زيني زاده: حياته وآثاره العلمية
أ. رضا جمال
زيني زاده: حياته وآثاره العلمية
(من دراسة بعنوان: الفَوائِدُ الشَّافِية، عَلى إعْرابِ الكافِية)
لحُسَين بن أحمد، الشَّهير بــ: زِيني زادهْ
(ت: 1168هـ)
(تحقيقًا ودراسة)
عصرهُ والحياة العلميَّة والفكريَّة فيه [1]:
عاش زيني زاده في الفترة ما بين 1107 - 1168 هـ = 1696 - 1755م، وهي مرحلة زمنية متميزة من مراحل الدولة العثمانية؛ تدخل في العصر الذي عرف بـ(عصر التوقف)، وقبل دور الانحطاط، وقرب نهاية الدولة العثمانيَّة، وسقوط خلافتها. ويبدأ هذا العصر تحديدًا منذ سقوط مرزيفونلي قره مصطفى باشا 51/ 12/ 1683م، ويمتد إلى سنة 1768م، وهي بداية الحرب الكبيرة مع روسيا، وبداية دور الانحطاط.
وفي هذا العصر الذي عرف بـ(عصر التوقف) كانت بداية النهاية للدولة العثمانية العالمية، والتي كانت هي الدولة الأولى عالميًّا، فضعف نفوذها الذي كان يعبر القارات، ويوجه سياسة العالم وتاريخه على السواء، وتوقف توسعها، وانقرضت قوة اندفاعها وفاعليتها وجرأتها، وأصبح جل غايتها هو الحفاظ قدر ما تستطيع على ما تملكه.
ولقد عاصر زيني زاده منذ ولادته إلى وفاته عهد أربعة من الخلفاء العثمانيِّين، وبالحديث عنهم وعن سمات عصرهم السياسيَّة والاقتصاديَّة، والحياة العلميَّة والأدبية، تتجلَّى خصائص العصر الذي عاش فيه المؤلف، وأثر في نشأته وتكوينه العلمي، وأيضًا تتضح بعض الأمور بخصوص مصنفاته؛ إذ إنَّ بعضها كان إهداءً لبعض الوزراء والسلاطين، كما هو الحال في كتاب "الفوائد الشافية" محل الدراسة، وهؤلاء السلاطين هم:
1- السلطان الغازي مصطفى خان الثاني، ابن السلطان محمد الرابع (1074هـ - 1115 هـ):
وقد امتاز السلطان مصطفى خان بصفات حميدة، فقد كان متصفًا بالشجاعة والبأس، كما كان شاعرًا، وخطاطًا ماهرًا، الثقافة الغزيرة، وتحصيله العلمي العالي، والقدرة العالية على جمْع السلاطين، كما كان يُعد من أقوى السلاطين بعد السلطان مراد الرابع، وكان يخرج مع الجيش بنفسه، وهو من آخر السلاطين الذين ساروا إلى الحرب، وقد حقَّق انتصارات كثيرة على البندقيين والبولونيين مما أوجد جوًّا من التفاؤل بعد عدة هزائم مضت، غير أنَّه هُزم على يد الأمير أوجين قائد الجيوش النمساوية الذي أخذ المجر من أيدي العثمانيين، ولم يعد لهم بها أي صلة، وحاول السلطان مصطفى خان إعادتها بعدما جهَّز جيشًا عظيمًا، ولكن الوزراء قد مانعوا، إلى أن تم ما عرف باسم (معاهدة كارلوفجه، أو كارلوفتس) رجب سنة 1110هـ - يناير سنة 1699م، بين الدولة العلية والنمسا والروسيا والبندقية وبولونيا، وكانت - بسبب المكر الخبيث من السفيرينِ: الفرنسي، والهولندي آنذاك - لصالح النمسا وروسيا والبندقية على حساب العثمانيين، بل كانت من أكثر المعاهدات إضرارًا بهم؛ إذ انتقلت المجر بكاملها إلى ألمانيا ما خلا البوسنة، كما قام بمعاهدة مع روسيا أيضًا.
ومن ذلك التاريخ تم الاتفاق بين جميع الدول - إن لم يكن صراحة، فضِمنًا - على الوقوف أمام تقدم الدولة العلية أولًا، ثم تقسيم بلادها بينهم شيئًا فشيئًا، وهو ما عرف سياسيًّا بـ(المسألة الشرقية)، وقد بُنيت على الخوف من انتشار الإسلام وحلوله محلَّ النصرانية ليس إلَّا، وأما ما يسترون غاياتهم خلفه مِن الدِّفاع عن حقوق الأمم المسيحيَّة الضعيفة الخاضعة للدولة، فقد كان خداعًا، لم يعد أحد يغتر به.
