عرض مشاركة واحدة
  #8  
قديم 11-09-2022, 01:00 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,405
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (356)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 107 إلى صـ 114





[ ص: 107 ] هذا هو حاصل مذهب أبي حنيفة في المسألة .

وأما مذهب أحمد في هذه المسألة فهو : أنه إن فعل محظورات متعددة من جنس واحد ، كما لو حلق مرة بعد مرة ، أو لبس مرة بعد مرة ، أو تطيب مرة بعد مرة : فعليه فدية واحدة ، ولا تتعدد الفدية بتعدد الأسباب ، التي هي من نوع واحد ، سواء كانت في مجلس واحد ، أو مجالس متفرقة ، ومحل هذه ما لم يكفر عن الفعل الأول ، قبل الفعل الثاني . فلو تطيب مثلا ، ثم افتدى ثم تطيب بعد الفدية لزمته فدية أخرى ; لتطيبه بعد أن افتدى .

وعن أحمد : أنه إن كرر ذلك لأسباب مختلفة ، مثل أن لبس للبرد ، ثم لبس للحر ، ثم لبس للمرض فكفارات ، وإن كان لسبب واحد فكفارة واحدة . وقد روى عنه الأثرم فيمن لبس قميصا وجبة وعمامة وغير ذلك لعلة واحدة .

قلت له : فإن اعتل فلبس جبة ، ثم برئ ، ثم اعتل فلبس جبة ، قال : هذا الآن عليه كفارتان قاله في " المغني " ، ثم قال : وعن الشافعي كقولنا ، وعنه لا يتداخل . وقال مالك : تتداخل كفارة الوطء دون غيره ، وقال أبو حنيفة : إن كرره في مجلس واحد فكفارة واحدة ، وإن كان في مجالس فكفارات ; لأن حكم المجلس الواحد حكم الفعل الواحد ، بخلاف غيره ، ولنا أن ما يتداخل إذا كان بعضه عقب بعض ، يجب أن يتداخل ، وإن تفرق كالحدود وكفارة الأيمان ، ولأن الله تعالى أوجب في حلق الرأس : فدية واحدة ، ولم يفرق بين ما وقع في دفعة أو دفعات ، والقول بأنه لا يتداخل غير صحيح ، فإنه إذا حلق رأسه لا يمكن إلا شيئا بعد شيء . انتهى من " المغني " .

وأما إن كانت المحظورات من أجناس مختلفة ، كأن حلق ، ولبس ، وتطيب ، ووطئ فعليه لكل واحد منها فدية ، سواء فعل ذلك مجتمعا أو متفرقا . قال في " المغني " : وهذا مذهب الشافعي .

وعن أحمد أن في الطيب واللبس والحلق فدية واحدة ، وإن فعل ذلك واحدا بعد واحد ، فعليه لكل واحد دم ، وهو قول إسحاق .

وقال عطاء وعمرو بن دينار : إذا حلق ثم احتاج إلى الطيب أو إلى قلنسوة أو إليهما ، ففعل ذلك ، فليس عليه إلا فدية .

وقال الحسن : إن لبس القميص ، وتعمم ، وتطيب فعل ذلك جميعا : فليس عليه إلا كفارة واحدة ، ونحو ذلك عن مالك .

[ ص: 108 ] ولنا أنها محظورات مختلفة الأجناس ، فلم تتداخل أجزاؤها كالحدود المختلفة ، والأيمان المختلفة ، وعكسه ما إذا كان من جنس واحد . انتهى من " المغني " .

وهذا هو حاصل مذهب أحمد في المسألة .

وأما مذهب الشافعي في هذه المسألة : فهو أن المحظورات تنقسم عند الشافعية إلى استهلاك ، كالحلق ، والقلم ، والصيد وإلى استمتاع ، وترفه كالطيب ، واللباس ، ومقدمات الجماع فإذا فعل محظورين ، فله ثلاثة أحوال :

أحدها : أن يكون أحدهما استهلاكا ، والآخر استمتاعا ، فينظر : إن لم يستند إلى سبب واحد ، كالحلق ، ولبس القميص تعددت الفدية كالحدود المختلفة ، وإن استند إلى سبب واحد ، كمن أصابت رأسه شجة ، واحتاج إلى حلق جوانبها ، وسترها بضماد ، وفيه طيب ، ففي تعدد الفدية وجهان ، والصحيح منهما تعددها .

