عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 10-09-2022, 09:18 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,753
الدولة : Egypt
افتراضي الإقناع الأدبي والبلاغي والإشهاري

الإقناع الأدبي والبلاغي والإشهاري
محمد البوزيدي












أولًا:الإقناع في المقاربة الأدبية:



تنامَى الاهتمام بمنطقةِ التقاطع بين مجال الإقناع ومجال نظرية الأدب؛ فاكتشاف منظِّري الأدب الذين ينقِّبون عن ماهيته عبر التاريخ، أن ما يعتبر أدبًا ممتدٌّ خارج نطاق المفهوم الدقيق للتخييل - المتفرع عن مفهوم المحاكاة، أو المتأثر بالفلسفة الجمالية والمفاهيم الطليعية للأدب؛ لتحقيق بُعْد حواري حجاجيّ - هو بقدر اكتشاف الباحثين في الحجاج القادمين من النواة الصلبة لأرخبيل الفلسفة، حاجة إلى الوسائل التي تعتبر تخييلية وجمالية وذاتية[1].







وما يدعم وجودَ منطقة التقاطع: أن إمعان النظر في الخطاب الإنساني يبرز لنا أن غالب أقوالنا تسعى إلى التأثير في سلوك المخاطبين، بل إن خطابًا قد يظهر بريئًا من أي مسعى حجاجي، قد ينكشف أمامنا باعتباره منطويًا على طاقات حجاجية جبارة[2].







ويؤكد (حازم) على القصد الحجاجي للشِّعر الذي يتوسل بالتخييل، بقوله: "القصد في التخييل والإقناع حملُ النفوس على فعل شيء أو اعتقاده، أو التخلي عن فعله واعتقاده"[3].







كما نوَّه بالقيمة الحجاجية للشعر بقوله: "إن التخييل هو قوامُ المعاني الشِّعرية، والإقناع هو قوام المعاني الخطابية، واستعمال الإقناعات في الأقاويل الشعرية سائغٌ، إذا كان ذلك على جهة الإلماع في الموضع بعد الموضع، كما أن التخاييل سائغٌ استعمالها في الأقاويل الخطابية في الموضع بعد الموضع، بل ساغ لكلَيْهما أن يستعمل يسيرًا فيما تتقوم به الأخرى؛ لأن الغرض في الصناعتين واحد، وهو إعمال الحيلة في إلقاء الكلام من النفوس بمحلِّ القَبول لتتأثر لمقتضاه، فكانت الصناعتان متآخيتين؛ لأجل اتفاق المقصد والغرض فيهما، فلذلك ساغ للشاعر أن يخطب لكن في الأقل من كلامه، وللخطيب أن يشعر لكن في الأقل من كلامه"[4].







يبيِّن نص حازم اشتراكَ النثر والشعر في التخييل والإقناع، مع تفاوت في استعمالهما في الجنسين معًا، لكن القصد واحدٌ وهو التأثير في النفوس وإيجاد القبول في النفوس.







فالشِّعر ينبني بالموادِّ نفسها التي ينبني بها النثر، والفارق هو أن كلًّا منهما يُغلِّب في تشكيله مقوِّمات على أخرى، وهذا ما يميِّز الجنس الشِّعري عن الجنس النثري، ويجعل كلًّا منهما خطابًا متميزًا.



يقول رومان ياكبسون: "الشعر هو اللغة في وظيفتها الإستيطقية"[5].







ويقول: "إن استهداف الرسالة بوصفها رسالة، والتشديد على الرسالة لحسابها الخاص، هما ما يطبعانِ الوظيفة الشِّعرية للغة"[6].



إن الشِّعر الذي يعرف باعتباره خطابًا مكتفيًا بإبراز الأداة اللفظية، يمكن أن تترتَّب عنه آثار إقناعية قوية[7]، فلا شيء يمنع مِن تدخل الحجاج في حقل الشعر، من أجل دراسته باعتباره متضمنًا لمقاصد حجاجية، علمًا بأن عالم الشِّعرية يوجه عنايته إلى الشكل الجمالي.







