عرض مشاركة واحدة
  #7  
قديم 11-09-2022, 12:57 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,405
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (355)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 99 إلى صـ 106






وما ذكره النووي ، عن ابن عمر ومالك : من كراهة الحجامة لغير عذر ، ذكره مالك في " الموطأ " ، عن نافع ، عن ابن عمر بلفظ : أنه كان يقول : " لا يحتجم المحرم إلا مما لا بد منه " وفيه قال مالك : لا يحتجم المحرم إلا من ضرورة ، ولا شك أنها إن أدت إلى قطع شعر من غير حاجة إليها أنها حرام ، وإن كانت لا تؤدي إلى قطع شعر ، فقد وجه المالكية كراهتها المذكورة ، عن مالك وابن عمر بأمرين :

[ ص: 99 ] أحدهما : أن إخراج الدم من الحاج ، قد يؤدي إلى ضعفه ، كما كره صوم يوم عرفة للحاج ، مع أن الصوم أخف من الحجامة ، قالوا : فبطل استدلال المجيز ، بأنه لم يقم دليل على تحريم إخراج الدم في الإحرام ، لأنا لم نقل بالحرمة ، بل بالكراهة لعلة أخرى علمت . قاله : الزرقاني في " شرح الموطأ " .

ومرادهم أن ضعفه بإخراج الدم منه ، قد يؤدي إلى عجزه عن إتمام بعض المناسك .

الأمر الثاني : هو أن الحجامة إنما تكون في العادة ، بشد الزجاج ونحوه ، والمحرم ممنوع من العقد والشد على جسده . قاله : الشيخ سند .

وقال الحطاب في شرحه لقول خليل عاطفا على ما يكره : وحجامة بلا عذر - ما نصه : وأما مع العذر فتجوز ، فإن لم يزل بسببها شعرا ، ولم يقتل قملا فلا شيء عليه ، وإن أزال بسببها شعرا : فعليه الفدية . وذكر ابن بشير قولا بسقوطها قال في التوضيح : وهو غريب ، وإن قتل قملا ، فإن كان كثيرا ، فالفدية ، وإلا أطعم حفنة من طعام . والله سبحانه أعلم ، انتهى منه .

والقول الذي ذكره ابن بشير من المالكية واستغربه خليل في التوضيح بسقوط الفدية مطلقا . ولو أزال بسبب الحجامة شعرا له وجه من النظر ، ولا يخلو عندي من قوة ، والله تعالى أعلم . وإيضاح ذلك أن جميع الروايات المصرحة : " بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - : احتجم في رأسه ، لم يرد في شيء منها أنه افتدى لإزالة ذلك الشعر من أجل الحجامة ، ولو وجبت عليه في ذلك فدية ، لبينها للناس ; لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز .

والاستدلال على وجوب الفدية في ذلك بعموم قوله تعالى : ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية . لا ينهض كل النهوض ; لأن الآية واردة في حلق جميع الرأس ، لا في حلق بعضه ، وقد قدمنا أن حلق بعضه : ليس فيه نص صريح .

ولذلك اختلف العلماء فيه ، فذهب الشافعي : إلى أن الفدية تلزم بحلق ثلاث شعرات فصاعدا . وذهب أحمد في إحدى الروايتين إلى ذلك ، وفي الأخرى : إلى لزومها بأربع شعرات ، وذهب أبو حنيفة : إلى لزومها بحلق الربع ، وذهب مالك : إلى لزومها بحلق ما فيه ترفه ، أو إماطة أذى ، وهذا الاختلاف يدل على عدم النص الصريح في حلق بعض [ ص: 100 ] الرأس ، فلا تتعين دلالة الآية على لزوم الفدية ، في من أزال شعرا قليلا ; لأجل تمكن آلة الحجامة من موضع الوجع ، والله تعالى أعلم .

وممن قال بأن إزالة الشعر عن موضع الحجامة لا فدية فيه : محمد وأبو يوسف صاحبا أبي حنيفة ، بل قالا : في ذلك صدقة ، وقد قدمنا مرارا : أن الصدقة عندهم نصف صاع من بر أو صاع كامل من غيره كتمر وشعير .

