
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (359)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 131 إلى صـ 138
[ ص: 131 ] وأظهر قولي أهل العلم عندنا أن المكي إذا أراد الإحرام بالقران ، أحرم به من مكة ; لأنه يخرج في حجه إلى عرفة ، فيجمع بين الحل والحرم ، خلافا لمن قال : يلزم المكي إنشاء إحرامه من أدنى الحل وكذلك الآفاقي ، إذا كان في مكة ، وأراد أن يحرم قارنا ، فالأظهر أنه يحرم بالقران من مكة ، خلافا لمن قال : يحرم به من أدنى الحل لما بينا . والعلم عند الله تعالى .
وإذا عرفت الشروط التي بها يجب دم التمتع والقران ، فاعلم أنا أردنا هنا أن نبين ما يجزئ فيه ، فالتحقيق أنه ما تيسر من الهدي ، وأقله شاة تجزئ ضحية ، وأعلاه بدنة ، وأوسطه بقرة ، والتحقيق أن سبع بدنة أو بقرة يكفي ، فلو اشترك سبعة من المتمتعين في بدنة أو بقرة وذبحوها أجزأت عنهم ، للنصوص الصحيحة الدالة على ذلك ; كحديث جابر الثابت في الصحيح قال : " أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بدنة " وفي لفظ لمسلم قال : " اشتركنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحج والعمرة كل سبعة منا في بدنة " ، فقال رجل لجابر : أيشترك في البقرة ما يشترك في الجزور ؟ فقال : ما هي إلا من البدن .
قال مسلم في صحيحه : حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا مالك ( ح ) ، وحدثنا يحيى بن يحيى . واللفظ له ، قال : قرأت على مالك عن أبي الزبير ، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال : " نحرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة " . وفي لفظ لمسلم عن جابر قال : " خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مهلين بالحج ، فأمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نشترك في الإبل والبقر ، كل سبعة منا في بدنة " وفي لفظ له عنه أيضا ، قال : " حججنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنحرنا البعير عن سبعة والبقرة عن سبعة " . وفي لفظ له عنه أيضا قال : " اشتركنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحج والعمرة ، كل سبعة في بدنة " فقال رجل لجابر : أيشترك في البدنة ما يشترك في الجزور ؟ قال : ما هي إلا من البدن ، وحضر جابر الحديبية ، قال : " نحرنا يومئذ سبعين بدنة اشتركنا كل سبعة في بدنة " . وفي لفظ له عنه ، وهو يحدث عن حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " فأمرنا إذا أحللنا أن نهدي ويجتمع النفر منا في الهدية " ; وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجهم في هذا الحديث . وفي لفظ له عنه أيضا قال : " كنا نتمتع مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنذبح البقرة ، عن سبعة نشترك فيها " . انتهى محل الغرض من صحيح مسلم .
وهذه الروايات الصحيحة تدل : على أن دم التمتع يكفي فيه الاشتراك بالسبع في بدنة ، أو بقرة ، ويدل على أن ذلك داخل فيما استيسر من الهدي . أما الشاة والبدنة كاملة [ ص: 132 ] فإجزاء كل منهما لا إشكال فيه . وقال البخاري في صحيحه : حدثنا إسحاق بن منصور ، أخبرنا النضر ، أخبرنا شعبة ، حدثنا أبو جمرة قال : سألت ابن عباس - رضي الله عنهما - عن المتعة ؟ فأمرني بها ، وسألته عن الهدي فقال : فيها جزور أو بقرة ، أو شاة ، أو شرك في دم . الحديث . فقوله : أو شرك في دم : يعني به ما بينته الروايات المذكورة الصحيحة . عن جابر أن البدنة والبقرة كلتاهما تكفي عن سبعة من المتمتعين ، وقال ابن حجر في شرح هذا الحديث : وهذا موافق لما رواه مسلم عن جابر قال : " خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مهلين بالحج فأمرنا أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بدنة " ، ثم قال وبهذا قال الشافعي والجمهور ، سواء كان الهدي تطوعا أو واجبا ، وسواء كانوا كلهم متقربين بذلك ، أو كان بعضهم يريد التقرب ، وبعضهم يريد اللحم . وعن أبي حنيفة : يشترط في الاشتراط أن يكونوا كلهم متقربين بالهدي ، وعن زفر مثله بزيادة : أن تكون أسبابهم واحدة ، وعن داود وبعض المالكية : يجوز في هدي التطوع ، دون الواجب ، وعن مالك : لا يجوز مطلقا انتهى منه .
