عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 28-09-2022, 03:26 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,926
الدولة : Egypt
افتراضي رد: لحظة التنوير وبيت القصيد في العمل الأدبي

لحظة التنوير وبيت القصيد في العمل الأدبي


محمد صادق عبدالعال






وحكمته الرائعة في قافية الحاء:
أما تَرى الأُسْدَ تُخشَى وهْي صامتةٌ ♦♦♦ والكلبُ يَخسى لَعَمْري وهْو نبَّاحُ [12]

وقبل أن ندلف لحكمة شعراء آخرين لهم سَبْقٌ واستباق في الروعة والبلاغة والبيان، نذكر حكمةً لا تزال الألسنة بها رطبةً مشهودًا لها بالحضور على شفاه العامة قبل خاصة الأدباء؛ وهي قولُه في أدب إسداء النصح:
تعمَّدْني بنُصْحِك في انفرادي
وجنِّبْني النصيحةَ في الجماعهْ

فإن النُّصْح بين الناس نوعٌ
من التوبيخِ لا أرضى استماعَهْ


ومن الحكمة والنصيحة إلى الرِّثاء والوقوف على مآثرِ الراحلين، وأجمل ما سمعتُ من رثاء أمٍّ قول الشريف الرَّضِيِّ يرثي أمَّه فاطمة بنت الناصر المتوفاة في ذي الحجة 385 هجرية، حيث اجتنيتُ من بستانه بيتين أعدُّهما بيتَ القصيد في رائعته التي يرثي فيها أمَّه، وهما الأول في مستهل القصيدة؛ إذ يقول:
أبكيك لو نقع الغليل بكائي
وأقول لو ذهب المقال بدائي

وأعوذُ بالصبرِ الجميلِ تعزِّيًا
لو كان في الصبرِ الجميلِ عزائي


ما أروعَك! وما أعظمَ ما قلت لو لم ترث أمَّك بغير هذَيْن البيتين لكفى، لكنه اختتم القصيد ببيتٍ غاية في الروعة؛ بيت القصيد عن حقٍّ، فكان جامعًا مانعًا لخَّص فيه رحلة العذاب بفُقدان أمِّه، فطوبى للأبرار بذويهم:
كان ارْتِكاضي في حشاك مُسبِّبًا ♦♦♦ ركضَ الغليلِ عليكِ في أحشائي

ومثال آخر من هذا الغرض - وأعني: الرثاءَ - ذلك البيت الذي ما زال قائمًا حتى يومنا هذا مَضْرِبَ مثلٍ لإتيان الموت بغتةً لا يُردُّ ولا يُدفَعُ؛ قول "أبي ذؤيب" يرثي أبناءه الخمسة، حيث قال قصيدةً تتخطَّى ثلاثة وستين بيتًا، اشتملت على بيت هو بيت القصيد لكل زمن ومحلٍّ:
وإذا المَنيَّةُ أنشَبَتْ أظفارَها ♦♦♦ أَلفَيْتَ كلَّ تميمةٍ لا تنفعُ[13]

ولعلَّ الواقفَ على معنى البيت يَستكشِفُ شاعرًا مخضرمًا، ولقد قال في هذا البيت الأستاذ: عبدالرزاق البصير في كتابه: "نظرات في الأدب والنقد" مقالًا بعنوان: "أبو ذؤيب يرثي أبناءه الخمسة":
"أرأيتَ تشبيهًا أحسن من هذا التشبيه للمنيَّة؟! إذ إنه شبَّه المَنيَّة بالحيوان المفترس إذا ما تمكَّنت أظافره من الفريسة، فإنها لا تنجو منه على الإطلاق، وما أظن أنسانًا يُبتلَى بفَقْد عزيز عليه إلا ويُردِّد ويتذكَّر هذا البيت"؛ كتاب العربي، نظرات في الأدب والنقد؛ أ. عبدالرزاق البصير، الكتاب الثامن والعشرين 1990، مقالًا بعنوان: "أبو ذؤيب يرثي أبناءه الخمسة".

