عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 30-09-2022, 02:22 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,180
الدولة : Egypt
افتراضي التغير من منظور أدبي

التغير من منظور أدبي


محمد صادق عبدالعال



ما علمنا مصدرًا أزعج الخلق وحَيَّرَهم وذهب بلبِّ الحكيم وذي الأناة كهذا المصدر؛ الذي هو على الثبات قائم وعلى الاستمرارية دائم، وما دامت الشمس لا تستديم مشرقة ولا ظلمة الليل الحالكة؛ فاعلم أنه ما من ثبات ولا بقاء، إلا لله الفرد الصمد، الذي عنده تسجد ذات النور واللهب؛ ليؤذَن لها في الإشراق حتى تؤمَر بالخروج من مغربها.

ولو قُدِّر لهذا المصدر أن يكون اليوم مطروحًا على مائدة الفكر وأرباب العلم، لأفاض كل ذي علم بما علم، ولعلا بعضهم على بعض في السرد والعرض، فسبحان من لا يحصي علمَه عليم، ولا يَجمع أذكارَ شُكره ذاكرٌ وهو السميع العليم.

وقبل الإقلاع في رحلة سريعة مع المصدر نسأل أنفسنًا سؤالًا: هل التغير ظاهرة كونيَّة عامة أو خاصيَّة؟!
إن التغير لَظاهرة كونية تمرُّ على السموات والأرض، والشمس والقمر والنجوم، والشجر والدوابِّ، وكل الناس، وكل منبسط تحت يد المهيمن.

إذًا فالتغير ظاهرة عامة؛ ولا ننفي بأنه خاصية، بل هو خاصية تُلازم كل خلق، وما اشتملت عليه، وما انسدل تحت سقف السماء.

وبنظرة سريعة وإطلالة في المعجم نرى أن التغير مصدرٌ فعلُه:
تَغَيَّرَ (فعل):
تغيَّرَ يتغيَّر، تغيُّرًا، فهو مُتغيِّر.
تغيَّر: أصبح على غير ما كان عليه، تبدَّل، تحوَّل.
تَغَيُّر (اسم):
الجمع: تَغَيُّرات.

ويُقال في علم الاجتماع في مصطلح التغير الاجتماعي مثلًا: "مبدأ التَّعديل الاجتماعيِّ الفوريِّ الذي يتكيَّف من خلاله النِّظام الاجتماعيُّ مع أيِّ طارئ أو أي جديد".

وفي كتاب "أساس البلاغة" للزمخشري (ص 431): "سَدَمَ الماءُ: تغيَّر لطول عهده، ويُقال: ماءٌ سَدِمٌ"[1].

لكن كلمة التغير أعم وأشمل؛ لأن لكل مخلوق وكائن خصائصَ تغَيُّر، وعبارات يُوصف بها حالةُ تحوله؛ فكلمة "غربت الشمس، وأشرقت" مِن صفات الشمس؛ فضلًا عن الخسوف الكسوف لهما؛ كظاهرةٍ ودليلِ تغيُّر.

وعودةً إلى المناظرة نقول: إن المصدر هذا لو طُرح على أفهام وأسماع العلماء لقال معلِّم الجغرافيا مثلًا:
إن الأرض تدور حول نفسها مرةً كل أربع وعشرين ساعة؛ ليَحدث بهذه الحركة تغيرٌ يَنجم عنه ظاهرةُ الليل والنهار، ودوران الأرض حول الشمس مرةً كل عام يُحدِث العامَ والفصول الأربعة.

ولو طُرح المصدر على معلِّم التاريخ ومتتبِّع آثاره وأخباره، لتنهَّد طويلًا وأخرج نفسًا عميقًا؛ لما تحويه رأسُه من أخبار حول زَوال ديارٍ وقدوم أخرى، وظهور بلادٍ وطَمْر بلاد.