والحاصل : أن أكثر أهل العلم منهم الأئمة الأربعة ، على أنه إن حلق الشعر لأجل تمكن آلة الحجامة ، لزمته الفدية على التفصيل المتقدم في قدر ما تلزم به الفدية ، من حلق الشعر كما تقدم إيضاحه . وأن عدم لزومها عندنا له وجه من النظر قوي ، وحكاه ابن بشير من المالكية . وأما إن لم يحلق بالحجامة شعرا ، فقد قدمنا قريبا أقوال أهل العلم فيها ، وتفصيلهم بين ما تدعو إليه الضرورة ، وبين غيره . والعلم عند الله تعالى .

واستدل أهل العلم بأحاديث الحجامة المذكورة ، على جواز الفصد ، وربط الجرح ، والدمل ، وقلع الضرس ، والختان ، وقطع العضو ، وغير ذلك من وجوه التداوي ، إذ لم يكن في ذلك محظور : كالطيب ، وقطع الشعر .

وأما الحك فإن كان في موضع لا شعر فيه فلا ينبغي أن يختلف في جوازه ، وإن كان في موضع فيه شعر كالرأس ، وكان برفق بحيث لا يحصل به نتف بعض الشعر فكذلك ، وإن كان بقوة بحيث يحصل به نتف بعض الشعر ، فالظاهر أنه لا يجوز .

وهذا هو الصواب إن شاء الله في مسألة الحك . ولم أعلم في ذلك بشيء مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - . وإنما فيه بعض الآثار عن الصحابة - رضي الله عنهم - وقد قدمنا قول البخاري ، ولم ير ابن عمر وعائشة بالحك بأسا .

وروى مالك في " الموطأ " عن علقمة بن أبي علقمة ، عن أمه أنها قالت : سمعت عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - تسأل عن المحرم ، أيحك جسده ؟ قالت : نعم فليحككه ، وليشدد ، ولو ربطت يداي ، ولم أجد إلا رجلي لحككت ، ا هـ .

وأما نزع القراد والحلمة من بعيره ، فقد أجازه عمر بن الخطاب ، وكرهه ابن عمر ومالك . وقد روى مالك في " الموطأ " عن يحيى بن سعيد ، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي ، عن ربيعة بن أبي عبد الله بن الهدير : أنه رأى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقرد بعيرا له في طين بالسقيا ، وهو محرم . قال مالك : وأنا أكرهه . وروي أيضا في [ ص: 101 ] " الموطأ " عن نافع : أن عبد الله بن عمر كان يكره أن ينزع المحرم حلمة ، أو قرادا عن بعيره . قال مالك : وذلك أحب ما سمعت إلي في ذلك . وقوله : يقرد بعيره : أي ينزع عنه القراد ويرميه .

وأما تضميد العين بالصبر ونحوه مما لا طيب فيه لضرورة الوجع فلا خلاف فيه بين العلماء ، وأنه لا فدية فيه ، كما أجمعوا على أنه إن دعته الضرورة إلى تضميد العين ونحوها بما فيه طيب . أن ذلك جائز له ، وعليه الفدية .

ومن أدلتهم على جواز تضميد العين بالصبر ونحوه : ما رواه مسلم في صحيحه : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، وعمرو الناقد ، وزهير بن حرب جميعا ، عن ابن عيينة قال أبو بكر : حدثنا سفيان بن عيينة ، حدثنا أيوب بن موسى ، عن نبيه بن وهب قال : خرجنا مع أبان بن عثمان ، حتى إذا كنا بملل اشتكى عمر بن عبيد الله عينيه ، فلما كنا بالروحاء اشتد وجعه ، فأرسل إلى أبان بن عثمان يسأله ، فأرسل إليه : أن اضمدهما بالصبر ، فإن عثمان - رضي الله عنه - حدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الرجل إذا اشتكى عينيه ، وهو محرم ضمدهما بالصبر . وفي لفظ عن مسلم : أن عمر بن عبيد الله بن معمر رمدت عينه ، فأراد أن يكحلها ، فنهاه أبان بن عثمان ، وأمره أن يضمدها بالصبر ، وحدث عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنه فعل ذلك . انتهى من صحيح مسلم .

