عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 30-09-2022, 02:24 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,863
الدولة : Egypt
افتراضي رد: التغير من منظور أدبي

التغير من منظور أدبي


محمد صادق عبدالعال



وناصيف اليازجي ذو القول الجميل حين أنشد وأنصف:


الناسُ رَكْبٌ قد أناخَ بمَنزِلٍ
فبَنى على الطُّرقِ المدائنَ والقُرى

لا مرحبًا إن جاءت الدُّنيا ولا
أسفًا إذا ولَّتْ وما الدنيا ترى

ذهب الزمانُ ومَن طَواه مُقدَّمًا
وكذلك يَذهَب مَن يَليه مُؤخَّرا


والأبياتُ في ظاهرها عدم الاكتراث بالدنيا، وباطنها الحذر من مَغبَّة التحول والتَغير ومفارقة الديار بغير زاد.


وعلى ذكر الدنيا التي هي مادةُ شحذٍ لهمم الكتاب والقراء والحفاظ، وما يتأتى به من مفارقات وآيات، وسبحان مكوكب ليلها وباعثِ نهارها؛ ففي حكايات سلمى التي نُشرت لي بشبكة الألوكة الطيبة في "الثلاثية المفخخة".

ساعة أن اتخذت "سلمى" مكان الناصح الواعظ لمن ينشغلون بزخارف الدنيا، وأعني بسلمى "الدنيا".

فقالت: "يا أبناء اليم والطين، إن الديار لتَرفُل في النعيم رفلةَ العروس في الثوب القشيب، يظن أهلها أنها إلى استدامة وطول إقامة، وما هي إلى هذه ولا تلك، وسبحان من بيده الملك".

قالوا - أخذتهم الرجفة والدهشة من بيان سلمى - ما أروعك (سلمى)! لولا أن تَضربي لنا أمثالًا مما عُلمَت؛ حتى لا يُقال: إن (سلمى) تلحن في الحديث وفي المقال، ولا تسوق المثال.

غضبت ذات الدلِّ (سلمى) وقالت: ويحَكم أبناء العاجلة، هلا انتظرتم حتى أُتمَّ قولي ونصحي[5]!

نعم، يظن الناس بالدنيا دوام سرورها، والفطنُ مَن يدرك أن بعد التمام نقصًا؛ فها هو سيدنا أبو بكر الصديق يبكي في آخر خطبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: "ليس بعد التمام إلا النقصان".

والعامل الرئيس في إحداث التغير يرجع إلى الزمن؛ فكفيلةٌ هي الأيام أن تغيِّر الأحوال وأن تنقل الأنام من حال إلى حال، وتبدِّل الأماكن والمساكن.

وما دمنا على ذِكر الدنيا التي هي مختبَر التجريب والابتلاء والآلاء؛ ففي قصتي القصيرة "دنيا" المنشورة بشبكة الألوكة الطيبة، التي أعبر فيها عن حسرة من تغير الأحوال، وانتقالي من حال إلى حال بفقد الأهل والأحبة، والعجوز التي كانت كلما مررت بها قالت لي:
دنيا، أرأيت الدنيا؟! ولم أكن ألتفت إليها إلا بعدما مرت الأيام وانفرط عِقد العمر؛ وما دام عقد العمر قد انفرط، فاعلم أن جديدًا قد طرأ، وسبحان من يُغيِّر ولا يتغير!

"مرَّت الأيام، وانفرط عِقْد العُمُر، وماتت السيدة العجوز!

ورحلت أختي إلى القاهرة الْمُعِزِّية! وماتت أمي الغالية!

جَفاني الطريق المعتاد وجَفَوتُه حتى افترقنا، ولكني كلَّما تَاقَت نفسي إلى مُصالَحتِه، لم أجد ما أصطحبه في هذا الطريق سوى بقايا من ذكريات ماضية، وأنا أقول في نفسي - أن يسمَع بي شامتٌ أو كارِهٌ -: "رَأَيتَ الدنيا؟!"[6].

أو كالذي غَرَّه صِغَر سنِّه وحلاوةُ رسمه وهندامِه، ورأى في المرآة بهاءَ جماله؛ فغازلَته الدنيا بودٍّ وغرور، فطلب منها ما استحال عليها تحقيقُه، وتباعد عنها توثيقُه؛ حتى باغتته بما أذهلَه، فراح يسبُّ المرآة وينعتها بالكاذبة؛ بعدما انفرطَت حبَّات عِقد عمره وكان يظن أنها باقية له!