والتحقيق أن سبع البدنة وسبع البقرة كل واحد منهما يقوم مقام الشاة ، ويدخل في عموم : فما استيسر من الهدي ، والروايات الصحيحة التي ذكرنا حجة على كل من خالف ذلك كمالك ومن وافقه ، وما احتج به إسماعيل القاضي لمالك ، من أن الاشتراك في الهدي ، لا يصح من أن حديث جابر ، إنما كان بالحديبية ، حيث كانوا محصرين . وأن حديث ابن عباس خالف فيه أبو جمرة عنه ثقات أصحابه ، فرووا عنه أن ما استيسر من الهدي : شاة ، ثم ساق ذلك عنهم بأسانيد صحيحة مردودة . أما دعوى أن حديث جابر إنما كان بالحديبية ، حيث كانوا محصرين ، فهي مردودة ، بما ثبت في الروايات الصحيحة في مسلم التي سقناها بألفاظها : أنهم اشتركوا الاشتراك المذكور معه - صلى الله عليه وسلم - أيضا في حجه ، ولا شك أن المراد بحجه حجة الوداع ; لأنه لم يحج بعد الهجرة حجة غيرها . وفي بعض الروايات الصحيحة ، عند مسلم التي سقناها بألفاظها آنفا التصريح بوقوع الاشتراك في الحجة المذكورة ، كما هو واضح من ألفاظ مسلم التي ذكرناها . وأما دعوى مخالفة أبي جمرة في ذكره الاشتراك المذكور ثقات أصحاب ابن عباس ، فهي مردودة أيضا ، بما ذكره ابن حجر في " الفتح " ، حيث قال : وليس بين رواية أبي جمرة ، ورواية غيره منافاة ; لأنه زاد عليهم ذكر الاشتراك ، ووافقهم على ذكر الشاة ، وإنما أراد ابن عباس بالاقتصار على الشاة الرد على من زعم اختصاص الهدي بالإبل والبقر . وذلك واضح فيما سنذكره بعد هذا ، إلى [ ص: 133 ] أن قال : وبهذا تجتمع الأخبار ، وهو أولى من الطعن في رواية من أجمع العلماء على توثيقه ، وهو أبو جمرة الضبعي . وقد روي عن ابن عمر أنه كان لا يرى التشريك ، ثم رجع عن ذلك لما بلغته السنة ، وذكر ابن حجر رجوع ابن عمر عن ذلك ، عن أحمد بسنده من طريق الشعبي ، عن ابن عمر .
وأظهر قولي أهل العلم عندي أن البدنة لا تجزئ عن أكثر من سبعة ، وذكر ابن حجر في " الفتح " ، عن سعيد بن المسيب في إحدى الروايتين عنه : أنها تجزئ عن عشرة . قال : وبه قال إسحاق بن راهويه ، وابن خزيمة من الشافعية . واحتج لذلك في صحيحه ، وقواه واحتج له ابن خزيمة بحديث رافع بن خديج : " أنه - صلى الله عليه وسلم - قسم فعدل عشرا من الغنم ببعير " ، الحديث . وهو في الصحيحين .
وأجمعوا على أن الشاة : لا يصح الاشتراك فيها ، وقوله : " أو شاة " هو قول جمهور العلماء . ورواه الطبري وابن أبي حاتم بأسانيد صحيحة عنهم ، ورويا بإسناد قوي عن القاسم بن محمد ، عن عائشة ، وابن عمر : أنهما كانا لا يريان ( فما استيسر من الهدي ) : إلا من الإبل والبقر ، ووافقهما القاسم ، وطائفة . قال إسماعيل القاضي في الأحكام له : أظن أنهم ذهبوا إلى ذلك لقوله تعالى : والبدن جعلناها لكم من شعائر الله [ 22 \ 36 ] فذهبوا إلى تخصيص ما يقع عليه اسم البدن ، قال : ويرد هذا قوله تعالى : هديا بالغ الكعبة [ 5 \ 95 ] وأجمع المسلمون على أن في الظبي شاة ، فوقع عليها اسم هدي .