ومن الرثاء إلى البُؤْس وتقلبات الدهر في رائعة خلَّدت ذكرَ كاتبِها، وهو أبو الحسن علي بن زريق البغدادي، وكانت له ابنةُ عمٍّ قد كلف بها أشد الكَلَفِ، ثم ارتحلَ إلى بغداد لفاقةٍ أصابَتْه؛ فقَصَد أبا الخبير عبدالرحمن الأندلسي في الأندلس ومَدَحَه بقصيدة بليغة؛ فأعطاه عطاء قليلًا، فقال أبو الحسن علي بن زريق البغدادي: إنا لله وإنا إليه راجعون! ثم تذكَّر فراقَ ابنة عمه، وطولَ السفر، ومشقَّة الترحالِ؛ فاعتلَّ غمًّا، ومات وعلى رأسه رقعةٌ مكتوب عليها تلك القصيدة في مطلعها:
لا تَعْذلِيه فإن العَذْلَ يُولِعُه
قد قلتِ حقًّا ولكن ليس يسمعُه

جاوزت في نصحه حدًّا أضرَّ به
من حيث قدرت أن النُّصحَ يَنفعُه


يا لها من بيوت تُقال في رجاء لكل معاتبٍ ومُؤنِّبٍ أن يكفَّ لسانَه بعدما وقع الأمر قمةً في الإيجاز، وروعةً في العرض!

وقول الشيخ خليل بن ناصيف اليازجي في مدح توفيق باشا الخديوي بمصر آنذاك:
قيَّدْتَ نفسك بالثبات شجاعةً ♦♦♦ إن المُقيِّد نفسَه لَطليقُ

والروعة هنا ليست فيمن كُتِب له البيت قدرَ الحكمة من بيت شعر يُعدُّ "بيت القصيد" في قصيدة كتلك، أوجز مُفادها ومعناها، والبيت يشرح نفسه، ويوصي بكَبْح جماح النفس من شهوة السلطة وسلطان الحكم.

ونعرج من الحكمة والرثاء إلى الوصف، وأجمل ما قيل في الزهر والطبيعة من شعراء عظام، ولصفي الدين الحِلِّي بيت شعر أُعدُّه بيتَ القصيد في وصفه الجميل للورد؛ إذ يقول:
والوردُ في أعلى الغصونِ كأنه ♦♦♦ مَلِكٌ تحفُّ به سراة جنودِه

وأيضًا قولُه:
فابْكُرْ إلى روضِ السُّراةِ وظلِّها ♦♦♦ فالعيشُ بينَ بسيطِه ومديدِه

نجدُهم حتى في الوصف يُطلقون الحكمةَ والموعظة، وهو دليلٌ قاطع على زخم وثقافة عربية عظيمة، وقبل مغادرة هذا الغرض الجميل من أغراض الشعر أثبِتُ حالةً فريدة لعلي بن سعيدٍ الأندلسيِّ حين تألَّق:
كأنَّما النهرُ صفحةٌ كُتِبتْ
أسطرُها والنسيمُ منشؤها

لمَّا أبانت عن حسنِ منظرِها
مالتْ إليه الغصونُ تقرَؤها


ما أجملَ التصويرَ والتلخيصَ في البيتين، نعم كانوا أربابَ فصاحة وأصحاب بيان، طوعوا اللغة وبديعَها لما يجول برؤوسهم والأفكار، فلهم بيوتٌ من ذهب، وإليها يرتقون!