وفي عهده حصلت ثورة أدرنه, وهي إحدى الثورات الدنيئة والمشؤومة في التاريخ العثماني. وفيها ثار عليه الإنكشارية الميالون بطبعهم إلى الهياج للسلب والنهب وهتك الأعراض، وعزلوا السلطان مصطفى الثاني في 2 ربيع الآخر سنة 1115 هـ - 15 أغسطس سنة 1703م، بعد أن حَكم 8 سنوات و 8 شهور، وبقي معزولًا إلى أن تُوفي في 22 شعبان من السنة المذكورة، وعمره أربعون سنة تقريبًا، وأقاموا مكانه بعد عزله أخاه السلطان أحمد الغازي، وهو ما يأتي الحديث عنه.
2- السلطان الغازي أحمد خان الثالث (1083هـ - 1149 هـ):
وهو ابن السلطان الغازي محمد الرابع، ولد في 3 رمضان سنة 1083 هـ - 23 ديسمبر سنة 1673م، وعند تعيينه وزَّع أموالًا طائلة على الإنكشارية، وسلَّم لهم في قتْل بعض من يُقاومهم في أعمالهم، ثم اقتصَّ من رؤوسهم بعدما قرت الأحوال وعادت السكينة، فقتل منهم عددًا ليس بقليل، وعزل الصدر الأعظم نشانجي أحمد باشا الذي انتخبه الإنكشارية وقت ثورتهم، وعين في هذه الوظيفة المهمة زوج أخته داماد حسن باشا، وكان رجلًا حازمًا يحول بين المفسدين وبين ما يشتهون، وله أعمال نافعة كتجديد الترسانة وإنشاء كثير من المدارس، ومع ذلك أعمل المفسدون فكرهم وبذلوا جهدهم حتى تحصلوا على عزله في 28 جمادى الأولى 1116 هـ - 28 سبتمبر سنة 1704م، ومن بعده كثر تغيير الصدور تبعًا للأهواء.
وفي عهده كاد يُقضَى على روسيا كلية من العالم السياسي، أو على الأقل كانت ستبقى في التوحُّش والهمجيَّة عِدَّة أجيال؛ وذلك حينما أشهر بلطه جي محمد الحرب على روسيا، وقاد الجيوش بنفسه، وبعد مناورات مهمة حصرت الجيوش العثمانية البالغ قدْرُها مِئتي ألف جُندي قيصر روسيا وخليلته كاترينا، ولو استمرَّ عليهم الحصار قليلًا لأخذ أسيرًا هو ومن معه وانمحت الدولة الروسية، لكن بلطه جي محمد باشا رفع الحصار عن القيصر وجيشه مكتفيًا بإمضاء القيصر لمعاهدة فلكزن المؤرخة 9 جمادى الآخرة سنة 1123 هـ - 25 يوليه سنة 1711م، وأخلى بمقتضاها مدينة أَزَاق، وتعهد فيها بعدم التدخل في شؤون القوزاق مطلقًا، وهي مزية لم تكن شيئًا مذكورًا في جانب ما كان يمكن الدولة أن تناله من القيصر لو أهلكت جيشه واستولت عليه أسيرًا!
وفي عهده أمضت الخلافة العثمانية مع روسيا عدة معاهدات، منها معاهدة أدرنه في 24 جمادى الأولى سنة 1125 هـ - 18 يونيو سنة 1713م، تنازلت روسيا بمقتضاها عما لها من الأراضي على البحر الأسود حتى لم يبق لها عليه موانئ أو ثغور، وفي مقابلة ذلك أبطل ما كانت تدفعه سنويًّا إلى أمراء القرم كجزية؛ كي لا يتعدوا على قوافلها التجارية. ومعاهدة بسارو فتس، وهي عبارة عن صلح تمَّ بين الدولة العثمانية وبين النمسا في 22 شعبان سنة 1130هـ - 21 يوليو سنة 1718م، ونُصَّ في هذه المعاهدة على أن تأخذ النمسا ولاية تمسوار ومدينة بلغراد مع جزء عظيم من بلاد الصرب، وآخر من بلاد الفلاخ، وأن تَبقى جمهورية البندقية محتلة ثغور شاطئ دلماسيا، أمَّا بلاد موره فترجع إلى الدولة. وفي هذه المعاهدة اشترط بطرس الأكبر - القيصر المؤسِّس الحقيقي للمملكة الروسية وواضع دعائمها - شرطًا مهمًّا؛ لكي يفرق بين مجاوريه الثلاثة السويد وبولونيا والدولة العثمانية، ويُضعِفهم الواحد بعد الآخر، فتَزيدَ قوتُه بنسبة تأخُّرهم وتقهقرهم، وينص هذا الشرط على أن تتعهَّد كل من روسيا والباب العالي بمنع زيادة نفوذ الملك المنتخب ببولونيا على نفوذ الأشراف، وعدم تمكينه من جعل منصبه وراثيًّا في عائلته، ومنع حصول هذين الأمرين بكل الوسائل الممكنة بما فيها الحرب، وهو شرط مهم في إيجاد النفرة بين ملوك بولونيا والدولة؛ إنفاذًا لِمَا كان ينويه هذا القيصرُ بمكره ودَهائه.