قلت : قد احتج بذلك ابن عباس ، فأخرج الطبري بإسناد صحيح إلى عبد الله بن عبيد بن عمير قال : قال ابن عباس : الهدي شاة . فقيل له في ذلك ، فقال : أنا أقرأ عليكم من كتاب الله ما تقرون به ، ما في الظبي ؟ قالوا : شاة ، قال : فإن الله يقول : هديا بالغ الكعبة . اهـ من فتح الباري .
وقد قدمنا في سورة " البقرة " : أنه ثبت في الصحيحين ، عن عائشة أنها قالت : " أهدى - صلى الله عليه وسلم - مرة غنما " ، وهو نص صحيح عنها صريح في تسمية الغنم هديا كما ترى .
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لي أنه هو الصواب في هدي التمتع ، الذي نص الله في كتابه على أنه ما استيسر من الهدي : أنه شاة ، أو بدنة ، أو بقرة . ويكفي في ذلك سبع البدنة وسبع البقرة ، عن المتمتع الواحد ، وتكفي البدنة عن سبعة متمتعين لثبوت الروايات الصحيحة بذلك ، ولم يقم من كتاب الله ، ولا سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - نص [ ص: 134 ] صريح في محل النزاع يقاومها ، ورواية جابر أن البدنة تكفي في الهدي ، عن سبعة أخص في محل النزاع من حديث رافع بن خديج : " أنه - صلى الله عليه وسلم - جعل البعير في القسمة يعدل عشرا من الغنم " ; لأن هذا في القسمة ، وحديث جابر في خصوص الهدي ، والأخص في محل النزاع مقدم على الأعم ، والعلم عند الله تعالى .
ومما يوضح ذلك ما ذكره ابن حجر في " الفتح " في شرح حديث رافع المذكور ، وقد أورده البخاري في كتاب الذبائح ، عن رافع بن خديج بلفظ ، قال : " كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بذي الحليفة فأصبنا إبلا وغنما ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - في أخريات الناس فعجلوا فنصبوا القدور ، فدفع النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم فأمر بالقدور فأكفئت ، ثم قسم فعدل عشرا من الغنم ببعير فند منها بعير " ، الحديث .
ونص كلام ابن حجر في هذا الحديث : وهذا محمول على أن هذا كان قيمة الغنم إذ ذاك ، فلعل الإبل كانت قليلة ، أو نفيسة ، والغنم كانت كثيرة ، أو هزيلة بحيث كانت قيمة البعير عشر شياه ، ولا يخالف ذلك القاعدة في الأضاحي ، من أن البعير يجزئ عن سبع شياه ; لأن ذلك هو الغالب في قيمة الشاة والبعير المعتدلين . وأما هذه القسمة ، فكانت واقعة عين ، فيحتمل أن يكون التعديل لما ذكر من نفاسة الإبل ، دون الغنم .
وحديث جابر عند مسلم صريح في الحكم ، حيث قال فيه : " أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نشترك في الإبل والبقر ، كل سبعة منا في بدنة " والبدنة تطلق على الناقة ، والبقرة .
وأما حديث ابن عباس : " كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر فحضر الأضحى فاشتركنا في البقرة تسعة ، وفي البدنة عشرة " فحسنه الترمذي وصححه ابن حبان ، وعضده بحديث رافع بن خديج هذا . والذي يتحرر في هذا أن الأصل أن البعير بسبع ما لم يعرض عارض من نفاسة ، ونحوها ، فيتغير الحكم بحسب ذلك ، وبهذا تجتمع الأخبار الواردة في ذلك ، ثم الذي يظهر من القسمة المذكورة ، أنها وقعت فيما عدا ما طبخ وأريق من الإبل والغنم ، التي كانوا غنموها ، ويحتمل إن كانت الواقعة تعددت أن تكون القصة التي ذكرها ابن عباس ، أتلف فيها اللحم لكونه كان قطع للطبخ ، والقصة التي في حديث رافع طبخت الشياه صحاحا مثلا ، فلما أريق مرقها ضمت إلى الغنم لتقسم ، ثم يطبخها من وقعت في سهمه ، ولعل هذا هو النكتة في انحطاط قيمة الشياه ، عن العادة ، والله أعلم . انتهى كلام ابن حجر .
