عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 11-09-2022, 12:44 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,405
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (351)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 67 إلى صـ 74






قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : لزوم الفدية للأخشم الذي لا يجد ريح الطيب ، إذا استعمل الطيب ، مبني على قاعدة هي : أن المعلل بالمظان لا يتخلف بتخلف حكمته ; لأن مناط الحكم مظنة وجود حكمة العلة ، فلو تخلفت في صورة لم يمنع ذلك من لزوم الحكم كمن كان منزله على البحر ، وقطع مسافة القصر في لحظة في سفينة ، فإنه يباح له قصر الصلاة والفطر في رمضان بسفره ، هذا الذي لا مشقة فيه ; لأن الحكم الذي هو الرخصة علق بمظنة المشقة في الغالب ، وهو سفر أربعة برد مثلا والمعلل بالمظان لا تتخلف أحكامه بتخلف حكمها في بعض الصور ، كما عقده بعض أهل العلم بقوله : [ ص: 67 ] إن علل الحكم بعلة غلب وجودها اكتفي بذا عن الطلب لها بكل صورة . . . . . . إلخ

وإيضاحه : أن الغالب كون الإنسان يجد ريح الطيب ، فأنيط الحكم بالأغلب الذي هو وجوده ريح الطيب ، فلو تخلفت الحكمة في الأخشم الذي لا يجد ريح الطيب لم يتخلف الحكم لإناطته بالمظنة ، وقد أوضحنا هذه المسألة وأكثرنا من أمثلتها في غير هذا الموضع .

وقد تقرر في الأصول : أن وجود الحكم مع تخلف حكمته من أنواع القادح المسمى بالكسر ، وقد أشار إلى ذلك صاحب المراقي بقوله في مبحث القوادح :
والكسر قادح ومنه ذكرا تخلف الحكمة عنه من درى


وهذا الذي قررنا في مسألة الأخشم مبني على القول ، بأن الكسر بتخلف الحكمة عن حكمها ، لا يقدح في المعلل بالمظان ، كما أوضحنا ، والعلم عند الله تعالى .

واعلم : أن الحكمة في اصطلاح أهل الأصول : هي الفائدة التي صار بسببها الوصف علة للحكم ، فتحريم الخمر مثلا حكم والإسكار هو علة هذا الحكم ، والمحافظة على العقل من الاختلال : هي الحكمة التي من أجلها صار الإسكار علة لتحريم الخمر ، وقد عرف صاحب المراقي الحكمة بقوله :
وهي التي من أجلها الوصف جرى علة حكم عند كل من درى


وعلة الرخصة بقصر الصلاة والإفطار في رمضان : هي السفر ، والحكمة التي صار السفر علة بسببها هي : تخفيف المشقة على المسافر مثلا ، وهكذا .

واعلم : أن علماء الشافعية قالوا : إنه يشترط في الطيب الذي يحكم بتحريمه : أن يكون معظم الغرض منه التطيب ، واتخاذ الطيب منه ، أو يظهر فيه هذا الغرض . هذا ضابطه عندهم .

ثم فصلوه فقالوا : الأصل في الطيب : المسك ، والعنبر ، والكافور ، والعود ، والصندل ، والذريرة ، وهذا كله لا خلاف فيه عندهم قالوا : والكافور صنع شجر معروف .

وأما النبات الذي له رائحة فأنواع :

[ ص: 68 ] منها : ما يطلب للتطيب ، واتخاذ الطيب منه كالورد والياسمين ، والخيرى ، والزعفران ، والورس ونحوها ، فكل هذا طيب . وعن الرافعي وجه شاذ في الورد والياسمين والخيرى : أنها ليست طيبا والمذهب الأول .

ومنها : ما يطلب للأكل والتداوي غالبا ، كالقرنفل والدارصيني ، والفلفل ، والمصصكى ، والسنبل وسائر الفواكه كل هذا وشبهه ليس بطيب ، فيجوز أكله وشمه وصبغ الثوب به ، ولا فدية فيه سواء قليله وكثيره ، ولا خلاف عند الشافعية في شيء من هذا إلا القرنفل ، ففيه وجهان عندهم . والصحيح المشهور أنه ليس بطيب عندهم .