- والمِرآة!
نظر في المرآة فإذا وجهُه غَضٌّ، وشعرُه أسودُ كحيلٌ، وعيناه بها حَوَرٌ يَذْهب بألباب المحبِّين، رأى في المرآة مُعجَبة تَقِف خلفه، فالتفت إليها، وأعطى الْمِرآة ظهرَه، وقال لها: مَن أنتِ؟!

قالت: أنا مَن بيدي القَلَم؛ لأكتب لك ما تريد، عساه يتحقَّق!

فضحِك واثقًا، ثم قال لها - يتكئ على المرآة -: اكتبي ما سوف أُمْلِيه عليكِ[7].

وحتى لا نضيق الخناق على المصدر، ونجعله مرادفًا جديدًا لمعنى الزهد ومجانبة الدنيا؛ نقول: إن هناك مثالًا من النثر الجميل في زمن طيب، نتمنى أن يكون على ألسنة كل الأمهات؛ ليستديم المعروف بين الأزواج، ويتحقق الوفاق والاتفاق، فتلك أمٌّ توصي ابنتها وصية غالية ليلة عُرسها؛ منبِّهةً إياها من تَغيُّرٍ وتغييرٍ قادَمين، وأليفٍ جديد وهو الزوج؛ فالوالد حنون مهما حدث، ولكن الزوج بين هذا وذاك، فتقول لها بأسلوب العرب؛ أهلِ الحكمة والأدب الرفيع:
"أي بنيتي، إنك فارقت العشَّ الذي فيه درَجتِ، والوكر الذي منه خرَجت؛ إلى بيتٍ لم تَعرفيه، وقَرينٍ لم تألَفيه، فكوني له أمَةً يكُنْ لك عبدًا".

أنعِم به وأكرِم من حسن استهلال واستفتاح، يهيِّئ المتلقِّيَ لتقبُّل القادم حتى ولو كان قاسيًا! ويا لها من نصيحة غالية من أم عاليةِ الفهم، كثيرة التجارِب، ودَّت أن تكون قرةُ عينها في أسعد حال وتقبلٍ بالتغيير الجديد وبالتغير! ووددنا نحن لو أصبح فلذات أكبادنا جميعًا على تلك الشاكلة؛ الإسلام قدوتنا، ومحمد أسوتنا صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة.

وعودة إلى الشعر الذي هو مَناط الحكمة ومقرُّ العظة، ما لم يأمر بشر؛ فلْنَرَ ما كتب الإمام الشافعي في التغير والتحول، وهي دعوة لمناهضة الكسل والعمل؛ لإحداث تغيير وتغير يعود بالخير على الناس، فيقول:
والشمس لو وقفَت في الفُلْكِ دائمةً
لَملَّها النَّاسُ مِن عُجْمٍ ومِن عرَبِ

والتِّبْر كالتُّرْب مُلْقًى في أماكِنِه
والعودُ في أرضِه نوعٌ من الحطَبِ

فإن تَغرَّبَ هذا عزَّ مَطلبُه
وإنْ تغرَّبَ هذا عزَّ كالذَّهبِ[8]



وليس أجمل له من قوله في قافية الهمزة التي يقول في مطلعها:
دَعِ الأيامَ تفعلُ ما تشاءُ
وطِبْ نفسًا إذا حكَم القضاءُ

ولا تجزَعْ لحادثةِ اللَّيالي
فما لِحوادثِ الدنيا بَقاءُ[9]


وأصاب فيلسوفٌ غربي حين قال: "الشيء الوحيد الثابت هو التغير"! بالطبع نتفق معه في كل ما هو مخلوق فقط.

ومع نظرة واحدة لشعراء الغزل حيث يقول أحدهم ينعى ويسلم بالتغير بينه وبين المحبوبة:
قد كنتُ لا أرضى الوِصالَ وفَوقَه ♦♦♦ واليومَ أقنَعُ بالخيالِ ودونَه

وها هو ابنُ الروميِّ يصف وُجوه الجند إذا ما اقتحَموا أرض المعارك وحَميَ الوطيس بها، وقد تغيرَت عما كان قد عرَفها، فينشد:
آراؤكم ووُجوهكم وسيوفُكم
في الحادثاتِ إذا دجَوْنَ نُجومُ

مِنها مَعالِمُ للهُدى ومَصابحٌ
تَجْلو الدجى والأُخرَياتُ رُجومُ


وما حبَّذتُ أن أنتقى أمثلةً للغزل العفيف ولا الصريح؛ لعقيدةٍ عندي أنه:
مَن يبصر الأيامَ بعد ثلاثةٍ ♦♦♦ عفت نفسه أن يكتب الغزلا


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 22.89 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 22.26 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.74%)]