
28-09-2022, 03:49 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,500
الدولة :
|
|
رد: قراءة نقدية في قصيدة "نفثة مصدور": صراع الحضارات وثنائية المركز والهامش
قراءة نقدية في قصيدة "نفثة مصدور": صراع الحضارات وثنائية المركز والهامش
فتيحة حسون
وهذه الصورة الشعريَّة تجسِّد لنا المشهدَ حتى لنكاد نراه بأمِّ أعيننا، نورس يطير فيبزغ على هيئة سَبيكة القطن، نقَلَ الشاعر المشهدَ من خيال الشِّعر إلى واقع محسوس، وكما يقول الجاحظ: "إنَّما الشِّعر صناعة، وضرب من النَّسج، وجنس من التصوير"[5]، إنَّها بلاغة راقِية، جامعة مدهِشة، إنَّه تآلف المتنافرات.. و"للشِّعر أسلوب خاصٌّ في صياغة الأفكار والمعاني؛ هو أسلوب يقوم على إثارة الانفعال، واستمالَة المتلقِّي إلى موقف من المواقف (...)، [وفي] الصياغة يقوم على جانب كبير من جوانبه على تَقديم المعنى بطريقة حسيَّة؛ أي: إنَّ التصوير يترادف مع ما نسمِّيه بالتجسيم؛ [وهذا يجعل الشِّعر] قرينًا للرسم ومشابهًا له في طريقة التشكيل والصياغة، والتأثير والتلقِّي"[6].
وهذا ليس مغامرة باللُّغة لتصور صورًا تتمرَّد على المألوف، بل هو انزياح إبداعيٌّ يصبُّ اللُّغةَ في قوالب المعنى؛ لتشكِّل صورًا شعريَّة ترسم المعاني والدلالات بألوان الرؤى التي يريد الشاعِر أن يوصلَها للمتلقِّي في أبهى حلَّة وأروع تَصوير.. وبهذا نَجد الشاعِر قد نفخ الحياةَ في لغته وجمَع بين الصوت والدلالة والسياق بكيمياء التخييل والفِكر والمشاعر؛ فخلق لنا لوحات شعريَّة نفثها نفثة تلوَ النَّفثة حتى ليَكاد القارئ يَلمس حرارة وحرقة هذه النَّفثات.. لقد جسَّد جماليَّة الصورة الشعريَّة في أبهى صوَرِها، ورمزيَّة النورس هنا رمزية جدُّ موغلة في سماء الطُّهر؛ فهو أَطهر الطيور؛ لا يَنقل العدوى، ولا يؤذي أحدًا، يعشق البحر، حتى إنَّه إذا ذُكر البحر ذُكرَت النوارس، طائر مسالِم، مهاجِر ما بين موانئ الغربة.. لقد بزغَت أصالة "الأنا" المسالمة، العاشِقة للسلم والسلام، تحلِّق في سموات الانعِتاق والنَّقاء والانطلاق بلا قيود مثل النوارس، وهذه الصورة الجماليَّة التي رسمها الشاعر تؤثث عالمه الشِّعري الباذخ، وتؤثِّر في المتلقِّي؛ فالصورة الشعرية من أهمِّ ركائز منظومة الشِّعر قديمًا وحديثًا، وهي تَكشف للمتلقي عن مدى رقيِّ الذوق الشعري عند الشاعر؛ حين يروم التعبيرَ عن خلجات نفسه ومشاعره ورؤاه، وهي كذلك "الوسيلة الفنيَّة الوحيدة التي تتجسَّد بها أفكار الفنان وعواطفه"[7].
ثمَّ تُتابِع النفثاتُ رحلتَها.. وبعد أن تستفيق "الأنا" وتطرح زِيَّها القشيب، تفكِّر في الأمر.. لا بدَّ من البحث عن المساعدَة، فهي تريد السلم لا الاستسلام؛ فينقر ذلك النورس أو تلك "الأنا" عن حاتم وصلاح وشوقي.. إنَّ الشاعر يرسِل القوافي عبرَ الزَّمن؛ ليبني قنطرةً تواصليَّة ما بينه وبين الشخصيَّات التراثيَّة؛ هناك هناك المبتغى، هناك النَّجدة، هناك القوة والنصرة.. القوافي تصدح: "وامعتصماه!"؛ لِيَأتي فرسان يكونون صرحًا منيعًا ودرعًا في وجه كتيبة "الفرسان" المقنَّعة، التي ظاهرها الجود وباطِنُها من قِبَله العذاب والتَّقتيل، والتدمير والاغتيال، تستدعي "الأنا" فرسانَها من كلِّ الحقب التاريخيَّة، وتسافر عبر الزمن لتجمع "فرسان النصر"، إنَّه الحنين إلى زمن القوة والعزَّة.