ومنها : ما ينبت بنفسه ، ولا يراد للطيب كنور أشجار الفواكه كالتفاح ، والمشمش ، والكمثرى ، والسفرجل ، وكالشيح ، والقيصوم ، وشقائق النعمان والإذخر ، والخزامى ، وسائر أزهار البراري ، فكل هذا ليس بطيب فيجوز أكله وشمه ، وصبغ الثوب به ، ولا فدية فيه ، بلا خلاف .

ومنها : ما يتطيب به ، ولا يتخذ منه الطيب : كالنرجس ، والآس ، وسائر الرياحين وفي هذا النوع عند الشافعية طريقان .

أحدهما : أنه طيب قولا واحدا .

والطريق الثاني : وهو الصحيح المشهور عندهم : أن فيه قولين مشهورين الصحيح منهما ، وهو قوله الجديد : أنه طيب موجب للفدية . القول الثاني وهو القديم : أنه ليس بطيب ، ولا فدية فيه ، ا هـ والحناء والعصفر ليسا بطيب عند الشافعية بلا خلاف على التحقيق ، خلافا لمن زعم خلافا عندهم في الحناء .

واعلم : أن الأدهان عند الشافعية ضربان أحدهما دهن ليس بطيب ، ولا فيه طيب ، كالزيت ، والشيرج ، والسمن ، والزبد ، ودهن الجوز ، واللوز ونحوها . فهذا لا يحرم استعماله في جميع البدن ، ولا فدية فيه ، إلا في الرأس ، واللحية ، فيحرم عندهم استعماله فيهما بلا خلاف ، وفيه : الفدية ; لأنه إزالة للشعث ، إن كان في الرأس واللحية ، فإن كان أصلع لا ينبت الشعر في رأسه فدهن رأسه ، أو أمرد فدهن ذقنه : فلا فدية عندهم في ذلك ، بلا خلاف ، وإن كان محلوق الرأس فدهنه بما ذكر ، ففيه عندهم وجهان : أصحهما : وجوب الفدية بناء على أن الشعر إن نبت جمله ذلك الدهن ، الذي جعل عليه ، وهو محلوق والوجه الثاني : لا فدية ; لأنه لا يزول به شعث . واختاره المزني وغيره ولو كان [ ص: 69 ] برأسه شجة فجعل هذا الدهن في داخلها من غير أن يمس شعر رأسه : فلا فدية ، بلا خلاف ، ولو طلى شعر رأسه ولحيته بلبن جاز : ولا فدية ، وإن كان اللبن يستخرج منه السمن ; لأنه ليس بدهن ولا يحصل به ترجيل الشعر ، والشحم ، والشمع عندهم ، إذا أذيبا كالدهن يحرم على المحرم ترجيل شعره بهما .

الضرب الثاني : دهن هو طيب ، ومنه : دهن الورد ، والمذهب عندهم : وجوب الفدية فيه ، وقيل : فيه وجهان . ومنه : دهن البنفسج ، فعلى القول بأن نفس البنفسج : لا فدية فيه ، فدهنه أولى ، وعلى أن فيه الفدية ، فدهنه كدهن الورد ، والأدهان كثيرة ، وخلاف العلماء فيها من الخلاف في تحقيق المناط كدهن البان والزنبق ، وهو دهن الياسمين والكاذي وهو دهن ، ونبت طيب الرائحة ، والخيرى ، وهو معرب ، وهو نبت طيب الرائحة ويقال للنحاسي : خيري البر ، ومذهب الشافعي : أن الأدهان المذكورة ، ونحوها طيب ، تجب باستعماله الفدية .