[ ص: 135 ] وكون اللحم رد ليطبخه من وقع في سهمه مرة أخرى ، غير ظاهر عندي ، والله أعلم .
وحديث رافع المذكور : أخرجه أيضا مسلم في كتاب : الصيد والذبائح ، ولفظ المراد منه عن رافع قال : " كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذي الحليفة من تهامة فأصبنا غنما وإبلا فعجل القوم فأغلوا بها القدور فأمر بها فكفئت ، ثم عدل عشرا من الغنم بجزور " .
والحاصل أن أخص شيء في محل النزاع وأصرحه فيه ، وأوضحه فيه حديث جابر ، الذي ذكرنا روايته عند مسلم . أما حديث رافع ، فهو في قسمة الغنيمة لا في الهدي . وأما حديث ابن عباس ، فظاهره أنه في الضحايا ، وعلى كل حال : فحديث جابر أصح منه ، فالذي يظهر أن المتمتع يكفيه سبع بدنة ، وأن النص الصريح الوارد بذلك ينبغي تقديمه ، على أنه يكفيه عشر بدنة ، وقد رأيت أدلة القولين . والعلم عند الله تعالى .
فإذا علمت أقوال أهل العلم في تعيين القدر المجزئ في هدي التمتع ، والقران ، وأن أظهر الأقوال أن أقله شاة ، أو سبع بدنة أو بقرة ، وأن إجزاء البدنة الكاملة ، لا نزاع فيه .
فاعلم أن أهل العلم اختلفوا في وقت وجوبه ، ووقت نحره ، وهذه تفاصيل أقوالهم وأدلتها ، وما يرجحه الدليل منها .
أما مذهب مالك فالتحقيق فيه أن هدي التمتع والقران لا يجب وجوبا تاما إلا يوم النحر بعد رمي جمرة العقبة ; لأن ذبحه في ذلك الوقت هو الذي فعله - صلى الله عليه وسلم - وقال : " لتأخذوا عني مناسككم " ، ولذا لو مات المتمتع يوم النحر ، قبل رمي جمرة العقبة ، لا يلزم إخراج هدي التمتع من تركته ; لأنه لم يتم وجوبه ، وهذا هو الصحيح المشهور في مذهب مالك ، وقد كنت قلت في نظمي في فروع مالك ، وفي الفرائض على مقتضى مذهبه في الكلام على ما يخرج من تركة الميت ، قبل ميراث الورثة بعد أن ذكرت قضاء ديونه :
وأتبعن دينه بهدي تمتع إن مات بعد الرمي
واعلم أن قول من قال من المالكية : إنه يجب بإحرام الحج ، وأنه يجزئ قبله كما هو ظاهر قول خليل في مختصره ، الذي قال في ترجمته مبينا لما به الفتوى : ودم التمتع يجب بإحرام الحج ، وأجزأ قبله ، قد اغتر به بعض من لا تحقيق عنده بالمذهب المالكي ، والتحقيق أن الوجوب عندهم برمي جمرة العقبة ، وبه جزم ابن رشد وابن العربي ، وصاحب [ ص: 136 ] الطراز وابن عرفة ، قال ابن عرفة : سمع ابن القاسم : إن مات ، يعني المتمتع قبل رمي جمرة العقبة ، فلا دم عليه .
ابن رشد : لأنه إنما يجب في الوقت ، الذي يتعين فيه نحره ، وهو بعد رمي جمرة العقبة ، فإن مات قبله لم يجب عليه .
ابن عرفة : قلت : ظاهره لو مات يوم النحر قبل رميه : لم يجب ، وهو خلاف نقل النوادر ، عن كتاب محمد عن ابن القاسم ، وعن سماع عيسى : من مات يوم النحر ، ولم يرم فقد لزمه الدم ، ثم قال ابن عرفة : فقول ابن الحاجب : يجب بإحرام الحج يوهم وجوبه على من مات قبل وقوفه ، ولا أعلم في سقوطه خلافا .
ولعبد الحق ، عن ابن الكاتب ، عن بعض أصحابنا : من مات بعد وقوفه ، فعليه الدم . انتهى من الحطاب .