وأما السواك في الإحرام ، فلا خلاف في جوازه بين أهل العلم .

قال الشيخ الحطاب في شرحه لقول خليل في مختصره : وربط جرحه ما نصه : قال التادلي في مناسك ابن الحاج : وأجمع أهل العلم على أن للمحرم أن يتسوك ، وإن دمي فمه . انتهى .

وقال ابن عرفة الشيخ : روى محمد والعتبي : للمحرم أن يتسوك ، ولو أدمى فاه انتهى ، ثم قال : قلت : لا يلزم من منع القاضي الزينة منع السواك بالجوزاء ونحوه . انتهى والله أعلم . انتهى كلام الحطاب .
فصل فيما تتعدد فيه الفدية ونحوها وما لا يتعدد فيه ذلك وأقوال العلماء فيه

اعلم أولا : أن هذا الفصل يدخل في مسألة كبيرة ، يذكرها علماء الأصول في مبحث الأمر ، وهي : هل الأمر يقتضي التكرار أو لا ؟ وهي ذات واسطة وطرفين ، طرف يتعدد فيه اللازم بلا خلاف ، وطرف لا يتعدد فيه ، بلا خلاف ، وواسطة : هي محل الخلاف ، وهذا البحث أعم مما نحن بصدده ، ولكن إذا تكلمنا عليه على سبيل العموم ، رجعنا إلى [ ص: 102 ] مسألتنا ، فذكرنا فيها كلام أهل العلم ، وأدلتهم ، وناقشناها .

والمسألة المذكورة : هي إذا تعددت الأسباب ، واتحد موجبها بصيغة اسم المفعول ، هل يتعدد الموجب نظرا لتعدد أسبابه أو لا يتعدد نظرا لاتحاده في نفسه ؟ وأشار إلى هذه المسألة في الجملة الشيخ ميارة في " التكميل " بقوله :


إن يتعدد سبب والموجب متحد كفى لهن موجب كناقض سهو ولوغ
والفدا حكاية حد تيمم بدا وذا الكثير والتعدد ورد
بخلف أو وفق بنص معتمد


فقوله : الموجب في الموضعين بصيغة اسم المفعول . وقوله كناقض يعني : أن نواقض الوضوء إن تعددت كمن بال مرات . أو بال ونام وقبل ، فإنه يكفي لجميعها وضوء واحد . وكذلك الجنابة ، إن تعددت أسبابها بوطء مرات ، وإنزال بلذة ، واحتلام ، وانقطاع حيض ، فإنه يكفي لجميع ذلك غسل واحد .

وقوله : سهو يعني : أن من سها في صلاته مرات متعددة ، يكفيه لجميعها سجود سهو واحد .

وقوله : ولوغ يعني : أنه إذا تعدد ولوغ الكلب في الإناء بأن ولغ فيه مرات متعددة أو دلفت فيه كلاب متعددة ، فإنه يكفي لجميع ذلك غسله سبع مرات على نحو ما في الحديث ، ولا يتعدد الغسل بتعدد الولوغ .

وقوله : والفدا يعني : أن من تكرر منه موجب الفدية ، كمن لبس ثوبا مخيطا مطيبا تكفيه فدية واحدة .

قوله : حكاية يعني : أن من سمع أذان جماعة من المؤذنين في وقت واحد ، يكفيه حكاية أذان واحد ، ولا تتعدد حكاية الأذان لتعدد المؤذنين .

وقوله : حد يعني : أن من زنى مرات متعددة قبل أن يقام عليه الحد يكفي حده حدا واحدا ، ولا يتعدد الحد بتعدد الزنى مثلا . أما إذا أقيم عليه الحد ، ثم زنى بعد إقامة الحد ، فإنه يقام عليه الحد لزناه الواقع بعد إقامة الحد .