واعلم : أن محل وجوب الفدية عند الشافعية في الطيب : إذا كان استعمله عامدا ، فإن كان ناسيا أو ألقته الريح عليه ، لزمته المبادرة بإزالته بما يقطع ريحه ، وكون الأولى أن يستعين في غسله بحلال وتقديمه غسله على الوضوء ، إن لم يكف الماء ، إلا أحدهما عند الشافعية موافق لما قدمنا عن الحنابلة ، بخلاف غسل النجاسة ، فهو مقدم عندهم على غسل الطيب ولو لصق بالمحرم طيب يوجب الفدية ، لزمه المبادرة إلى إزالته فإن أخره عصى ولا تتكرر به الفدية والاكتحال عندهم بما فيه طيب حرام ، فإن احتاج إليه اكتحل به ولزمته الفدية .

وأما الاكتحال بما لا طيب فيه ، فإن كان فيه زينة كره عندهم : كالإثمد ، وإن كان بما لا زينة فيه : كالتوتيا الأبيض فلا كراهة .

وقال النووي بعد أن ذكر الإجماع على تحريم الطيب للمحرم : ومذهبنا أنه لا فرق بين أن يتبخر ، أو يجعله في ثوبه ، أو بدنه ، وسواء كان الثوب مما ينقض الطيب ، أم لم يكن .

قال العبدري : وبه قال أكثر العلماء .

وقال أبو حنيفة : يجوز للمحرم أن يتبخر بالعود ، والند ، ولا يجوز أن يجعل شيئا من الطيب في بدنه ، ويجوز أن يجعله على ظاهر ثوبه ، فإن جعله في باطنه ، وكان الثوب لا [ ص: 70 ] ينقص ، فلا شيء عليه ، وإن كان ينقص لزمته الفدية انتهى منه .

والظاهر المنع مطلقا لصريح الحديث الصحيح في النهي عن ثوب مسه ورس أو زعفران ، وكل هذه الصور يصدق فيها : أنه مسه ورس أو زعفران ، وغيرهما من أنواع الطيب وحكمه كحكمهما ، كما أوضحنا الأحاديث الدالة عليه في أول الكلام في هذه المسألة التي هي مسألة ما يمتنع على المحرم بسبب إحرامه . وكذلك المتبخر بالعود متطيب عرفا ، والأحاديث دالة على اجتناب المحرم للطيب كما تقدم ، والعلم عند الله تعالى .

وقال النووي في " شرح المهذب " : قد ذكرنا أن مذهبنا : أن الزيت ، والشيرج ، والسمن ، والزبد ونحوها من الأدهان غير المطيبة ، لا يحرم على المحرم استعمالها في بدنه ويحرم عليه في شعر رأسه ولحيته .

وقال الحسن بن صالح : يجوز استعمال ذلك في بدنه وشعر رأسه ولحيته .

وقال مالك : لا يجوز أن يدهن بها أعضاءه الظاهرة : كالوجه ، واليدين ، والرجلين ، ويجوز دهن الباطنة : وهي ما يوارى باللباس .

وقال أبو حنيفة : كقولنا في السمن والزبد ، وخالفنا في الزيت والشيرج فقال : يحرم استعمالها في الرأس والبدن .

وقال أحمد : إن ادهن بزيت أو شيرج : فلا فدية في أصح الروايتين ، سواء دهن يديه أو رأسه .

وقال داود : يجوز دهن رأسه ، ولحيته ، وبدنه بدهن غير مطيب .

وحجة من قال بهذا حديث جاء بذلك : فقد قال البيهقي في " السنن الكبرى " : أخبرنا أبو ظاهر الفقيه ، وأبو سعيد بن أبي عمرو قراءة عليهما ، وأبو محمد عبد الله بن يوسف الأصبهاني إملاء قالوا : ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، ثنا محمد بن إسحاق الصغاني ، أنبأ أبو سلمة الخزاعي ، أنبأ حماد بن سلمة ، عن فرقد ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ادهن بزيت غير مقتت وهو محرم " يعني : غير مطيب ، لم يذكر ابن يوسف تفسيره .