فإذا كان الحجاج هو سعي إلى تعديل أو تثبيت موقف أو سلوك معين لدى المتلقي، عن طريق التأثير فيه بالخطاب، سواء اغترف الكلام من مَعِين العقل أو من معين العواطف والانفعالات - فالشعر يندرج ضمنَ المعنى الموسَّع للحِجاج[8].







ويمكن أن تلاحظ الطاقة الحجاجية المتدفِّقة في مقطعِ محمود درويش الشِّعري:



"كان القطار يسير كالأفعى الوديعة من



بلاد الشام حتى مصر، كان صفيرُه



يخفي ثغاء الماعزِ المبحوح عن نهم الذئاب.



كأنه وقت خرافي لتدريب الذئاب على صداقتنا.



وكان دخانه يعلو على نارِ القرى المتفتحات



الطالعات من الطبيعة كالشجيرات"[9].







استعارات المقطع تبرز نوايا الشاعر الحجاجية:



نهم الذئاب - ثغاء الماعز المبحوح - وقت خرافي لتدريب الذئاب على صداقتنا.



فبالإضافة لشِعرية المقطع المتدفِّقة، تتوفر واجهة إقناعية حجاجية، فهذا المقطع الشِّعري يتضمن استعارات مرتبطة بالطبيعة أشيائها وحيواناتها، ورغم الوصف الجمالي المتميز للمقطع، فهو مُترَعٌ بقيمة حجاجية غزيرة، فهو يخرج متلقِّيه من وضعية القارئ الحيادي المتذوِّق لجمال الصورة الشعرية، ليحاول تعديل موقفنا أو يرسخ رأيًا ما أو إحساسًا ما إزاء ما جرى من كارثةٍ لشعب فلسطين.







الجانب العاطفي حاسمٌ في الشعر وأساس في الحجاج، فما يلاحظ في المقطع الشعري ليس مناسبةً للاستمتاع الجمالي، بل هو دعوة لتغيير المواقف والحالات النفسية، وتعديل السلوك على أساس ذلك، وإعادة تقويم كل ذلك، فالشعر ضربٌ من الحجاج الذي يغلب المقومات العاطفية على حساب المقومات العقلية[10].







لذلك يستدعي الأمر فحصَ المنطقة التي يتقاطع فيها الحجاج ممثلًا بـ(الخطابية Rhétorique)، والتخييل ممثلًا بـ(الشعرية Poétique)، ولذلك فـ(أوليفي غوبول Olivier Reboul) يقوم بفحص الصور التي تعتبر شعرية Les figuresمُستكنِهًا طاقتها الحجاجية، منطلقًا من سؤال:



هل يمكن أن تكون الصورة حجة؟







وبعد أن قسم الصور ورتَّبها في سلم الحجية، قاده ذلك للقول:



نعم الصورة يمكن أن تكون ممهدة للحجاج، نعم يمكن للصورة أن تكون حجةً[11].



وتتفاوت الاتجاهات الأدبية والشعرية في توفُّر الجانب الحجاجي المعتمد على العقل والعاطفة، ففي الشِّعر الكلاسيكي قد يكون للمقومات العقلية حضورٌ قويٌّ، في حين أن الشعر الرومانسي تغلبُ فيه المقومات العاطفية؛ فالملامح الحجاجية والإقناعية واردةٌ في الشعرين الكلاسيكي والرومانسي؛ وهو ما يعني أن الشعر لا يقصد فقط إلى الإمتاع - أي يتطلع إلى جعل القارئ مستمتعًا بالمقومات الجمالية - بل يسعى إلى تعديل آرائه ومواقفه وسلوكه[12].







ومِن جهة أخرى فكلٌّ مِن الشعر والنثر له عَلاقة مع متلقِّيه؛ فالنص السردي يهَبُ نفسه للمتلقي "في توافق مدهش يدعوه لاحتوائه مرةً واحدة، حتى ليوشك على امتلاكه واختزان أبرز معالمه"[13]؛ ولذلك فهو يتضمن قدرًا من التسلسل والتماسك بين أحداثه؛ مما يجعلُها قابلةً للتصديق والإقناع، سواء تعلَّق الأمر بالتمثيليات المتكلمة أو الصامتة؛ حيث إن هناك أشياء تنجمُ عن أخرى بالطبيعة.