الحال الثاني : أن يكون استهلاكا وهو على ثلاثة أضرب :

الأول : أن يكون مما يقابل بمثله ، وهو الصيد . فتتعدد الفدية بتعدده ، بلا خلاف عندهم ، سواء فدى عن الأول أم لا ، وسواء اتحد الزمان والمكان ، أو اختلفا كضمان المتلفات .

الضرب الثاني : أن يكون أحدهما مما يقابل بمثله ، دون الآخر كالصيد والحلق فتتعدد بلا خلاف . الضرب الثالث : أن لا يقابل واحد منهما بمثله ، فينظر إن اختلف نوعهما كحلق وطيب أو لباس وحلق ، تعددت الفدية ، سواء فرق بينهما أو والى في مكان أو مكانين بفعلين أم بفعل واحد ، وإن لبس ثوبا مطيبا فوجهان عندهم ، الصحيح المنصوص منهما : أن عليه فدية واحدة ، والثاني : عليه فديتان ، وإن اتحد النوع . فإن كرر الحلق ، وكان ذلك في وقت واحد - لزمته فدية واحدة ، كمن يحلق رأسه شيئا بعد شيء في وقت واحد ، ولو طال الزمان ، وهو في أثناء الحلق ، فهو كما لو حلف لا يأكل في اليوم إلا مرة واحدة ، فوضع الطعام ، وجعل يأكل لقمة لقمة من بكرة إلى العصر ، فإنه لا يحنث عندهم .

وأما إن كان الحلق في أمكنة متعددة أو في مكان واحد في أوقات متفرقة ففيه عندهم طريقان . أصحهما : تتعدد الفدية فتفرد كل مرة بحكمها ، فإن كان حلق في كل مرة ثلاث شعرات فصاعدا ، وجب لكل مرة فدية ، وإن كانت شعرة أو شعرتين ، ففيها الأقوال السابقة [ ص: 109 ] الأربعة : وهي أنه قيل في الشعرة الواحدة مد . وقيل : درهم . وقيل : ثلث دم . وقيل : دم كامل وحكم الشعرتين معروف من هذا كما تقدم إيضاحه .

الطريق الثاني : أن في المسألة قولين : بالتعدد ، وعدمه ، وعدم التعدد : هو القديم ، والتعدد : هو الجديد . وإن حلق عندهم ثلاث شعرات في ثلاثة أمكنة أو ثلاثة أزمنة متفرقة ، ففي ذلك عندهم طريقان ، أصحهما ، أنه يفرد كل شعرة بحكمها ، وفيها الأقوال الأربعة الماضية .

والطريق الثاني : هو تفريع ذلك على القول ، بالتداخل وعدمه . فإن قلنا بالتداخل : لزمته فدية كاملة ; لأنه كأنه قطع الشعرات الثلاث في وقت واحد ، وإن قلنا : بعدمه ، وهو الصحيح عندهم ، فلكل شعرة حكمها ، كما تقدم في الطريق الصحيح عندهم . ولو أخذ ثلاث شعرات في وقت واحد من ثلاثة مواضع من بدنه . ففيه عندهم طريقان :

أصحهما : لزوم الفدية ، كما لو أخذها من موضع واحد .

والطريق الثاني : فيه وجهان أحدهما : هذا الذي ذكرناه آنفا .

والثاني : أنه كما لو أزالها في أزمنة متفرقة ، أو أمكنة متفرقة ، فيجري على الخلاف في ذلك وقد قدمنا أن حكم الأظفار عندهم كحكم الشعر .

الحال الثالث : أن يكون استمتاعا ، فإن اتحد النوع بأن تطيب بأنواع من الطيب أو لبس أنواعا من الثياب كعمامة وقميص وسراويل ، وخف أو استعمل نوعا واحدا مرات ، فإن فعل ذلك متواليا من غير أن يتخلله تكفير عن الأول ففدية واحدة تكفي للجميع ، وإن تخلله تكفير وجبت الفدية للثاني أيضا ، وإن فعل ذلك في مكانين ، أو زمانين متفرقين فإن تخللهما تكفير : وجبت الفدية للثاني أيضا ، وإن لم يتخللهما تكفير فقولان ، الأصح عندهم منهما ، وهو الجديد : تعدد الفدية ، والقديم : تتداخل ، ولا تتعدد وإن اختلف النوع ، بأن لبس وتطيب في مجلس واحد ، قبل أن يكفر عن الأول منهما أو فعلهما معا ، ففيه ثلاثة أوجه مشهورة عندهم .

