عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 26-09-2022, 09:47 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,823
الدولة : Egypt
افتراضي بيني وبين جبران خليل جبران

بيني وبين جبران خليل جبران


ربيع بن المدني السملالي






بيني وبين جبران خليل جبران


كنتُ - وأنا في بداية الشباب وغضارته، ونهاية الصِّبا وغروب شمسه - مولعًا بكتُب الكاتب اللبناني الشهير (جُبْران خليل جُبران)؛ أقرأ مؤلَّفاته وأُعيدها، وأردد كلماته وأحفظها، ولا أُرى إلا متأبِّطًا بعضًا من كتبه رائحًا وجائيًا، لكن في قرارة نفسي كنت أقف حائرًا متسائلًا عن كثير من عباراته التي لا تَستسيغها فطرتي، ولا يُدرك أبعادَها عقلي المحدود، وأجدها ثقيلة على فَهمي وسمعي وحواسي، لكن حبي العنيف له كان يدفعني إلى حسن الظن به وغضِّ الطرف عن هنَاته وهفواته، بل كنت أتهم نفسي كثيرًا أنني سيئ الفهم، ولم أرقَ بعدُ لمستوى كتاباته وإدراك معانيها.

لكن حين قرأتُ له قصةً عنوانها (وردة الهاني) في كتابه (الأرواح المتمردة) التي تقع في عشرين صفحة، أنكرتُ مضمونها إنكارًا، وغضبتُ وانزعجت انزعاجًا شديدًا، وشعرت بقلبي يَضيق وعقلي لا يتحمَّل هذا الهراء الذي ابتلعتُه، ومع بالغ الأسف لم تكن عندي الأدواتُ التي يمكنني أن أرد عليه بها؛ ففاقد الشيء لا يعطيه - كما يُقال - فقط اكتفيتُ باعتزال كتبه، والإعراض عنها إعراضي عن مواطن الشُّبه والفساد، وقلب ظهر المِجنِّ لكل ما له علاقةٌ به.

ثم وقع في خَلَدي أن أعود إلى الأديب الأريب مصطفى لطفي المنفلوطي رحمه الله الذي كنا درَسْنا بعضَ نصوصه النثريَّة الجميلة في المستوى الابتدائي والإعدادي، اشتريتُ كل كتبه من سوق الكتب المستعملة بثمنٍ بخس لا يكلفني شيئًا، وعكفتُ على قراءته كتابًا كتابًا، فوجدتُني أمام رجل بليغ مِنْطيقٍ مسلِم، يحب الخير للناس ويَنشُد الإصلاح وتقويمَ ما فسد من أخلاق المجتمع المصريِّ خاصة، والعربي عامة، فانتشيتُ وطربت وسعِدت، واكتشفتُ أنني كنت في ظلام دامس قبل القراءة لهذا الفاضل.

وقد ذكرتُ في كتابي (أفكار على ضفاف الانكسار) أنه كان من الأسباب التي حبَّبَت إليَّ الأدب الجميل، ودفعَتني إلى خوض غماره بحبٍّ وشغف؛ لذلك لا حاجة بي أن أُسهِب في هذا الأمر أكثرَ في هذه الورقات.

مرت الأيام، وكرَّت الليالي وأنا أعيش متنقلًا بفرَح بين أوراقه وقصصه ومقالاته؛ لأُشبع جوعي إلى المعرفة، وأَشفي غليل عطشي إلى الأدب، وبينا أنا كذلك ذاتَ يومٍ - أو إن شئت فقل: ذات ليلة؛ لأنني لم أكن أقرأ إلا ليلًا في هدوء وصمت، وخَفاءٍ عن الأعينِ والناسِ أجمعين - إذ وجدتُ مقالةً نقدية طار لها قلبي فرحًا، وانشرَح لها صدري انشراحًا، وكدتُ أنسلخ من جلدي غبطةً وسرورًا! وجدت هذا العظيم المنفلوطيَّ في جُزئه الأول من كتابه (النظرات) يُفنِّد تلك القصة (وردة الهاني) لجبران خليل جبران، ويُعنِّف صاحبها تعنيفًا يسيرًا، مبيِّنًا خطر هذه الأفكار الإباحية التي يُروِّج لها بين أبناء المسلمين، وفي قعر دارهم؛ يبدؤها بقوله:
قرأتُ في بعض المجلات قصة قصَّها أحدُ الكتَّاب، موضوعها أنَّ كاتبها غاب عن بلده بضعةَ أعوام، ثم عاد إليها بعد ذلك، فزار صديقًا له من أثرياء الرجال ووجوهِهم، ومِن ذوي الأخلاق الكريمة والأنفُس العالية، فوجده حزينًا كئيبًا على غيرِ ما يعهَد من حاله قبل اليوم، فاستفهَم منه عن دخيلة أمره، فعرَف أنه كان متزوجًا من فتاة يحبها ويُجلُّها ويَفديها بنفسه وماله، فلم تحفَظ صنيعه ولم ترعَ عهده، وأنها فرَّت منه إلى عشيقٍ لها رقيقِ الحال وضيع النَّسب، فاجتهد الكاتبُ أن يَلقى تلك الفتاة؛ لِيَعرف منها سرَّ فِرارها من بيت زوجها، فلقيها في منزل عشيقها، فاعتذرَت إليه عن فعلتها بأنها لا تُحب زوجها؛ لأنه في الأربعين مِن عمره وهي لم تبلغ العشرين، وقالت: إنها جرَت في ذلك على حكم الشرائع الطبيعية، وإن خالفَتِ الشرائع الدينية؛ لأنَّ الأُولى عادلة، والثانية ظالمة!