فأصح الأقوال الثلاثة ، وهو المشهور : أنه لا يجب على من مات ، إلا إذا كان موته بعد رمي جمرة العقبة ، وفيه قول بلزومه ، إن مات يوم النحر قبل الرمي ، وأضعفها أنه يلزمه ، إن مات بعد الوقوف بعرفة . أما لو مات قبل الوقوف بعرفة ، فلم يقل أحد بوجوب الدم عليه من عامة المالكية ، وقول من قال منهم : إنه يجب بإحرام الحج لا يتفرع عليه من الأحكام شيء ، إلا جواز إشعاره وتقليده ، وعليه فلو أشعره ، أو قلده قبل إحرام الحج ، كان هدي تطوع ، فلا يجزئ عن هدي التمتع ، فلو قلده ، وأشعره بعد إحرام الحج أجزأه ; لأنه قلده بعد وجوبه : أي بعد انعقاد الوجوب في الجملة ، وعن ابن القاسم : أنه لو قلده وأشعره قبل إحرام الحج ، ثم أخر ذبحه إلى وقته : أنه يجزئه عن هدي التمتع ، وعليه فالمراد بقول خليل : وأجزأ قبله أي : أجزأ الهدي الذي تقدم تقليده ، وإشعاره على إحرام الحج هذا هو المعروف عند عامة علماء المالكية . فمن ظن أن المجزئ هو نحره قبل إحرام الحج ، أو بعده قبل وقت النحر . فقد غلط غلطا فاحشا .
قال الشيخ المواق في شرحه قول خليل " وأجزأ قبله " ما نصه : ابن عرفة يجزئ تقليده ، وإشعاره بعد إحرام حجه ، ويجوز أيضا قبله على قول ابن القاسم . انتهى منه .
وقال الشيخ الحطاب في شرحه لقول خليل في مختصره : ودم التمتع يجب بإحرام الحج وأجزأ قبله ما نصه :
فإن قلت : إذا كان هدي التمتع إنما ينحر بمنى ، إن وقف به بعرفة ، أو بمكة بعد ذلك على ما سيأتي فما فائدة الوجوب هنا ؟
[ ص: 137 ] قلت : يظهر في جواز تقليده ، وإشعاره بعد الإحرام بالحج ، وذلك أنه لو لم يجب الهدي حينئذ مع كونه يتعين بالتقليد ، لكان تقليده إذ ذاك قبل وجوبه ، فلا يجزئ إلا إذا قلد بعد كمال الأركان .
وقال الشيخ الحطاب أيضا : والحاصل أن دم التمتع والقران ، يجوز تقليدهما قبل وجوبهما على قول ابن القاسم ، ورواية عن مالك ، وهو الذي مشى عليه المصنف . فإذا علم ذلك فلم يبق للحكم بوجوب دم التمتع بإحرام الحج فائدة تعم على القول بأنه لا يجزئه ما قلده قبل الإحرام بالحج تظهر ثمرة الوجوب في ذلك ، ويكون المعنى : أنه يجب بإحرام الحج ، وجوبا غير متحتم ; لأنه معرض للسقوط بالموت ، والفوات ، فإذا رمى جمرة العقبة تحتم الوجوب ، فلا يسقط بالموت . كما نقول في كفارة الظهار ، أنها تجب بالعود وجوبا غير متحتم بمعنى أنها تسقط بموت الزوجة وطلاقها فإن وطئ تحتم الوجوب ولزمت الكفارة ، ولو ماتت الزوجة ، أو طلقها إلى أن قال : بل تقدم في كلام ابن عبد السلام في شرح المسألة الأولى أن هدي التمتع إنما ينحر بمنى ، إن وقف به بعرفة ، أو بمكة بعد ذلك إلى آخره ، وهو يدل : على أنه لا يجزئ نحره قبل ذلك والله أعلم ، ونصوص أهل المذهب شاهدة لذلك .