كما يتوفر النص السردي على نظام جمالي يتأسس على شبكة من العلاقات المتمحورة حول مستويات أربع، تصب في مفهوم الاحتمال السردي الخطابي وهو الاحتمال الإقناعي.



الاحتمال الطبيعي؛ (علاقة الأدب بالواقع).



التلاؤم؛ ويرتبط بالمظهر الخارجي المتصل بعلاقة الأدب بالواقع من ناحية، وبالمظهر الداخلي المتصل بالعلاقة بين الحدث ولغة الشخصيات وخواصها من ناحية أخرى.



ظروف المكان والزمان والكيفية.



ظروف حبكة الأحداث نتيجة لذلك[14].







ومن القضايا المتصلة بالسرد الشعري:



الربط بين الوزن وما يقتضيه فن القص الشعري من صِيَغ وأشكال.



الاهتمام بسرد النص بأكمله والعناية بدرجة تجانسه وتماسكه.



الاهتمام باقتصاد الكلام المتمثِّل في تلاؤمه مع الشخصيات والمواقف.



مراعاة الصدق، سواء أكان في عَلاقة الكلام بالقصة المسرودة فيكون صدقًا فنيًّا، أم بالواقع الذي ترويه فيكون من قبيل الصدق التاريخي[15].







وبين اعتبار الرواية عملًا واقعيًّا وبين البحث عن الفن الخالص، ولو أدَّى ذلك إلى اللاواقعية واللاإنسانية الفن، تتحدد المواقف المطلوبة من المؤلف:



أن يكونَ موضوعيًّا، منفصلًا عما يكتب، غير منفعلٍ به، حتى يستطيع تجسيده بالحياد اللازم، بينما يرى الآخرون أنه لا بد أن يكون متحمسًا ملتزمًا ومنغمسًا في كتابته.







وبين موضوعية القارئ والتزامه وتعاطفه، ينبغي أن يتيحَ العمل لقارئه مادة للأسئلة والشكوك، أكثر مما يعطيه من إجابات قاطعة؛ بحيث يجعله أكثر استعدادًا لتقبل الأشياء غير القاطعة المكتملة، ورفض المنظور الذي يعتمد على التبسيط واختزال الحياة في اللونين الأبيض والأسود.







كما يحضر تساؤل:



هل ينبغي للقارئ أن يستخدم عقله وذكاءه النقدي في التلقي، بالإضافة إلى عواطفه، أم عليه أن يسلم نفسه أولًا لما يقرأ؟[16].



العبارات التي تتضمنها النصوص السردية لها قدرٌ من القوة الحجاجية؛ فالاستبدال بعبارة (أعمى منذ الولادة) التي يحملها المتسوِّل، عبارة (إن الربيع على الأبواب؛ وأنا لن أستمتع بمشاهدته) - يُبرز فرقًا بين الصياغتين؛ فإحداهما إخبارية خالصة، والثانية مثيرة للإحساسات، الأولى تأثيرها محدود في الناس، فلم تولد الفعل المرجوَّ وهو العطاء بسخاء، فالمتسول باستعماله للعبارة الأولى يعد من الناحية الإقناعية مفلسًا؛ لأنه اقتصر على الوصف الموضوعي النثري للعاهة التي يعانيها، لكن العبارة الثانية قوية من الناحية الحجاجية، وقد دلت عليها الهبات التي حصدها المتسوِّل؛ فالعبارة الثانية تمكنت من قلوب المارة وأشعلت فتيل الانفعال والتجاوب[17].







ورغم أن المبادئ التي طرحها (كرايس)، لا تفي - برغم جودتها - بمتطلبات التخاطب على اختلاف مستوياته، فمبدأ الكم ومبدأ الأسلوب يضيق دورُهما في الممارسات الأدبية التي تشترط الرمزية أحيانًا والإطالة أحيانًا أخرى؛ وذلك لتفي بمتطلبات الحالة محل التعبير.