وقالت: إن ما يسمِّيه الناس بالزنى والخيانة هو في الحقيقة طهارةٌ وأمانة، ولا الجريمة ولا الغش ولا الخداع إلا أن تأذَن المرأة لزوجها الذي تَكرهه بالإلمام بها إلمامَ الأزواج بنسائهم؛ ما دامت لا تحبُّه ولا تألف عِشرته، وقالت: لو أدرك الناسُ أسرار الديانات وأغراضَها لعرَفوا أنها متفقة في هذه المسألة مع الشرائع الطبيعية، وأنها ربما تَعُدُّ المرأة في بيت زوجها زانية، وفي بيت عشيقها طاهرة، إذا كانت تكره الأوَّل.

هذا ملخَّص القصة على طولها، وأحسبها قصةً موضوعة؛ على نحوِ ما يضَع الكتَّابُ القصص الخيالية لنشر رأيٍ من الآراء، أو تأييد مذهبٍ من المذاهب؛ لأن الكاتب قد أعذَر تلك الفتاةَ فيما فعلَت، واقتنع بصحة أقوالها وصحة مذهبِها، وأَعْداها على زوجها، وقضى لها فيما كان بينهما.

وسواءٌ أكانت القصةُ حقيقية أم خياليَّة، فالحقَّ أقول: إن الكاتب أخطأ في وضعها، وما كنتُ أحسَب إلا أنَّ مذهبَ الإباحية قد قضى، وانقضى بانقضاء العصور المظلِمة، حتى قرأتُ هذه القصة منشورةً باللغة العربية بين أبناء الأمة العربية، فنالني من الهمِّ والحزن ما اللهُ عالمٌ به[1].

قال ربيع: بهذا النصِّ الرزين تفتَّحَت عيناي، ورفعتُ عني الغِشاوة تجاه (جبران خليل جبران) الذي كنت أظنُّه أروعَ أديب وأجمل كاتب وأكبرَ مبدعٍ جاد به القرنُ العشرون، لكن بعد قراءة هذه المقالة وتقدُّمي في السن والفَهم، صار حالي يقول: الأدب لا يدعو إلى الفاحشة يا جُبران! ولا يجر إلى معصية؛ بل يدعو إلى مكارم الأخلاق، فتطمئنُّ إليه النفوس، وترتاح إليه الأفئدة، وليس سلاحًا يفرِّق جماعات الناس، وروابطَهم الأسرية، ويسفِّه إنسانية الإنسان ويجعل منه حيوانًا يمشي على الأرض بلا قيود، وكأنه خُلق عبَثًا لا يُؤمر ولا يُنهى، كلا؛ بل الأدب هو التعبير عن الحياة أو بعضِها بعبارة جميلة، ودعوة إلى تصفية النفس وتزكيتها، والسموِّ بها إلى مقامٍ تُحمَد عُقباه دنيا وآخرة.

فالأدب باختصار كما يقول زكي مبارك: شريعةٌ ربَّانية لا يصلح لها غيرُ المصطفَين من أرباب القلوب، الأدبُ الحق منحةٌ ربانية يجود بها الله على أرباب القلوب الصادقة.

ثم تعمقتُ أكثر فأكثرَ في التعرف إلى جُبران، وما قال عنه النُّقاد؛ لأنني كنت من صِغَري لا أرضى من الغنيمة بالإياب، فوجدتُ المفكر الأديبَ (أنور الجندي) يقول عنه بصريح العبارة دون أن يُخفيَ اسمه - كما فعل المنفلوطيُّ الذي اتبع قاعدةَ ((ما بالُ أقوامٍ))، وهي لا تجوز في حقِّ جبران؛ هذا الذي ملأ الدنيا وشغَل الناس بأدبه الإلحاديِّ المسموم:

لقد حاول جبران - كما حاولَت مدرسة المهجَريِّين - إحياء الفينيقيَّة الوثنية، ومهاجمةَ قيم العروبة والإسلام، فأعادَت وأحيَت كل ما ردَّدَته فلسفاتُ زرادشت والمجوسية ووثنية اليونان والرومان؛ هربًا وراء فرويد ونيتشه وغيرهما، وكان هذا كلُّه مَصوغًا في إطار التوراة وأسلوبها.

ويقول:
الواقع أن الأدب المهجريَّ قد اعتمد على مصدر أساسي، هو الحملة العنيفة على الدينِ واللغة، ومقوِّمات المجتمع العربي الإسلامي، والثورة على كل القيم والعقائد والإفراط في الإباحيَّة، ومهاجمة القيم الأخلاقية في الحب والزواج من إدخال أسلوب جديد مستغرَبٍ يُصادم الحسَّ الإسلامي، ويعارض مفاهيم البلاغة، ويُعلي من صيغة التوراة والمَجاز الغربي[2].

أما الناقد الكبير عبداللطيف شراره فإنني وجدته يقول: وثمة مفكِّر ألماني: فريدريخ نيتشه - المتوفَّى سنة 1900م - صعق جبرانَ حين اطَّلع على آرائه واتجاهاته الأخلاقية، فأخذ يَدور في فلَكِه الفكري، ويَدعو غيرَه إلى اتباعه...

إلى أن يقول بعد أن ذكر ثلاثةَ أساتذة غربيين تتلمَذ لهم:
بيد أن جبران ظلَّ في أصوله واتجاهاته العامة شرقيًّا عربيًّا إنسانيًّا، رغم جنوحه للتطرف؛ إذ كان يقول: "أنا متطرفٌ؛ لأن من يعتدل في إظهار الحق يبيِّن نصفه ويَبقى نصفُه الآخر محجوبًا وراءَ خوفه من ظنون الناس وتَقوُّلاتهم".
يتبع


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 20.58 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 19.95 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (3.05%)]