أصحها : تعدد الفدية لاختلاف نوع السبب .

الثاني : تجب فدية واحدة ; لأنهما استمتاع ، فيتداخلان ، لاتحاد الجنس .

الثالث : التفصيل ، فإن اتحد سببهما بأن أصابته شجة ، واحتاج في مداواتها إلى طيب وسترها . لزمته فدية واحدة ، وإن لم يتحد السبب : ففديتان ، وهذا كله في غير [ ص: 110 ] الجماع ، وقد قدمنا حكم تعدد الجماع ، وفيه للشافعية خمسة أقوال :

أصحها : تجب بالجماع الأول : بدنة ، وبالثاني : شاة .

والثاني : تجب بكل جماع بدنة .

الثالث : تكفي بدنة واحدة عن الجميع .

الرابع : إن كفر عن الأول ، قبل الجماع الثاني وجبت الكفارة للثاني : وهي شاة في الأصح ، وبدنة في القول الآخر ، وإن لم يكن كفر عن الأول كفته بدنة عنهما .

والخامس : إن طال الزمان بين الجماعين أو اختلف المجلس : وجبت كفارة أخرى للثاني ، وفيها القولان . وإلا فكفارة واحدة ، وإن وطئ مرة ثالثة ورابعة ، أو أكثر ففيه الأقوال المذكورة ، الأظهر : تجب للأول بدنة ، ولكل جماع بعد ذلك شاة .

والثاني : تجب بكل جماع بدنة إلى آخر الأقوال المذكورة آنفا . هذا هو حاصل مذهب الشافعي في المسألة .

ولنكتف هنا بما ذكرنا من أحكام الحج في الكلام على آية الحج هذه خوف الإطالة المملة .

تنبيهان :

الأول : اعلم أن مسألة الإحصار والفوات وقد قدمنا الكلام عليها مستوفى في سورة " البقرة " ، ومسألة الصيد وجزائه في الإحرام ، أو أحد الحرمين ، وأشجار الحرمين ، ونباتهما ونحو ذلك وصيد وج - قد قدمنا الكلام عليها مستوفى في سورة " المائدة " ، وأحكام الهدي سيأتي تفصيلها إن شاء الله في الآيات الدالة عليها من سورة " الحج " هذه .

التنبيه الثاني : اعلم أن جميع ما ذكرنا في هذا الفصل من تعدد الفدية ، وعدم تعددها ، إذا تعددت أسبابها لا نص فيه من كتاب ولا سنة فيما نعلم ، واختلاف أهل العلم فيه كما ذكرنا من نوع الاختلاف في تحقيق المناط . والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : ليشهدوا منافع لهم . اللام في قوله : ليشهدوا [ 22 \ 28 ] : هي لام التعليل : وهي متعلقة بقوله تعالى : وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر الآية [ 22 \ 27 ] : أي إن تؤذن فيهم يأتوك مشاة وركبانا ، لأجل أن يشهدوا : أي يحضروا منافع لهم ، والمراد بحضورهم المنافع : حصولها لهم .

[ ص: 111 ] وقوله : منافع جمع منفعة ، ولم يبين هنا هذه المنافع ما هي . وقد جاء بيان بعضها في بعض الآيات القرآنية ، وأن منها ما هو دنيوي ، وما هو أخروي ، أما الدنيوي فكأرباح التجارة ، إذا خرج الحاج بمال تجارة معه ، فإنه يحصل له الربح غالبا ، وذلك نفع دنيوي .

وقد أطبق علماء التفسير على أن معنى قوله تعالى : ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم [ 2 \ 198 ] أنه ليس على الحاج إثم ولا حرج ، إذا ابتغى ربحا بتجارة في أيام الحج ، إن كان ذلك لا يشغله عن شيء ، من أداء مناسكه ، كما قدمنا إيضاحه .

فقوله تعالى : ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فيه بيان لبعض المنافع المذكورة في آية " الحج " هذه وهذا نفع دنيوي .

ومن المنافع الدنيوية ما يصيبونه من البدن والذبائح ، كما يأتي تفصيله إن شاء الله قريبا ; كقوله في البدن : لكم فيها منافع إلى أجل مسمى على أحد التفسيرين .

وقوله : فكلوا منها في الموضعين ، وكل ذلك نفع دنيوي ، وفي ذلك بيان أيضا لبعض المنافع المذكورة في آية " الحج " هذه .