فالوطن العربي مثلًا بعد الخلافة العثمانية وانهيارها غَيَّر المستعمرُ مَعالمه، واقتسم كلُّ واحد منهم نصيبه منه؛ فها هي مصر والشام والعراق، كانت من نصيب إنجلترا، وبلاد المغرب كانت تحت الهيمنة الفرنسية، وليبيا وقعت في قبضة إيطاليا إلى أن قامت الحرب العالمية الأولى، وتغير الحال وتبدلت الأوضاع، وغيَّر الغازي والمستعمرُ من فلسفات غزوِه و(إيديولوجيات) هيمنته؛ مواكبةً لتغيُّر الأحوال.

ومعلِّم الطبيعة ما إن يُطرح أمامه لفظة التغير والتحول، حتى يقول لك:
تتحول المادة من صلب إلى سائل بالحرارة، وأيضًا إلى غازٍ كالبخار، وهذا التغير ناتج عن خصائص كل مادة، ومُنسدل تحت ظاهرةٍ أعم وأشمل، وهي التغير وعدم الثبات.

إذًا نخلص إلى أن صفات وخصائص المواد والكائنات هي من مُوجبات حدوث التغير لها.

وحتى لا نظل طويلًا مع الجانب العلمي لظاهرة وخاصية التغير فللأمر أهلُه وأربابُ فَهمه، وما مرَرْنا مِن نافذته إلا لمجرد المعرفة؛ فنعود إلى بيت القصيد من المقال، وهو النظرة الأدبية للمصدر (التغير).

نُمرِّر على عقولنا أولًا سؤالًا، مفاده: هل المفاهيم والمصطلحات من الممكن أن تقع هي الأخرى تحت مقصلة التغيُّر وسيطرته؟

تصفَّحتُ كتاب العربي ذي السلسلة الفصلية، الكتاب الثامن والعشرين؛ لكاتبه الأستاذ عبدالرزاق البصير، في مقالٍ له بعنوان: موقفنا من الحضارة.. إلى أين؛ يقول فيه متحدثًا عن ماهية الحضارة:
"أمَّا ما تَعنيه بالحضارة فإن العلماء قد أجابوا عن السؤال بإطلاق تعريفاتٍ مختلفة عن الحضارة، نرى أن نورد بعضًا منها؛ فيقول الدكتور قسطنطين زريق: إذا استنطَقْنا اللغة وجَدنا أن الحضارة تَعني في اللغة العربية الإقامة في الحضَر؛ أي: المدن والقرى، بخلاف البداوة، وهي الإقامة المتنقلة في البوادي؛ جاء في القاموس: والحضارة بالفتح خِلاف - أي: عكس - البادية، والحضارة: الإقامة في الحضَر، والحاضر خلاف البادي، وكان الأصمعي يقول: الحضارة بالفتح تَعني الاستقرار، والاستقرار ناشئ عن الزراعة"[2].

ولقد عزَّز القائلُ تلك العباراتِ ببسطِ مثال آخر في قوله: "وفي تصوري أن لفظة الحضارة تتغير معانيها بتغير الحياة؛ فيومَ أن كانت البداوة في الدول العربية تنتشر كان المقيم في الحضر يُنعَت بالمستقِرِّ، إلى أن تبدلَت وتغيرت الأحوال، وصار القدوم على المدن والازدحام والتكدس بها لا يمثل حضارةً قدرَ ما يسبِّب مشكلات عضالًا".

وفى ثلاثيات الآحاد التي نُشِرت لي بشبكة الألوكة الطيبة، في الثلاثية الثالثة "الحضارة والحجارة"، أوردتُ مثالًا لصاحب كتاب قصة الحضارة "ويل ديورانت" حين قال: "في شبابي كنت أهتمُّ كثيرًا بالحرية، وكنت أقول: إنني على استعدادٍ للموت من أجل حريتي؛ ولكنني في كهولتي أصبحت أهتمُّ أكثرَ بالنظام قبل الحرية؛ فقد توصلتُ لاكتشاف عظيم يُثبِت أن الحرية نتاج نظام"[3].

