عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 19-09-2022, 10:17 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,726
الدولة : Egypt
افتراضي ابن المقفع والثالوث القديم

ابن المقفع والثالوث القديم


د. أسعد بن أحمد السعود







توطئة:
جاءت الآيات الكريمات في مطلع سورة الروم قول الله تبارك وتعالى: ﴿ الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴾ [الروم: 1- 5].

سورةُ الرومِ المباركةُ هذه نزَلَت على النبيِّ العربي في مكَّة قبل الهجرة، وزمَنَ نزولها كان مغمورًا بأحداثٍ عظيمة، آنَذاك تواترَت أنباؤها سِراعًا وتِباعًا، مُترافقة بشدٍّ عنيفٍ للأعصاب تارة، وبارتخائها وهدوئها تارة أخرى، تتخلَّلها فرحةٌ من هنا، وشماتة من هناك؛ على شاكلة الحدث ذاتِه وبقوَّته، سيَّما وأن طرَف النَّبأ الأهمِّ الذي افتَتَحَت به السورةُ المباركة خبَرَها: ﴿ غُلِبَتِ الرُّومُ ﴾ كانت هي أمَّة الروم المعروفة آنذاك من قِبَل كل العرب في الجزيرة عامة، وقريشٍ خاصة.

لَم تذكر السُّورة حينَها مَن هو الطرف الآخر (صاحب الغَلبة)، وحين تستمرُّ السورة في تلاوة نبَأِها تُخبر بالسياق ذاته أن الغلبة سوف تكون للروم في جولة قادمة؛ ﴿ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ﴾، كذلك لم تخبر السورة هنا من هو الطرف الآخر الذي سيُغلَب.

ومن خلال معرفتنا بحياة أولئك الذين عاشوا أيام تلك الأحداث، وهم الذين نزلَت هذه الآيات عليهم وبين ظهرانَيهم (النبيُّ العربي والذين آمَنوا به وصدَّقوه) نجد أنَّهم أخبَرونا أن الطرف الآخر الغائبَ عن الذِّكر كانت الفُرْس، التي كانت تقتسم العربَ أغلبَ شؤونهم، وهي معروفة لديهم أشدَّ المعرفة.


مما سبق ندوِّن المعلومات التالية:
1- كان هناك طرَفَا احترابٍ أو صراع؛ هما الروم والفرس.

2- كان هناك طرَفَا غلَبةٍ مُتبادَلة، مصدرها قوَّة إحداهما في كلِّ جولةِ احتراب.

3- هناك طرَف متنازَعٌ عليه أو به، ذكَرَته الآياتُ للإشارة إليه، ولتوثيق وُجوده مِن قِبَل المؤمنين، ولم يَعلم به أيٌّ من طرَفي الاحتراب آنَذاك؛ الروم، أو الفرس، وهو ما أعلمَتْنا به العبارة من الآية: ﴿ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ ﴾.

4- في غياب العلم بأنَّ الأمر مِن قبلُ ومن بعدُ لله، فإذًا على ماذا كان يعتمد طرَفَا الاحتراب في تدبير شؤون الاحتراب والإعداد له، وغيره من الشُّؤون الحياتية الأخرى، خلال أيام الحرب وأيام السلم؟ فالاستعداد يعمُّ الدولة بكل مؤلفاتها ومكونات تشكيلاتها العمودية والأفقية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية، سيَّما وأنهما كانتا تشكِّلان في ذلك الزمان إمبراطوريَّتَين توسُّعيتَين قاهرتَين لشعوب أخرى، مختلفةٍ معهما في العِرْق والاعتقاد والاجتماع.

إنَّ مصادر الميثلوجيا لكلا الأمَّتين تقول: إنهما كانا يعتمدان على (العقل) في ذلك اعتمادا اعتقاديًّا مقدَّسًا، وإن كان هذا الاعتقاد يأتي في غالب العصور السَّابقة واللاحقة بأسماءٍ متعددةٍ لا تختلف في مدلولاتِها الجوهرية أبدًا.