أحِـنُّ إلى البَـدْر وَسْــطَ الدُّجَـى
إلى ظِــلِّ دَوْحٍ
إلى خُبْز كِسْــرى
إلى جَلَسات الحَسَنْ
وابْنِ رُشْــدٍ
ويُوسِي مُرَاكُـــش
الحنين إلى البدر! الحنين إلى النور والقِيَم الإنسانيَّة المفقودة:
الشاعر أو الأنا المغتربة تَشعر بالحنين إلى البدر! البدر لطالَما تغنَّى به الشعراء وكان مركزَ التشبيه عندهم، البدر الخلُّ الوفيُّ لكلِّ مهموم ومشتاق، وسراج ينير دروبَ المتاهات النفسيَّة والفكرية.. في شرفاته تَرتاح الأنفس وتستجمُّ من حَرِّ ما تجد في دنياها.. الحنين إلى البدر حين يتوسَّط الدجى، يكون الأمل المرتجى.
إنَّ الشاعر يحنُّ إلى البدر لَحظة توسُّطه لحلكة ظلمة اللَّيل، البدر وهو في تمام اكتماله، البدر بكلِّ دلالاته: النور والأنس، والحقُّ والضياء، البدر الذي يَقف في قلب الليل؛ فيُعيد السماءَ مزهوَّة بنوره، والأرض مفروشة بترانيم ضيائه، يزيل وحشةَ الطُّرق، يزيل نورُه وضياؤه ظلمةَ الظلم واللصوصيَّة وحلكةً بسطها المداهمون على أرض السوح.. حاضرٌ بَئيس تعيشه "الأنا" المغتربة التي تحنُّ إلى ظلِّ دوح، إلى ظلال شجَرة الكينونة التاريخيَّة، إنَّها تتوق إلى عظَمَة العروق المتجذرة في أعماق العروبة الأصيلَة، ظلال تحميها من حرِّ ما تجد من ظلمٍ وهوان.. وما زال الحنين يَجرفها.. إنَّ الأنا الشاعرة تحنُّ إلى "الخبز"؛ إلى خبز كسرى.
العدالة "طرف الخبز"!
لطالما رُفع رغيف الخبز للمطالَبة بالعدالة وحقِّ العيش بكرامة، إنَّه أيقونة سيميائية لها دلالاتها المجتمعيَّة والاجتماعيَّة والسياسية أيضًا.. الخبز "تيمة" حاضرة في شتَّى الآداب، سواء منها العالمية أو العربيَّة، وهو يمثِّل بؤرةَ الأدب الاجتماعي كما يمثِّل "الحبُّ" بؤرة الأدب الرومانسي.. إنَّه شِعار الحياة؛ بل هو إكسير الحياة، ودوس الخبز بالقدم يعدُّ كفرانًا للنِّعمة، وفي موروثنا الشَّعبي نقوم بتقبيل الخبز إذا وجدناه ملقًى على الأرض ثمَّ نضعه في مكانٍ بعيدًا عن المارَّة، ورغم أنَّ البعض لا يُجيز تقبيله، لكن هناك مَن فعل - منهم الحنفيَّة والشافعية - إن كان التقبيل بنيَّة الاحترام.. إذًا، احترام "الخبز" واجبٌ؛ لأنَّه احترام للنِّعمة، ومن النِّعمة الحنين إلى "خبز كسرى"؛ نعمة المشاعِر أن تحنَّ إلى الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الشاعر حين قال: "أحن إلى خبز كسرى" هو معنًى ظاهر لمعنًى باطن، هو حَنين إلى العدل العُمَرِي، الحنين إلى تَوزيع الثروات بعدلٍ وبصورة لا تَترك المجتمعات تَظهر فيها الطبقيَّة الفاحشة، ما بين غنى فاحش وفقر مدقع؛ "خبز كسرى" هي الغنائم التي غَنِمها المسلمون في معركة القادسيَّة حين دخلوا إيوان كسرى واستولوا على ما فيه من كنوز.. وحسب سياق القصيدة أيضًا فالشاعر يحنُّ إلى تلك الانتصارات المتوالِية؛ انتصارات على دولة الفُرس، أعظم الإمبراطوريات، التي كانت تتقاسم الزَّعامة الدولية مع الروم آنذاك.. إنَّه الحنين إلى زمن العزَّة والقوَّة العسكرية التي كان يهابها الجميع!