ثم حدَث أنْ تمَّ تقسيم مملكة العجم بين العثمانيِّين والروس، وتم عزْل السلطان الغازي أحمد الثالث، وكان هذا بسبب فتح بلاد جديدة في جهة آسيا فتحها داماد إبراهيم باشا الذي تولى منصب الصدارة سنة 1130 هـ 1717م، وقد قام بفتح أرمينيا وبلاد الكرج، ولكن كان سبقه بطرس الأكبر واجتاز جبال القوقاز، التي كانت تحد بلاده من جهة الجنوب، واحتل إقليم طاغستان مع كافة سواحل بحر الخزر الغربية، فكادت الحرب تقوم بين الدولة العثمانية والروس، ولما تحقَّق بطرس الأكبر من عدم اقتداره على محاربتها، طلب من سفير فرنسا بالآستانة المسيو دوبو أن يتوسَّط بينهما، فقَبِل هذه المأموريةَ ووفق بين الطرفين بأن يمتلك كلٌّ منهما ما احتله من البلاد، وبالفعل قبلت الدولتان بذلك، وأمْضَتَا بهذه الشروط معاهدةً بتاريخ 2 شوال سنة 1136 هـ - 24 يونيو سنة 1724م.
ولم تقبل الفرس بضياع جزء كبير من بلادهم وقاموا بمحاربة العثمانيين، ولكنهم فشلوا بسبب شجاعة العثمانيين وبسالتهم، وتسلط الفوضى في داخلية إيران، وتنازع كل من الشاه أشرف الذي قتل مير محمد أمير أفغانستان والشاه طهماسب ملك ساسان، وانتهت هذه الحرب بالصلح مع الشَّاه أشرف في 25 صفر سنة 1140هـ - 12 أكتوبر سنة 1727م، ولَمَّا مات الشاه أشرف وانفرد طهماسب بالملك، أغار على بلاد الدولة العثمانية بسبب رفضها لطلبه بتسليم بلاد أجداده له، ولعدم ميل السلطان إلى الحرب ورغبته في الصلح؛ ثار الإنكشارية وأهاجوا الأهالي فأطاعوهم؛ طلبًا للسلب والنهب في 15 ربيع الأول 1143ه - 28 سبتمبر سنة 1730م، وطلب بترونا خليل زعيم هذه الثورة من السلطان قتل الصدر الأعظم والمفتي وقبوادان باشا - أميرال الأساطيل البحرية - بحُجة أنهم مائلون لمسالمة العجم، فامتنع السلطان عن إجابتهم، ولكنه سلَّم لهم بقتل الوزير والأميرال دون المفتي؛ خوفًا على نفسه بعدما رأى من إصرارهم، فقتلوهم، وجرَّأهم تساهل السلطان معهم على العصيان عليه جِهارًا! فأعلنوا بإسقاطه في مساء اليوم المذكور عن منصة الأحكام، ونادوا بابن أخيه السلطان محمود الأول خليفةً للمسلمين، فأذعن السلطان أحمد الثالث، وتنازل عن الملك بدون معارضة، وكانت مدة حكمه 27 سنة و 11 شهرًا. وبقي معزولًا إلى أن تُوفي في سنة 1149 هـ.
وكانت هذه الحقبة هي الحقبة التي قضى فيها زيني زاده ريعان شبابه، وألف فيها معظم كتبه، كما سيأتي في ذكر مصنفاته.
وكان من أهم ملامح تطور الحركة العِلميَّة في هذه الآونة - وهو من أهمِّ ما يُذكر في التاريخ لهذا الملك -: إدخال المطبعة في بلاده، وتأسيس دار طباعة في الآستانة العلية بعد إقرار المفتي وإصداره الفتوى بذلك، مشترطًا عدم طبع القرآن الشريف؛ خوفًا عليه من التحريف. وهو تاريخ مبكر جدًّا لإدخال الطباعة في الدولة العثمانية، بل كانت الآستانة هي أسبق مدن الشرق إلى الطباعة، مما يدلُّ على نشاط الحركة العلمية آنذاك. ولكن لا نعلم تحديدًا ما هي الكتب التي طُبِعت في هذه الأيام، وهل طُبِع من ضمنها كتب زيني زاده أم لا[2].
يتبع