وقوله : تيمم يعني : أن الجنب مثلا الذي حكمه التيمم ، إذا أراد حمل المصحف وقراءة القرآن فيه يكفيه تيمم واحد ، ولا يلزمه أن يتيمم لكل واحد منهما .

[ ص: 103 ] وقوله : وذا الكثير يعني : أن الكثير في فروع هذه المسألة عدم تعدد الموجب الذي تعددت أسبابه .

وقوله : والتعدد ورد بخلف ، أو وفق يعني : أن تعدد الموجب ، لتعدد أسبابه وارد في الشرع ، وتارة يكون مجمعا على تعدده ، وتارة يكون مختلفا فيه ، فقوله : أو وفق يعني : بالوفق الاتفاق ، ومراده به الإجماع . وقد نظم العلوي الشنقيطي في " نشر البنود شرح مراقي السعود " ما يتعدد بتعدد سببه إجماعا ، وما يتعدد بخلاف في شرحه ; لقوله في " المراقي " :


أو التكرر إذا ما علقا بشرط أو بصفة تحققا


فقال - رحمه الله - :


وما تعدد بوفق غره أو دية ومهر غصب الحره
عقيقة ومهر من لم تعلم والثلث من بعد الخروج فاعلم
والخلف في صاع المصراة وفي كفارة الظهار من نسى يفي
وهدي من نذر نحر ولده غسل إن الولغ يرى بعدده
حكاية المؤذنين وسجود تلاوة وبعد تكفير يعود
قذف جماعة وثلث قبل أن يخرج ثلثا قاله من قد فطن
كفارة اليمين بالله علا لقصد تأسيس من الذي ائتلى


وحاصل كلامه في نظمه : أن الذي يتعدد إجماعا خمس مسائل :

الأولى : أن من ضرب بطن حامل ، فأسقطت جنينين مثلا ، يتعدد الواجب فيهما من غرة أو دية على ما مر تفصيله في سورة " بني إسرائيل " ، وهذا مراده بقوله : وما تعدد بوفق غرة أو دية .

المسألة الثانية : أن من غصب حرة فزنى بها مرات متعددة ، يتعدد عليه مهرها بتعدد الزنى بها .

والثالثة : أن من ولد له توأمان لزمته عقيقتان .

الرابعة : أن من وطئت مرات وهي غير عالمة كالنائمة ، فإنه يتعدد لها المهر بتعدد الوطء .

الخامسة : أن من نذر ثلث ماله فأخرجه ثم نذر بعد ذلك ثلثه ، فإنه يلزمه ، ومراده [ ص: 104 ] بهذا واضح من النظم ، وقد يقال : إن بعض المذكورات ، لا يخلو من خلاف .

أما ما ذكر تعدده على خلاف فيه ، فهو عشر مسائل :

الأولى : صاع المصراة يعني : صاع التمر الذي يرده مع المصراة إذا حلبها ، هل يتعدد بتعدد الشياه المصراة ، أو يكفي عن جميعها صاع واحد ، والأظهر في هذه التعدد .

الثانية : إذا ظاهر من زوجاته الأربع ، هل تتعدد كفارة الظهار بتعددهن ، أو تكفي كفارة واحدة ؟

والثالثة : إذا تكرر منه نذر ذبح ولده ، بأن نذر أنه يذبح اثنين ، أو ثلاثة من ولده ، وقلنا : يلزمه الهدي ، هل يتكرر بتكرر الأولاد المنذور ذبحهم ، أو يكفي هدي واحد ؟

والرابعة : تعدد ولوغ الكلاب في الإناء ، هل يتعدد الغسل سبعا بتعدد الولوغ ، أو يكفي غسله سبعا مرة واحدة ؟

والخامسة : حكاية أذان المؤذنين .