ونصولُ صولةً لنجول جولةً في مناقب الحكم، ومفاتن البيان، وإن كنتُ سوف أدان، بأنني لا أخطُّ مقالًا أو تبيانًا إلا وفيه ذكر لهما والتقاط لبعض حبات اللؤلؤ والمرجان؛ والرائعة "نونية البُستي"؛ لعليِّ بن محمد البُستي أبي الفتح كلُّها بيتُ قصيدٍ، كلُّها مستقرُّ حكمةٍ، كلُّها بيان وتبيان، يقول في مطلعها:
زيادةُ المرء في دنياه نقصانُ ♦♦♦ وربحُه غيرَ محضِ الخير خسرانُ

وقوله:
مَن يزرع الشرَّ يحصد في عواقبه ♦♦♦ ندامةً، ولحصد الزرع إبَّانُ

وبيتُ شعر له في مختتم القصيدة، وإن كان محزنًا لكني إخاله بيتَ قصيدٍ يتحقق، وذلك قوله:
كنا نرى إنما الإحسانُ مَكْرُمة ♦♦♦ فاليومَ مَن لا يَضِيرُ الناسَ مِحْسانُ

ومن نونية لنونية أخرى - حتى لا نطيل - لابن القيم رحمه الله في وصف الجنة، هي من الروائع التي تُعدُّ بيتَ قصيد، ومحطَّ اهتمام البشر:


دارُ السلام وجنةُ المأوى ومن
زلُ عسكرِ الإيمانِ والقرآنِ

فالدَّار دارُ سلامة وخطابُهم
فيها سلامٌ واسمُ ذي الغفرانِ


ومثال آخر من كتابات السابقين أُولِي الحِجا والحكم، أرباب البلاغة والبيان، الذين إن استطال الزمن، وتعاقبَتِ الدهور على أشعارهم ونصوصِهم، فسيظلُّ لها الصدارة في الفصاحة والروعة؛ قول ابن الوردي وهو يعظ، وما أدراك ما وعظُ السابقين؟ لا رياء فيه ولا مداهنة، ولا تشدق بالألسنة؛ كلامهم من الرسالة المجيدة المرسلة، وسنة المصطفى المطهرة؛ فإن العرب قديمًا وإن كانوا - حتى قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم - أربابَ حكمة وأصحاب فِطنة وبيان، فها هو ابنُ الوردي يتألَّق قائلًا:
اعتزل ذِكر الأغاني والغَزَلْ
وقلِ الفصلَ وجانِبْ مَن هَزَلْ

ودِعِ الذكرَ لأيام الصِّبا
فلأيامِ الصبا نجمٌ أفَلْ


والله ما أفلَ نجمُك أيها الشاعر الحكيم المبدع الطيب، ولك علينا الحق في أن نذكر لك أبياتًا أخرى، هي واسطة العقد، ودرة الدرر في قولك:
واتَّقِ اللهَ فتقوى اللهِ ما ♦♦♦ جاورَتْ قلبَ امرئٍ إلا وصَلْ

وبيتُه الرائع الذي هو نداء إلى الأمة العربية بأسرها؛ لكيلا يتخذَنا غيرُنا توابع؛ لفرط جهل أو نقص خبرة:
في ازديادِ العلمِ إرغامُ العِدا ♦♦♦ وجمالُ العلمِ إصلاحُ العملْ

وعلى ذكر العلم، فقد أصاب الشاعر أبو العلاء المعري حين قال:
العلم يرفع بيتًا لا عمادَ له ♦♦♦ والجهلُ يهدم بيتَ العزِّ والكرمِ

وفي إقرار أقرَّه "المتنبي" من قرون خلَتْ، وهو من شعراء العصر العباسي:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله ♦♦♦ وأخو الجهالةِ في الشقاوةِ يَنعمُ

والكثير والكثير، ولو فتَّشْنَا في كتابات السابقين والمُحْدَثين، سنعثر على جواهرَ صِيغتْ من بديع العربية بيانًا فاق الوصف، ولن نتجرَّأَ على النصِّ القرآني، ونقول: إننا سوف نختار منه لحظة تنوير أو بيت قصيد؛ فالقرآن سامٍ سامٍ عالٍ، كلُّ حرف فيه تنوير، وإضاءة، ونور، ويكفينا قول ربنا: ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾ [الإسراء: 9].