ويفيض الحنين! تحنان إلى جلسات الحسن رضي الله عنه سِبط الرَّسول صلى الله عليه وسلم، سيِّدِ شباب أهل الجنَّة، الحليم الذي تخلَّى عن الحُكْم لمعاويةَ من أجل حَقنِ الدِّماء.. الشَّاعر ظامئ إلى "جلسات الحسَن" كي يَرتوي؛ فيخف الوجعُ وتَهدأ نيران النَّفثات، إنَّه في حاجة إلى كتيبة النَّصر التي تتكون من: حاتم الطائي، صلاح الدين الأيوبي، أحمد شوقي، الحسَن رضي الله عنه، ابن رشد، يوسي مراكش.. الشاعر يَستنطق الزمانَ والمكان، ويَستدعي شخصيات تاريخيَّة؛ ليتحدَّى بها الواقعَ المرير الذي يَعيشه؛ ولتكون دِرعه الذي يَحمي ويقي بها مداهمةَ المداهمين لسوحه.. إنَّه يَستحضر التاريخَ، وهذا الاستحضار ليس استحضارًا اعتباطيًّا للدوالِّ من أجل الزَّخرفة الشعريَّة، أو لمجرد حَشو القصيدة بأسماء تراثيَّة، بل هو استنطاق للمدلولات التي تَحمل المعاني والدلالات التي تمثِّلها كلُّ شخصيَّة، إنَّه اختيار متميز؛ حيث أبدع الشاعِر في توظيفها توظيفًا يخدم فكرةَ القصيدة والرسائل المراد إيصالها للمتلقِّي؛ أليس أولئك الفرسان قد داهموا سوحَه، وامتصُّوا خيراته، ثمَّ "توًّا" عَربدوا وفتكوا واغتالوا كلَّ شيء!
إذًا، هو يَحتاج إلى كلِّ صفة وإلى ما تمثِّله كل شخصيَّة، إنَّها تشكِّل حزمةً من المعاني والدلالات التي يَحتاجها؛ ليقابل قطيع "الفرسان" بفرسان أَقوى منهم يمثِّلون الفروسيَّة الحقيقيةَ، يتجسَّد الشاعر بطلًا يصبُّ نفسَه في قالب فرسانه الأبطال.. واستدعاء هذه الشخصيَّات التراثيَّة لتوظيفها في بِنية القصيدة له حمولة فكريَّة ووجدانيَّة وتاريخيَّة؛ وذلك للتأثير في المتلقي، فالتراث حيٌّ ودائم الحضور في ذِهنه، وهذه الأعلام لها هالَة من القداسة والاحترام في وجدانه؛ لِما تمثِّله من القِيَم، إنَّها رموز ساعدَت في تشكيل الصورة الشعريَّة التي أراد الشاعر رسمَها عن المأساة التي تَعيشها تلك "الأنا"؛ بل عن المآسي التي تَعيشها أمَّتُه؛ من خيبة الأمل، والهزائم النفسية قبل هزائم الواقع المريرَة على جميع الأصعدة.. إنَّه في حاجة ماسَّة إلى هؤلاء الفرسان الذين يجسِّدون حقيقةَ الفروسيَّة؛ وهنا تَظهر المرجعيَّة الدينيَّة والثقافية للشاعر، في خطابه الشعري هذا "نفثة مصدور" يُحيل هذا الخِطاب إلى هويَّته وكأنَّ تلك "الأنا" تصرخ ملءَ الفخر والاعتزاز، والشعور بالخيبة وبالضَّعف في آنٍ، وتقول: أنا تاريخِي كلُّه بطولات في جميع الأصعدة، والضَّعف ليس في قاموس تاريخ هُويتي.