وقد بينت آية " البقرة " على ما فسرها به جماعة من الصحابة ومن بعدهم ، واختاره أبو جعفر بن جرير الطبري في تفسيره ، ووجه اختياره له ، بكثرة الأحاديث الدالة عليه : أن من المنافع المذكورة في آية " الحج " غفران ذنوب الحاج ، حتى لا يبقى عليه إثم إن كان متقيا ربه في حجه بامتثال ما أمر به ، واجتناب ما نهي عنه .

وذلك أنه قال : إن معنى قوله تعالى : فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه [ 2 \ 203 ] أن الحاج يرجع مغفورا له ، ولا يبقى عليه إثم ، سواء تعجل في يومين ، أو تأخر إلى الثالث ، ولكن غفران ذنوبه هذا مشروط بتقواه ربه في حجه ، كما صرح به في قوله تعالى : لمن اتقى الآية : أي وهذا الغفران للذنوب ، وحط الآثام إنما هو لخصوص من اتقى .

ومعلوم أن هذه الآية الكريمة فيها أوجه من التفسير غير هذا .

وممن نقل عنهم ابن جرير أن معناها : أنه يغفر للحاج جميع ذنوبه ، سواء تعجل في [ ص: 112 ] يومين ، أو تأخر : علي ، وعبد الله بن مسعود ، وابن عباس ، وابن عمر ، ومجاهد ، وإبراهيم ، وعامر ، ومعاوية بن قرة .

ولما ذكر أقوال أهل العلم فيها قال : وأولى هذه الأقوال بالصحة قول من قال : تأويل ذلك : فمن تعجل من أيام منى الثلاثة ، فنفر في اليوم الثاني ، فلا إثم عليه ، يحط الله ذنوبه إن كان قد اتقى في حجه ، فاجتنب فيه ما أمر الله باجتنابه ، وفعل فيه ما أمر الله بفعله ، وأطاعه بأدائه على ما كلفه من حدوده ، ومن تأخر إلى اليوم الثالث منهن ، فلم ينفر إلى النفر الثاني ، حتى نفر من غد النفر الأول ، فلا إثم عليه ، لتكفير الله ما سلف من آثامه ، وإجرامه إن كان اتقى الله في حجه بأدائه بحدوده .

وإنما قلنا : إن ذلك أولى تأويلاته : لتظاهر الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه " وأنه قال : " تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة " . وساق ابن جرير - رحمه الله - بأسانيده أحاديث دالة على ذلك ففي لفظ له أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " تابعوا بين الحج والعمرة ، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة وليس للحجة المبرورة ثواب دون الجنة " . وفي لفظ له عن عمر يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " تابعوا بين الحج والعمرة ، فإن المتابعة بينهما تنفي الفقر والذنوب كما ينفي الكير الخبث ، أو خبث الحديد " . وفي لفظ له عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا قضيت حجك فأنت مثل ما ولدتك أمك " ، وما أشبه ذلك من الأخبار التي يطول بذكر جميعها الكتاب مما ينبئ عن أن من حج ، فقضاه بحدوده على ما أمره الله ، فهو خارج من ذنوبه كما قال جل ثناؤه فلا إثم عليه لمن اتقى الله في حجه ، فكان في ذلك من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يوضح أن معنى قوله جل وعز : فلا إثم عليه أنه خارج من ذنوبه ، محطوطة عنه آثامه ، مغفورة أجرامه إلى آخر كلامه الطويل في الموضوع .

وقد بين فيه أنه لا وجه لقول من قال : إن المعنى لا إثم عليه في تعجله ، ولا إثم عليه في تأخره ; لأن التأخر إلى اليوم الثالث ، لا يحتمل أن يكون فيه إثم ، حتى يقال فيه : فلا إثم عليه ، وأن قول من قال : إن سبب النزول أن بعضهم كان يقول : التعجل لا يجوز ، وبعضهم يقول : التأخر لا يجوز .

[ ص: 113 ] فمعنى الآية : النهي عن تخطئة المتأخر المتعجل كعكسه : أي لا يؤثمن أحدهما الآخر ، أن هذا القول خطأ ، لمخالفته لقول جميع أهل التأويل .