والسادسة : سجود التلاوة ، إذا كرر آية السجود مرارا في وقت واحد ، هل يكفي سجود واحد أو لا ؟

والسابعة : إذا جامع في نهار رمضان ، ثم كفر من حينه ، ثم جامع مرة أخرى في نفس اليوم ، هل تتعدد الكفارة أو لا ؟

والثامنة : إذا قذف جماعة ، هل يتعدد عليه حد القذف بتعددهم ، أو يكفي حد واحد ؟

والتاسعة : إذا نذر ثلث ماله ، ثم نذر ثلثا آخر قبل أن يخرج الثلث الأول هل يلزمه النذر في الثلثين ، أو يكفي واحد ؟

والعاشرة : إذا حلف بالله مرات متعددة ، وقصد بكل يمين التأسيس لا التأكيد ، هل تتعدد الكفارة بتعدد الأيمان ، أو تكفي كفارة واحدة ، هذا هو حاصل مراده بالأبيات .

ولا شك أن المسائل المتفق على تعددها والمختلف فيها أكثر مما ذكر بكثير ، فمن المسائل المتفق على التعدد فيها ، ولم يذكرها من صاد ظبيين مثلا ، وهو محرم فإنه يتكرر عليه الجزاء إجماعا . وما روي عن أحمد من أنه يكفي جزاء واحد ، لا يصح ، كما قاله صاحب " المغني " ; لأنه مخالف لصريح قوله تعالى : فجزاء مثل ما قتل من النعم ; لأن الواحد لا يكون مثلا للاثنين .

[ ص: 105 ] والحاصل : أن هذه المسألة ، إنما تعرف فروعها بالتتبع ، فقد يكفي موجب واحد مع تعدد الأسباب إجماعا ، كتعدد نواقض الوضوء ، وأسباب الجنابة ، وتعدد سبب الحد كالزنى ، وقد يتعدد إجماعا كالمسائل المذكورة آنفا ، وقد يختلف في تعدده ، وعدم تعدده وهذا هو الغالب في فروع هذه المسألة ، خلافا لما قاله الشيخ ميارة في " التكميل " .

فإذا علمت هذه المسألة في الجملة وعلمت أنها عند الأصوليين من المسائل المبنية على مسألة : الأمر هل يقتضي التكرار أو لا يقتضيه ؟ فهذه أقوال أهل العلم ، وأدلتهم في المسألة التي نحن بصددها ، وهي ما تعدد فيه الفدية ونحوها ، بتعدد أسبابها ، وما لا تتعدد فيه .

واعلم أولا : أن تعدد اللازم في الجماع بتعدد الجماع ، وعدم تعدده قد قدمنا أقوال أهل العلم فيه ، واستوفينا الكلام عليه .

أما مذهب مالك - رحمه الله - في هذه المسألة ففيه تفصيل . حاصله : أن الجماع لا يتعدد الهدي اللازم فيه بتعدده ، سواء جامع بعد إخراج الهدي عن الجماع الأول أو قبله . وأما غير الجماع من محظورات الإحرام كلبس المخيط والتطيب ، وحلق الرأس ، وقلم الأظافر ، ونحو ذلك ، فتارة تكفي عنده في ذلك فدية واحدة ، عن الجميع ، وتارة تتعدد بتعدد أسبابها .

أما موجبات عدم تعدد الفدية ، فهي في مذهب مالك ثلاثة .

الأولى : أن يكون فعل أسباب الفدية في وقت واحد أو بعضها بالقرب من بعض ، فإن لبس وتطيب وحلق في وقت واحد ، فعليه فدية واحدة ، وكذلك إن فعل بعضها قريبا من بعض ، والقول الذي خرجه اللخمي بالتعدد في ذلك ضعيف ، لا يعول عليه .

الثانية : أن ينوي فعل جميعها ، بأن ينوي اللبس والتطيب والحلق فتلزمه فدية واحدة ، ولو كان بعضها بعد بعض غير قريب منه .