[1] حدث في المدينة؛ محمد صادق عبدالعال، تاريخ الإضافة: 11/ 4/ 2012 ميلاديًّا، 19/ 5/ 1433 هجريًّا، وأيضًا بكتاب: "وتمرد القلم" قصة حدث في المدينة ص: (86، 87) محمد صادق عبدالعال، والصادر عن دار النيل للنشر والتوزيع / مصر المهندسين.

[2] محمد صادق عبدالعال، تاريخ الإضافة: 11/ 4/ 2012 ميلاديًّا - 19/ 5/ 1433 هجريًّا، وأيضًا بكتاب: "وتمرد القلم" قصة حدث في المدينة؛ محمد صادق عبدالعال، والصادر عن دار النيل للنشر والتوزيع / مصر المهندسين ص: (86، 87).

[3] الخليس؛ محمد صادق عبدالعال، تاريخ الإضافة: 11/ 3/ 2015 ميلاديًّا - 20/ 5/ 1436 هجريًّا، وأيضًا بكتاب: "وتمرد القلم" قصة الخليس ص: (103)؛ محمد صادق عبدالعال، والصادر عن دار النيل للنشر والتوزيع / مصر المهندسين.

[4] - أمهات (قصة) محمد صادق عبدالعال، تاريخ الإضافة: 11/ 3/ 2015 ميلاديًّا - 20/ 5/ 1436 هجريًّا.

[5] قصة نظرة، محمد صادق عبدالعال، تاريخ الإضافة: 5/ 7/ 2015 ميلاديًّا - 18/ 9/ 1436 هجريًّا.

[6] (استبصار) قصتان قصيرتان؛ محمد صادق عبدالعال، تاريخ الإضافة: 3/ 1/ 2013 ميلاديًّا - 20/ 2/ 1434 هجريًّا، وأيضًا بكتاب: "وتمرد القلم" (قصة استبصار) قصتان قصيرتان، المبصر والعمياوات، ص: (156) محمد صادق عبدالعال، والصادر عن دار النيل للنشر والتوزيع / مصر المهندسين.

[7] كتاب العربي، نظرات في الأدب والنقد؛ أ. عبدالرزاق البصير، الكتاب الثامن والعشرين 1990، مقالًا بعنوان: "أبو ذؤيب يرثي أبناءه الخمسة"، ص: (من: 79 حتى: 82).

[8] كتاب العربي، نظرات في الأدب والنقد؛ أ. عبدالرزاق البصير، الكتاب الثامن والعشرين 1990، مقالًا بعنوان: "أبو ذؤيب يرثي أبناءه الخمسة"، ص: (من: 79 حتى: 82).

[9] كتاب العربي، نظرات في الأدب والنقد؛ أ. عبدالرزاق البصير، الكتاب الثامن والعشرين 1990، مقالًا بعنوان: "أبو ذؤيب يرثي أبناءه الخمسة"، ص: (من: 79 حتى: 82).


[11] ديوان الإمام الشافعي حبر الأمة وإمام الأئمة الإمام أبي عبدالله محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه، جمعه وشرحه الأستاذ: نعيم زرزور؛ قدم له د: مفيد قميحة، والصادر عن دار الكتب العلمية ببيروت - لبنان الطبعة الأولى ص: (51).

[12] ديوان الإمام الشافعي حبر الأمة وإمام الأئمة الإمام أبي عبدالله محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه، جمعه وشرحه الأستاذ: نعيم زرزور؛ قدم له د: مفيد قميحة، والصادر عن دار الكتب العلمية ببيروت - لبنان الطبعة الأولى ص: (75).

[13] كتاب العربي، نظرات في الأدب والنقد؛ أ. عبدالرزاق البصير، الكتاب الثامن والعشرين 1990؛ مقالًا بعنوان: شعراء معروفون مجهولون، ص: (86).
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.


التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 29-09-2022 الساعة 06:35 PM.
رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 29.26 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 28.60 كيلو بايت... تم توفير 0.66 كيلو بايت...بمعدل (2.25%)]