5- إن أبسط الاصطلاحات التي نستخدمها في تفسير معنى ﴿ غُلِبَتْ ﴾ و﴿ سَيَغْلِبُونَ ﴾ هو المصطلَح الملائم والمتوافق للاحتراب والصِّراع في استخدام القوَّة أولاً، و(الخدعة) أو (الحيلة) أو (الدهاء) أو (التدبير) ثانيًا، وهذه جلُّها من منظومة نشاطات العقل بكل مستوياتها.

6- كلمة ﴿ مِنْ قَبْلُ ﴾ و﴿ مِنْ بَعْدُ ﴾ التي ذكرَتها الآيةُ تدلُّ على الزمن الغيبي؛ أي: في مفهوم الاعتقاد تتحوَّل مع تَنامي درجة التفكير بها، واقترانها مع نشاطات العقل إلى (دينٍ)؛ أي: نهج واعتقاد.

7- كل عقل في (نشاطه) يغور في الزمن الأول ﴿ مِنْ قَبْلُ ﴾؛ (الذَّاكرة، ومِن ثَم يصبح تاريخًا)، ويغور أيضًا في الزمن الثاني ﴿ مِنْ بَعْدُ ﴾، وهو يشمل عِلم الغيب، فمَن يستلب الضرورات في الاحتراب مثلاً (الخدعة- الحيلة- الدهاء- التدبير) بالإضافة إلى القوة، ومن دون أن يعرف ماهية الميل إن كان حقًّا له أم لا، دائمًا أم راهنًا؛ فإن كفَّة الغلَبة تميل إليه.

8- بإيجاز: سورة الروم المباركةُ ذكرَت كلمة الروم بالاسم خاصَّة للنبيِّ العربي والذين آمنوا به حينها؛ وذلك للسبب المباشر: أنها كانت أمَّة ذاتَ دين إلهي، ولها زمن ﴿ مِنْ قَبْلُ ﴾ (دين النبيِّ عيسى عليه السلام) وقد غيَّبت وبدَّلت نشاطات اعتقادها عنه في كل مستويات حياتها اليوميَّة، واستبدلت به نَشاط العقل؛ بالاعتماد على القوة الماديَّة فقط، فأولت الزَّمن ﴿ مِنْ بَعْدُ ﴾ إليها، وكان أمر الله هذا هو لله بعِلمه الغيبيِّ من دون أن تُدرك الروم ذلك، وأن الأمر معنيٌّ مباشرة باقترانه (فعلاً وعملاً) بالحياة اليومية بكل شؤونها ومَرافقها.

وأما الأمة الأخرى (الفُرس) فلم تكن ذات دين إلهي، ولم يكن لها نبي مرسَل مِن قبل، ولكن الأمر لله من قبل حين تدبَّرَت الفرس أسباب الغلبة؛ باعتمادها على (النيروز)؛ النار التي يعبدونها، وكانت لهم دينًا واعتقادًا يستمدُّون منها التفكير بالزمن الماضي، فأوهمت بالنَّصر الراهن وكان ظلمًا وليس حقًّا، وهذا أمر الله ﴿ مِنْ بَعْدُ ﴾؛ ليكون استلهامًا لنشاطات عقل الأمة، الذاكرة والتاريخ ذات الدين الإلهي (الروم) القائم على الحق الدائم، وليس الراهن، وإعداد القوَّة للجولة القادمة، ﴿ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ ﴾ [الروم: 4، 5].

9- مما سبق نجد المؤشرات التالية:
أوَّلاً- أمَّة الفُرس: اتخذت عناصرَ غلبتها على الروم عناوينَ دائمة، وأصبحَت لها نهجًا، وظنَّت أنها قد امتلكت أسباب نصر دائم هو حق لها في التوسُّع والظلم في كل اتجاه، وبالتالي أبقَتْها، وأعدتها أركان قيامها واستمرار وجودها، وهي:
العقل (النيروز)- القوة- العِرْق (الفرس).
وقد أطلَقت على هذه الأركان في الميثولوجيا الفارسية (الثالوث) الفارسي.




يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 20.49 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 19.86 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (3.06%)]