الثالثة : أن يكون فعل محظورات الإحرام ظانا أنها مباحة ، كالذي يطوف على غير وضوء في عمرته ، ثم يسعى ، ويحل ويفعل محظورات متعددة ، وكالذي يرفض إحرامه ظانا أن الإحرام يصح رفضه ، فيفعل بعد رفضه محظورات متعددة ، وكمن أفسد إحرامه بالوطء ، ثم فعل موجبات الفدية ظانا أن الإحرام تسقط حرمته بالفساد ، وجعل بعض المالكية من صور ظن الإباحة من ظن أن الإحرام لا يمنعه من محرماته أو لا يمنعه من [ ص: 106 ] بعضها . وأما ما يوجب تعدد الفدية عند المالكية ، فهو أن يفعل محظورات الإحرام مترتبة بعضها بعد بعض ، غير قريب منه ، فإنه تلزمه بكل محظور فدية ، ولو كثر ذلك سواء كانت المحظورات من نوع واحد ، كمن كرر التطيب ، أو كرر اللبس ، أو كرر الحلق في أوقات غير متقاربة ، والظاهر أن القرب بحسب العرف ، أو من أنواع كمن لبس مخيطا ، ثم تطيب ، ثم حلق ، فإن الفدية تتعدد في جميع ذلك ، إن لم يكن بعضه قريبا من بعض ، أو في وقت واحد ، فإن احتاج إلى لبس قميص ، ثم احتاج بعد ذلك إلى لبس سراويل ، ففدية واحدة عندهم ; لأن محل السراويل كان يستره القميص قبل لبس السراويل . أما إن احتاج إلى السراويل أولا ، ثم احتاج بعد ذلك إلى القميص ، ففديتان ; لأن القميص يستر من أعلى بدنه شيئا ما كان يستره السراويل .

هذا هو حاصل مذهب مالك في تعدد الفدية وعدمه في تعدد محظورات الإحرام .

وأما مذهب أبي حنيفة : فهو أنه إن تكرر منه موجب الفدية من نوع واحد في مجلس واحد ، فعليه كفارة واحدة ، وهي فدية الأذى إن كان ذلك لعذر ، ودم إن كان لغير عذر ، وإن فعل ذلك في مجالس متعددة تعددت الكفارة . وقال محمد : لا تتعدد إلا إذا كفر عن الأول قبل فعل الثاني ، فلو لبس قميصا وقباء وسراويل وخفين يوما كاملا لزمه دم واحد أو فدية واحدة ; لأنها من جنس واحد فصارت كجناية واحدة ، وكذلك لو دام على لبس ذلك أياما ، وكذا لو كان ينزعه بالليل ، ويلبسه بالنهار ، لا يجب عليه إلا دم واحد ، إلا إذا نزعه على عدم الترك ، ثم لبسه بعد ذلك ، فإنه يجب عليه دم آخر ; لأن اللبس الأول انفصل عن الثاني بالعزم على الترك ، وكذا لو لبس قميصا للضرورة ولبس خفين من غير ضرورة فعليه دم وفدية ; لأن السبب اختلف فلا يمكن التداخل ، وكذلك لو طيب جميع أعضائه ، فإن كان في مجلس واحد فعليه دم واحد ، إن كان لغير عذر . وفدية واحدة ، إن كان ذلك لعذر ، وإن كان تطييب أعضائه في مجالس تعددت الفدية أو الدم بتعدد الأعضاء التي طيبها في قول أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، سواء ذبح للأول أو لم يذبح . وقال محمد : إن ذبح للأول فكذلك ، وإن لم يذبح فعليه دم واحد ، وإن اختلفت أسباب الفدية ، كمن تطيب ، ولبس مخيطا أو تطيب ، وغطى رأسه يوما كاملا مثلا ، تعددت الفدية ، أو الدم سواء كان ذلك في مجلس واحد ، أو في مجلسين . وقد قدمنا أنه لا خلاف في تعدد جزاء الصيد بتعدد الصيد . وما روي عن أحمد مما يخالف ذلك ، لم يصح لمخالفته صريح القرآن العظيم .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 35.02 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 34.39 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.79%)]