وهو القائل في حق سيد الخلق: "محمدٌ أعظمُ عُظماء التاريخ".
إذًا تتغير نظرة الشعوب والمجتمعات لمفهوم التغير بتبدل الأحوال وتحول الدهور، والأمثلة ظاهرة عيانًا لصاحب القلم وصاحب الحرفة وأبسطِ إنسان؛ فها هي المجتمعات تتقلب بها الأحوال، وتتغير الأوضاع، وتتناوب عليهم كَرَّات الغنى، وفترات الفاقة والعوز، وسبحان مَن له الدوام!

لكن لا ننسى أن نؤكد أن القيم والثوابت لا تتغير مهما حال عليها الدهر، وتطاول بها الأمد؛ فعقيدة التوحيد ثابتة، والشمائل والخلال قائمة حتى قيام الساعة، ومهما غيَّر الناس من عاداتهم ونظراتهم وطرائق مواكبتهم للعصر، ستظل القيمُ الإنسانية هي الأصل.

بقي لنا أن نوردَ أمثلة أدبية ونماذجَ رائعة تُعزِّز فكرةَ كتابة المقال؛ عسى ألا أكون قد أسهبتُ أو استرسلت لمن لا يُطيق الاسترسال والسردَ الطويل.

ونقول: إن نظرة الكُتَّاب والأدباء تبايَنَت واختلفَت من ناحية المصدر؛ فمنهم من حَبَّذه، ومنهم من سَلَّم واستسلم له وأقرَّ به، ومنهم مَن أخَذَته العزةُ ولم يؤمن بأنه مارٌّ على المستخفي بالليل والسارب بالنهار، ومنهم من نعى به حاله ومآله وتقلبات دهره.

ودائمًا أبدًا لا يَروق لنا المرورُ ببساتين الأدب وقطوف الفكر، حتى نقف عند الدستور الأعظم والكتاب الأمثل وقفةَ انتباهٍ وتفكر وتدبر، نَجوب صفحاته ونختار من بين مفرداته ما يعزِّز سطور المقال.

ولعل قصة أهل الكهف - التي هي دومًا أبدًا على الألسنة والأفئدة - فارضةٌ نفسَها على أولي الألباب العقلاء، وفطنة الأتقياء، وفراسة المؤمنين التي تقرُّ بوحدانية الله وانفراده في تمرير مراده، وإيقاف عجلة الزمن، وما يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.

ولك أن تقرأ ما سجَّله كتاب "قصص القرآن" لنخبة من كتَّاب القصص القرآني حين قالوا بأسلوب أدبي رائع، يصف حال أهل الكهف وكلبهم، وكيف مرَّت عليهم الحقبة الطويلة من الزمن نيامًا بإذن مَن بيده البعث والنشور:
"وتعاقَب ليلٌ إثرَ نهار، ومضى عامٌ وراء عام، والفتيةُ راقدون، والنومُ مضروبٌ على الآذان، والكَرى معقودٌ على الأجفان، لا تزعجهم زمجرةُ الريح، ولا يوقظهم قصفُ الرعود، تطلع الشمس فتَنفُذ إلى الكهف من كوَّته، فتمنحه الضوء والحرارة، ولا تصل أشعتها إليهم، وتغرب فتميل وتبتعد؛ تحقيقًا لمراد الله في حفظ أجسادهم وبقاء جثتهم، ولو اطَّلع عليهم مُطلعٌ لرآهم يتقلبون مرةً ذات اليمين ومرة ذات الشمال، وكلبهم باسطٌ ذراعيه بعتَبة الكهف، ولولَّى منهم فرارًا، ولمُلِئ رعبًا"[4].

﴿ وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا ﴾ [الكهف: 18].

ولما دخلَت سنة تسع وثلاثمائة من نومهم استيقظوا يُحسُّون بالجوع والتعب والنصَب، وتكهَّنوا بما لبثوا.

