ألف تصدق بسبعه ، وإن كان قليلا ، وهو خمسمائة تصدق بخمسه ، وعن أبي حنيفة : يتصدق بالمال الزكوي كله ، وعنه في غيره روايتان .

إحداهما : يتصدق به .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 40.47 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 39.84 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.55%)]