قال القاضي عبد الوهاب في المعونة : ولا يجوز نحر هدي التمتع والقران ، قبل يوم النحر ، خلافا للشافعي ; لقوله تعالى : ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله [ 2 \ 196 ] ، وقد ثبت أن الحلق ، لا يجوز قبل يوم النحر ، فدل على أن الهدي ، لم يبلغ محله إلا يوم النحر ، وله نحو ذلك في شرح الرسالة . وقال في " التلقين " : الواجب لكل واحد من التمتع والقران هدي ينحره بمنى ، ولا يجوز تقديمه قبل فجر يوم النحر ، وله مثله في مختصر عيون المجالس ، ثم قال الحطاب رحمه الله : فلا يجوز الهدي عند مالك ، حتى يحل ، وهو قول أبي حنيفة وجوزه الشافعي : من حين يحرم بالحج . واختلف قوله فيما بعد التحلل من العمرة قبل الإحرام بالحج .
ودليلنا أن الهدي متعلق بالتحلل ، وهو المفهوم من قوله تعالى : ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله انتهى منه . وكلام علماء المالكية بنحو هذا كثير معروف .
والحاصل : أنه لا يجوز ذبح دم التمتع والقران عند مالك وعامة أصحابه قبل يوم النحر ، وفيه قول ضعيف بجوازه بعد الوقوف بعرفة ، وهو لا يعول عليه ، وأن قولهم : أنه [ ص: 138 ] يجب بإحرام الحج ، لا فائدة فيه إلا جواز إشعار الهدي وتقليده بعد إحرام الحج ، لا شيء آخر ، فما نقل عن عياض وغيره من المالكية مما يدل على جواز نحره قبل يوم النحر كله غلط . إما من تصحيف الإشعار والتقليد وجعل النحر بدل ذلك غلطا ، وإما من الغلط في فهم المراد عند علماء المالكية ، كما لا يخفى على من عنده علم بالمذهب المالكي ، فاعرف هذا التحقيق ، ولا تغتر بغيره .
ومذهب الإمام أحمد في وقت وجوبه فيه خلاف ، فقيل : وقت وجوبه هو وقت الإحرام بالحج . قال في " المغني " : وهو قول أبي حنيفة ، والشافعي ; لأن الله تعالى قال : فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي [ 2 \ 196 ] ، وهذا قد فعل ذلك ، ولأن ما جعل غاية فوجود أوله كاف ; كقوله تعالى : ثم أتموا الصيام إلى الليل [ 3 \ 187 ] ، إلى أن قال : وعنه أنه يجب إذا وقف بعرفة . قال : وهو قول مالك واختيار القاضي ، ووجه في المغني هذا القول بأنه قبل الوقوف لا يعلم أيتم حجه أو لا ; لأنه قد يعرض له الفوات ، فلا يكون متمتعا ، فلا يجب عليه دم ، وذكر عن عطاء وجوبه برمي جمرة العقبة .
وعن أبي الخطاب يجب إذا طلع فجر يوم النحر ، ثم قال في " المغني " : فأما وقت إخراجه فيوم النحر ، وبه قال : مالك ، وأبو حنيفة : لأن ما قبل يوم النحر لا يجوز فيه ذبح الأضحية ، فلا يجوز فيه ذبح هدي التمتع ، ثم قال : وقال أبو طالب : سمعت أحمد قال في الرجل يدخل مكة في شوال ، ومعه هدي قال : ينحر بمكة ، وإن قدم قبل العشر ينحره لا يضيع أو يموت أو يسرق . وكذلك قال عطاء : وإن قدم في العشر لم ينحره حتى ينحره بمنى ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه قدموا في العشر ، فلم ينحروا ، حتى نحروا بمنى ، ومن جاء قبل ذلك نحره عن عمرته ، وأقام على إحرامه ، وكان قارنا . انتهى محل الغرض منه . وسترى ما يرد هذا إن شاء الله تعالى .
وقال صاحب " الإنصاف " : يلزم دم التمتع ، والقران بطلوع فجر يوم النحر على الصحيح من المذهب ، وجزم به القاضي في الخلاف ، ورد ما نقل عنه خلافه إليه وجزم به في البلغة ، وقدمه في " الهداية " و " المستوعب " و " الخلاصة " ، و " التلخيص " ، و " الفروع " ، و " الرعايتين " ، و " الحاويين " ، وعنه يلزم الدم إذا أحرم بالحج ، وأطلقهما في المذهب ، و " مسبوك الذهب " وعنه يلزم الدم بالوقوف وذكره المصنف والشارح اختيار القاضي .