قال الإمام أحمد : ورواه الأسود بن عامر شاذان ، عن حماد بن سلمة ، عن فرقد ، عن سعيد ، عن ابن عمر فذكره من غير تفسير انتهى منه . ثم ذكر بإسناده عن أبي ذر - رضي الله عنه - [ ص: 71 ] أنه مر عليه قوم محرمون ، وقد تشققت أرجلهم فقال : ادهنوها . وفرقد المذكور في سند هذا الحديث ، هو فرقد بن يعقوب السبخي بفتح السين المهملة والباء الموحدة وبخاء معجمة : أبو يعقوب البصري ، وهو معروف بالزهد والعبادة . ولكنه ضعفه غير واحد . وقال فيه ابن حجر في " التقريب " : صدوق عابد ، لكنه لين الحديث كثير الخطأ . وقال النووي في " شرح المهذب " : واحتج أصحابنا بحديث فرقد السبخي الزاهد - رحمه الله - عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ادهن بزيت غير مقتت وهو محرم " رواه الترمذي والبيهقي ، وهو ضعيف . وفرقد غير قوي عند المحدثين . قال الترمذي : هو ضعيف غريب ، لا يعرف إلا من حديث فرقد ، وقد تكلم فيه يحيى بن سعيد . وقوله : غير مقتت : أي غير مطيب انتهى محل الغرض منه .

وفي " القاموس " : وزيت مقتت طبخ بالرياحين أو خلط بأدهان طيبة ، واحتجاج الشافعية بهذا الحديث الذي ذكرنا على جواز دهن جميع البدن غير الرأس واللحية بالزيت والسمن ونحوهما فيه أمران :

الأول : أن الحديث ضعيف لا يصلح للاحتجاج ، لضعف فرقد المذكور .

والثاني : أنه على تقدير صحة الاحتجاج به فظاهره عدم الفرق بين الرأس واللحية وبين سائر البدن ; لأن الادهان فيه مطلق غير مقيد بما سوى الرأس واللحية ، ا هـ .

وحجة من منع الادهان بغير الطيب ; لأنه يزيل الشعث الحديث الذي فيه : " انظروا إلى عبادي جاءوا شعثا غبرا " وهو مشهور ، وفيه دليل على أنه لا ينبغي إزالة الشعث ، ولا التنظيف . والله أعلم .

وقال النووي في " شرح المهذب " : قال ابن المنذر : أجمع العلماء على أن للمحرم أن يأكل الزيت والشحم والسمن . قال : وأجمع عوام أهل العلم ، على أنه له دهن بدنه بالزيت والشحم والشيرج والسمن ، قال : وأجمعوا على أنه ممنوع من حيث استعمال الطيب في جميع بدنه .

وقال النووي أيضا : الحناء ليس بطيب عندنا كما سبق : ولا فدية ، وبه قال مالك ، وأحمد ، وداود . وقد قدمنا أن الخضاب بالحناء : يوجب الفدية عند المالكية ، ثم قال النووي : وقال أبو حنيفة : هو طيب يوجب الفدية ، وإذا لبس ثوبا معصفرا : فلا فدية ، والعصفر : ليس بطيب ، هذا مذهبنا ، وبه قال أحمد وداود ، وحكاه ابن المنذر عن ابن عمر [ ص: 72 ] وجابر ، وعبد الله بن جعفر ، وعقيل بن أبي طالب وعائشة وأسماء وعطاء ، وقال : وكرهه عمر بن الخطاب ، وممن تبعه الثوري ومالك ، ومحمد بن الحسن ، وأبو ثور ، وقال أبو حنيفة : إن نفض على البدن : وجبت الفدية ، وإلا وجبت صدقة . انتهى محل الغرض منه .

وقال النووي أيضا : ذكرنا أن مذهبنا في تحريم الرياحين قولان : الأصح تحريمها ، ووجوب الفدية ، وبه قال ابن عمر ، وجابر ، والثوري ، ومالك ، وأبو ثور ، وأبو حنيفة ، إلا أن مالكا ، وأبا حنيفة يقولان : يحرم ولا فدية .