وما أردتُ التأكيد عليه في القصة هو: كيف كان رد فعلهم بعد أن عرَفوا أنهم لبثوا تلك الحقبةَ الزمنية الطويلة نيامًا في الكهف، فيصف كتاب "قصص القرآن" حالةَ أحدهم الذي خرج يتسوق خِلسة يكتري لهم طعامًا:
خرَج وهو خائفٌ يترقب، ودخل (أفسوس) وما راعَه إلا تغيُّرُ مَعالمِها، وانقلابٌ في مبانيها؛ هذه خرائبُ صارت قصورًا، وتلك قصور صارت خرائب، وتلك وجوهٌ لم يَعرفها! وصدَق الشاعر:
أمَّا الديار فإنها كدِيارِهم ♦♦♦ وأرى رجالَ الحيِّ غيرَ رِجالِهِ

ولعل المأخوذ من نصِّ القصة هو رفض الفتية أن يبقَوْا أو يحيَوا على ظهر البسيطة؛ إذ تغيرَت كل المعالم والأحوال، فلا الأهل هناك أو الولد، ولا الحفيد ولا الجار.

ولعل تلك الفجوة الزمنية الطويلة تعد عاملًا أساسيًّا في عزوف الفِتْية عن مواصلة العيش بصورة طبيعية.

وقبل الخروج من البستان الطيب - هبوطًا إلى كلام من يَأخذ عليهم ويَرد مقالهم - نُذكِّر بقصة سيدنا يوسف الصديق عليه السلام؛ كيف تغيرت وتبدلت عليه الأحوال والظروف؛ من حجْر أبيه يعقوب النبيِّ ببني إسرائيل بفلسطين، إلى عبدٍ يُباع بدراهمَ معدودات، ثم يشتريه عزيزُ مصر ويقرِّبه إليه، ثم إلى مكر زليخا وكيدِها، وإقصائها إياه في السجن؛ ثم خروجًا إلى الملك، وذلك بلاء الأنبياء والصفوة!

وأصاب الشاعر مجد الملك:
هي شدَّةٌ يأتي الرخاءُ عقيبَها
وأسًى يُبشِّر بالسرورِ العاجلِ

وإذا نظرتَ فإنَّ بؤسًا زائلًا
للمرءِ خيرٌ من نعيمٍ زائلِ


ولقد أسلَفنا أن الكُتَّاب والشعراء في مسألة التغير والتحول كانوا - ولا يزالون - على طرائقَ عدة؛ فمِنهم القانع، ومنهم الآبه، ومنهم من سلم واستسلم، ونعى به حاله وتقلبات دهره، ومنهم من أخذته العزة... فها هو أولُ شاعر يُلقي ببيانه أمامنا، وهو الشيخ ناصيف اليازجي حين سلم ببديهية مطلقة فقال:
لعَمرُك ليس فوقَ الأرض باقِ ♦♦♦ ولا ممَّا قضاهُ الله واقِ

وهاك أيضًا قولَه الحكيم:
وكم يَمضي الفراقُ بلا لقاءٍ ♦♦♦ ولكن لا لقاءَ بلا فراقِ

وقوله مادحًا أهل العلم والحكمة في بقاء ذِكرهم وخلود سطورهم مهما تغيرَت وتبدلت الأحوال:
مضى ذِكْرُ الملوكِ بكلِّ عصرٍ ♦♦♦ وذِكرُ السُّوقةِ العلماءِ باقِ

وهذا آخَرُ سَلَّم عن قناعةٍ وامتثال لقوله تعالى: ﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ﴾ [القصص: 88]، فأنشد معتبرًا طارحًا بحكمة خرج بها من الدنيا:
ألَا كلُّ حيٍّ هالكٌ وابنُ هالكٍ
وذو نسَبٍ في الهالكين عريقِ

إذا اختبَر الدنيا لبيبٌ تكشَّفَت
له عن عدوٍّ في ثيابِ صديقِ


وذلك آخرُ يَطرحُها بعُرضِ الحائط، ويدعو إلى ذلك بقوله:
اطرَحِ الدنيا فمِن عاداتِها
تَخفِضُ العالي وتُعلي مَن سَفلْ

عيشةُ الرَّاغب في تحصيلها
عيشةُ الجاهلِ فيها أو أقَلّ


وبرغم المبالغة من الشاعر نقول: إن الشاعر ربما يَعرِض تجربة ذاتية، لكن ليس له أن يفرض على القراء ذلك.
يتبع






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 28.00 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 27.38 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.24%)]