إنَّ الشاعر حين استدعى حاتمًا الطائي يعطي لقائد المداهمين درسًا في معنى الكرَم، إنَّه الرمز الحقيقي للجود، لقد ذبَحَ فرسَه ليكرم رسولَ قيصر، وحين استحضر صلاح الدين الأيوبي محرِّر القدس يبرز معنى الفروسيَّة الحقَّة والزعامة العسكريَّة المتفردة، فرغم أنَّه كان في حرب مع جيش أوروبا، لكنَّ فروسيَّته الحقيقيَّة جعلَته يرسل طبيبَه ليعالج قائدَ الحملة الصليبيَّة ملك إنجلترا "ريتشارد قلب الأسد"، وحين نادى أخوَّة الشعر متمثلًا في أحمد شوقي، نادى تلكم "الغربة" التي عانى منها كلاهما، الغُربة التي جعلَت أميرَ الشعراء يتفنَّن في "الأندلسيات" ويبثُّ فيها معاناته ويصوِّر فيها آلامَ غربَته في مَنفاه، ولمَّا أراد استدعاءَ باقي فرسان النَّصر مرَّ على ذكرى كسرى؛ كسرى الملك الذي هُزِم على يد العدل العُمَرِي؛ فأصبحَت كنوزه خبزًا للجميع.. ولمَّا اشتدَّ به الحنين إلى الروح الدينيَّة وشرف الأصل، توجَّه قاصدًا جلسات الحسَن؛ يَنهل من مَعين حِلمه وشجاعتِه، وإنكار الذَّات في سبيل المصلحة العامَّة، حتى إنَّه حين كان يحتضر لم يشَأ أن يَبوح باسم من وَضع له السمَّ في طعامه، لم يَشأ أن يكشف قاتلَه؛ خشية وقوع الفتنة والاقتتال.. مراعاة لمصلحة الناس وحقنًا للدِّماء، هذا ما احتاج إليه الشاعر.. تلك "الأنا" التي وجدَت سوحها خرابًا بعد عمار، لم يكن صَمتها جبنًا ولا خوفًا من قوة المداهِمين، بل كان حِلمًا وعدم تسرُّع.. الحسَن رمزٌ للتضحية بالذَّات من أجل المصلحة العامَّة.
بعد ذلك انتقل الشاعِر إلى الأندلس، إلى فَيلسوف قرطبة وقاضيها أبي الوليد؛ "لم يَنشأ في الأندلس مثلُه كمالًا وعلمًا وفضلًا"[8]، ذلك الفقيه الفيلسوف الذي كان القنطرة الحقيقيَّة بين الفلسفة الأرسطية وبين الفِكر العرَبي والغربي، لقد كانت كُتبه تدرَّس في جامعات أوروبا في العصور الوسطى، وقد استحضرَه الشاعِر؛ لما يمثِّله من رمزيَّةٍ فكريَّة وعلميَّة كانت ولا تزال محطَّ اهتمام السَّاحة الفكريَّة على مرِّ العصور.. والفلسفة تَعني الحكمة، وحِكمة الشاعر إرثُ أجداده؛ سبيلُهم في التعاطي مع الأمور العظام، والمواقف الطارئة.. التعامُل بعقلانيَّة مع كلِّ المستجدَّات، وفسح المجال للحوار وتقبُّل الرَّأي الآخر.. فالشاعر لم يَختر شخصيَّةَ ابن رشد اعتباطًا، فإلى جانب ما ذكر نجد أنَّ "ابن رشد يضع نفسَه فعلًا في مرتبة المجتهِد في النظريَّات والفقهيات (...)، فلم يَكن فيلسوف قرطبة يدَّعي امتلاكَ الحقيقة"[9]، وهكذا تلك "الأنا" الشاعِرة، لا تدَّعي أنَّها مركز الحقيقة، بل لها استعداد لتقبُّل الآخر وفِكره مهما كان؛ لأنَّ هذا دَيدن حضارتها الدينيَّة والفكريَّة والعلميَّة.. ونجد أنَّ الشاعر رتَّب الشخصيَّات تريبًا حسب الأزمنة التي عاشَت فيها، فكما فعل في المقطع الثَّاني من القصيدة - حيث بدأ بحاتم ثمَّ صلاح الدين الأيوبي فأحمد شوقي - ها هو في المقطع الثالث يَفتح بابَ الإمبراطوريَّة الفارسية ويَستدعي كسرى، ثمَّ يترجَّل ويربط خيلَ الشَّوق إلى عمود جلسات الحسَن رضي الله عنه، ثمَّ يعرِّج على قلعة "كالاهورا" يَحتمي بها إلى حين قدوم ابن رُشد من الشارع المقابل، وبعدها ينادي على يوسي مراكش وجبالُ الأطلَس تردِّد الصدى.. وما أعظم مراكش الحمراء!
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|