قال ابن المنذر : واختلف في الفدية ، عن عطاء وأحمد ، وممن جوزه وقال : هو حلال لا فدية فيه : عثمان ، وابن عباس ، والحسن البصري ، ومجاهد وإسحاق ، قال العبدري : وهو قول أكثر الفقهاء .

وقال النووي أيضا : قد ذكرنا أن مذهبنا : جواز جلوس المحرم عند العطار : ولا فدية فيه . وبه قال ابن المنذر ، قال : وأوجب عطاء فيه الفدية ، وكره ذلك مالك . انتهى منه .

واعلم : أن المحرم عند الشافعية ، إذا فعل شيئا من محظورات الإحرام ناسيا أو جاهلا ، فإن كان إتلافا كقتل الصيد والحلق والقلم ، فالمذهب وجوب الفدية ، وفيه خلاف ضعيف . وإن كان استمتاعا محضا : كالتطيب ، واللباس ، ودهن الرأس واللحية ، والقبلة ، وسائر مقدمات الجماع : فلا فدية ، وإن جامع ناسيا أو جاهلا : فلا فدية في الأصح أيضا .

قال النووي : وبهذا قال : عطاء ، والثوري ، وإسحاق ، وداود . وقال : مالك ، وأبو حنيفة ، والمزني وأحمد في أصح الروايتين عنه : عليه الفدية ، وقاسوه على قتل الصيد .

وقد قدمنا حكم المجامع ناسيا وأقوال الأئمة فيه . هذا هو حاصل كلام العلماء من الصحابة ومن بعدهم ، ومنهم الأئمة الأربعة في مسألة الطيب . وقد علمت من النقول التي ذكرنا عن الأئمة وغيرهم ، من فقهاء الأمصار ، ما اتفقوا عليه ، وما اختلفوا فيه .

واعلم : أنهم مجمعون على منع الطيب للمحرم في الجملة ، إلا أنهم اختلفوا في أشياء كثيرة ، اختلافا من نوع الاختلاف في تحقيق المناط . فيقول بعضهم مثلا : الريحان والياسمين ، كلاهما طيب فمناط تحريمهما ، على المحرم موجود ، وهو كونهما طيبا ، [ ص: 73 ] فيخالفه الآخر ، ويقول : مناط التحريم ، ليس موجودا فيهما ; لأنهما لا يتخذ منهما الطيب ، فليسا بطيب وهكذا .

واعلم : أنهم متفقون على لزوم الفدية في استعمال الطيب ، ولا دليل من كتاب ولا سنة ، على أن من استعمل الطيب ، وهو محرم يلزمه فدية ، ولكنهم قاسوا الطيب على حلق الرأس المنصوص على الفدية فيه ، إن وقع لعذر في آية : فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك [ 2 \ 196 ] .

وأظهر أقوال أهل العلم : أن الفدية اللازمة كفدية الأذى وهي على التخيير المذكور في الآية ; لأنها هي حكم الأصل المقيس عليه ، والمقرر في الأصول أنه لا بد من اتفاق الفرع المقيس ، والأصل المقيس عليه في الحكم وذلك هو مذهب أبي حنيفة ، إن كان التطيب ، أو اللبس لعذر ; لأن الآية نزلت في العذر ، وقد قدمنا أنه هو الصحيح من مذهب الشافعي مطلقا كان لعذر أو غيره ، وهو أيضا مذهب مالك وأحمد .

فتحصل : أن مذاهب الأئمة الأربعة متفقون على أن فدية الطيب ، وتغطية الرأس ، واللبس ، وتقليم الأظافر ، كفدية حلق الرأس المنصوصة في آية الفدية ، وقد قدمنا الكلام عليها مستوفى ، وقدمنا الأقوال المخالفة لهذا المذهب الصحيح المشهور عند الأربعة . وقد بينا أنه مقتضى الأصول ، لوجوب اتفاق الأصل والفرع في الحكم ، والعلم عند الله تعالى .
تنبيهان