والحاصل : أنه أعني الطبري بين كثيرا من الأدلة على أن معنى الآية : هو ما ذكر من أن الحاج يخرج مغفورا له ، كيوم ولدته أمه ، لا إثم عليه ، سواء تعجل في يومين ، أو تأخر ، وقد يظهر للناظر أن ربط نفي الإثم في قوله : فلا إثم عليه بالتعجل والتأخر في الآية ، ربط الجزاء بشرطه يتبادر منه أن نفي الإثم إنما هو في التعجل والتأخر ، ولكن الأدلة التي أقامها أبو جعفر الطبري ، على المعنى الذي اختار فيها فيه مقنع ، وتشهد لها أحاديث كثيرة ، وخير ما يفسر به القرآن بعد القرآن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - .

فقوله في آية البقرة هذه : فلا إثم عليه ، هو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : " رجع كيوم ولدته أمه " ، وقوله : لمن اتقى ، هو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : " من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق " ; لأن من لم يرفث ، ولم يفسق ، هو الذي اتقى .

ومن كلام ابن جرير الطويل الذي أشرنا إليه أنه قال ما نصه : فإن قال قائل : ما الجالب للام في قوله : لمن اتقى وما معناها ؟

قيل : الجالب لها معنى قوله : فلا إثم عليه ; لأن في قوله : فلا إثم عليه معنى : حططنا ذنوبه ، وكفرنا آثامه ، فكان في ذلك معنى : جعلنا تكفير الذنوب لمن اتقى في الله حجه ، وترك ذكر " جعلنا تكفير الذنوب " اكتفاء بدلالة قوله : فلا إثم عليه ، وقد زعم بعض نحويي البصرة أنه كأنه إذا ذكر هذه الرخصة ، فقد أخبر عن أمر فقال : لمن اتقى أي هذا لمن اتقى ، وأنكر بعضهم ذلك من قوله : وقد زعم أن الصفة لا بد لها من شيء تتعلق به ; لأنها لا تقوم بنفسها ، ولكنها فيما زعم من صلة قول متروك .

فكان معنى الكلام عنده ما قلنا : من أن من تأخر لا إثم عليه لمن اتقى ، وقام قوله : ومن تأخر فلا إثم عليه مقام القول . انتهى محل الغرض من كلام ابن جرير .

وعلى تفسير هذه الآية الكريمة بأن معنى فلا إثم عليه في الموضعين : أن الحاج يغفر جميع ذنوبه ، فلا يبقى عليه إثم ، فغفران جميع ذنوبه هذا الذي دل عليه هذا التفسير من أكبر المنافع المذكورة في قوله : ليشهدوا منافع لهم وعليه فقد بينت آية " البقرة " هذه بعض ما دلت عليه آية " الحج " ، وقد أوضحت السنة هذا البيان بالأحاديث الصحيحة التي ذكرنا ; كحديث : " من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم [ ص: 114 ] ولدته أمه " . وحديث : " الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة " ، ومن تلك المنافع التي لم يبينها القرآن حديث : " إن الله يباهي بأهل عرفة أهل السماء " الحديث ، كما تقدم . ومن تلك المنافع التي لم يبينها القرآن تيسر اجتماع المسلمين من أقطار الدنيا في أوقات معينة ، في أماكن معينة ليشعروا بالوحدة الإسلامية ، ولتمكن استفادة بعضهم من بعض ، فيما يهم الجميع من أمور الدنيا والدين ، وبدون فريضة الحج ، لا يمكن أن يتسنى لهم ذلك ، فهو تشريع عظيم من حكيم خبير ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام .

قوله : ويذكروا منصوب بحذف النون ; لأنه معطوف على المنصوب بـ " أن " المضمرة بعد لام التعليل ، أعني قوله : ليشهدوا منافع لهم .

وإيضاح المعنى : وأذن في الناس بالحج يأتوك مشاة وركبانا ; لأجل أن يشهدوا منافع لهم ، ولأجل أن يتقربوا إليه بإراقة دماء ما رزقهم من بهيمة الأنعام ، مع ذكرهم اسم الله عليها عند النحر والذبح ، وظاهر القرآن يدل على أن هذا التقرب بالنحر في هذه الأيام المعلومات ، إنما هو الهدايا لا الضحايا ; لأن الضحايا لا يحتاج فيها إلى الأذان بالحج ، حتى يأتي المضحون مشاة وركبانا ، وإنما ذلك في الهدايا على ما يظهر ، ومن هنا ذهب مالك ، وأصحابه إلى أن الحاج بمنى لا تلزمه الأضحية ولا تسن له ، وكل ما يذبح في ذلك المكان والزمان ، فهو يجعله هديا لا أضحية .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 33.11 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 32.48 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.90%)]