الأول : في ذكر أشياء مما ذكر وردت فيها نصوص ، وتفصيل ذلك : فمن ذلك العصفر وقد رأيت في النقول التي ذكرنا من قال من أهل العلم : بأنه ليس بطيب ، وأنه لا بأس بلبس المحرم له ، وقد قدمنا فيه حديث أبي داود المصرح بأنه لا بأس بلبس النساء له ، وهن محرمات ، وفيه ابن إسحاق ، وقد صرح فيه بالسماع ، فعلم أنه لم يدلس فيه إلى آخر ما قدمنا فيه ، والظاهر بحسب الدليل : أن المعصفر لا يجوز لبسه ، وإن جوزه كثير من أجلاء العلماء من الصحابة ومن بعدهم ; لأن السنة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحق بالاتباع .

وقد قال مسلم بن الحجاج - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا معاذ بن هشام ، حدثني أبي عن يحيى ، حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث : أن ابن معدان أخبره : أن عبد الله بن عمرو بن العاص ، أخبره قال " رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي ثوبين معصفرين ، فقال : إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها " ، ا هـ .

[ ص: 74 ] وابن معدان المذكور : هو خالد كما ثبت في صحيح مسلم بعد الحديث المذكور مباشرة ، وفي لفظ مسلم بإسناد غير الأول ، عن عبد الله بن عمرو قال : " رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - علي ثوبين معصفرين ، فقال : " أأمك أمرتك بهذا " ؟ قلت : أغسلهما قال : " بل أحرقهما " .

وقال مسلم في صحيحه أيضا : حدثنا يحيى بن يحيى ، قال : قرأت على مالك ، عن نافع ، عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين ، عن أبيه ، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : نهى عن لبس القسي ، والمعصفر ، وعن تختم الذهب ، وعن قراءة القرآن في الركوع " وفي لفظ لمسلم ، عن علي - رضي الله عنه - : " نهاني النبي - صلى الله عليه وسلم - عن القراءة وأنا راكع ، وعن لبس الذهب ، والمعصفر " وفي لفظ لمسلم عنه أيضا - رضي الله عنه - : " نهاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن التختم بالذهب ، وعن لباس القسي ، وعن القراءة في الركوع والسجود ، وعن لباس المعصفر " انتهى منه .

فهذا الحديث الثابت في صحيح مسلم ، وغيره عن صحابيين جليلين ، وهما علي ، وعبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهم - صريح في منع لبس المعصفر مطلقا ; لأن قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عبد الله بن عمرو : " إنهما من ثياب الكفار ، فلا تلبسهما " صريح في منع لبسهما ; لأن النهي يقتضي التحريم كما تقرر في الأصول ، ويؤيد ذلك هنا أنه رتب النهي عنهما على أنهما من ثياب الكفار ، وهذا دليل واضح على منع لبس المعصفر مطلقا في الإحرام وغيره . وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عبد الله بن عمرو : " بل أحرقهما " فهو دليل واضح على منع لبسهما ; لأن لبس الجائز لبسه ، لا يستوجب الإحراق بحال ، فهو نص في منع المعصفر مطلقا ، وقول علي - رضي الله عنه - : " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لبس القسي والمعصفر ، وعن تختم الذهب " الحديث . دليل أيضا على منع لبس المعصفر مطلقا ; لأن النهي يقتضي التحريم ، إلا لدليل صارف عنه ، وليس موجودا ، ويؤيده أنه قرنه بالتختم بالذهب ، وهو ممنوع ، وما زعمه بعض أهل العلم : من أن رواية علي المذكورة آنفا في مسلم : " نهاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " : تدل على اختصاص هذا الحكم بعلي ; لأنه قال : نهاني بياء المتكلم في الرواية المذكورة ، مردود من ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه - صلى الله عليه وسلم - بين في حديث ابن عمرو عموم هذا الحكم ، حيث قال لعبد الله : " إن هذا من ثياب الكفار ، فلا تلبسهما " وهذا صريح في عدم اختصاص هذا الحكم بعلي - رضي الله عنه - .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 36.99 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 36.37 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.70%)]