فقول الشاعر (الحُطَيْئة) في شطر البيت الثاني (من الطويل):



ألا حبَّذا هندٌ وأرضٌ بها هندُ *** وهندٌ أتى من دونها النأي والبعدُ







فيه إخلال بمبدأ الكم الكرايسي؛ من حيث ورودُ كلمتين بنفس المعنى "النأي" و"البعد"، وهو حشو وإطناب ظاهر، غير أن لتلك الإضافة دورًا بلاغيًّا يخدم التعبير ويحدد المقصد بشدة، كما أن لها دورًا في جمال البيان الذي تحكمه قواعد أسلوبية خاصة، تختلف عن قواعد المحادثة العامّة، وكذلك الأمر في مبدأ الأسلوب الذي تقاس فاعليته حسب مقتضى الحال والمقال، والمبادئ التي تتلاءم مع شروط المحادثة تقصر عن بلوغ مقاصد النصوص الأدبية وهي بحاجة إلى إضافات لتستوعب أنواعَ النصوص المختلفة، وذلك بالاستفادة منها والبناء عليها ومتابعتها، لاحتوائها عناصر هامة في التعاون اللُّغوي.







وتتجلَّى أهمية المناهج المعاصرة في استشعارها كنه الأدب واللغة بطريقة علمية؛ وذلك بتناولها للقضايا بدقة، والتداوليةُ إستراتيجيةٌ لها قيمتها في تحليل الخطاب، تتيح إجراءات فعَّالة، جامعة بين منهج وصفي بنائي ومنهج تفسيري، فالحاجة إلى التفسير مرتبطةٌ باتصال الأثر الأدبي بالمجتمع والتاريخ؛ فالعملية الإبداعية اللُّغوية لا تتحقق إلا في ظل تواصل حقيقي بين باثٍّ ومتلقٍّ؛ لذلك ينبغي أن يُدخِل الناقدُ المؤلفَ في اعتباراته، فضلًا عن طبيعة الأثر الأدبي؛ لأن العملية التواصلية لا تكاد تتم في غياب الشروط التداولية؛ فملفوظات الخطاب غير منفصلة عن أسيقة التلقِّي؛ ومنها: الغرض، والباث، والمستقبل، والجمهور، وشكل الخطاب، والمقام، والقناة، والموضوع.







ورغم الالتباس والنسبية والمرونة، إلى جانب الطبيعة السياقية التي يتَّسِم بها الحجاج؛ فذلك لم يمنع (ديكرو) من محاولة استنباطِ أدوات وآليات وطرق تمكن من تسهيل سبر البِنَى اللُّغوية للمقولات الحجاجية؛ وذلك من خلال آليات لُغوية محضة، وبذلك يصير الحجاج ظاهرةً لَغوية نجدها في كل قول وفي كل خطاب، كما نجده في الأسماء والصفات والأفعال والظروف والحروف، وفي التراكيب النَّحْوية والصور البلاغية، وهي الآليات التي تفيد في التحليل الحجاجي للنصوص الأدبية.







الإقناع في المقاربة البلاغية:



لقد وجد في مرحلة اقتراحات تدعو للخروج من مفهوم الأدب إلى مفهوم الخطابِ داخل نظرية الأدب، كما هو مثبت في بحث "تودوروفمفهوم الأدب literaire de Notion.







وفي المرحلة الثانية للرجوع لعلم قديم هو علم البلاغة، كما أثبت ذلك "إيجلتون" في خاتمة كتابهLiteraryTheory An Introduction [18].







منطلق ذلك أن للبلاغةِ مكانةً مُهمَّة في العالم الذي نعيش فيه؛ فهي حاضرة في كل تفاصيل الحياة؛ هي موجودة في المؤسسات الثقافية، والمنابر الإعلامية، فلا يكاد أي خطاب يخلو منها. وقد نشأت البلاغة في أحضان الخطابة، التي تتميز بمراعاة المقام والمتخاطَبين؛ محاولة التأثير فيهم بأساليبها اللُّغوية وتقنياتها الاستدلالية؛ قصد دفعهم للاقتناع بما يقوله الخطيب[19].







والبلاغة التي تدور مادتها حول البيان والإيضاح والتوصيل والإقناعِ نسبيةٌ؛ فليس هناك بلاغة مطلقة تصلح لكل زمان ومكان؛ فالبلاغة بلاغات، ولكل مقام مقال؛ والمقام ليس شيئًا خارجيًّا؛ بل هو عنصر ضروري في تشكيل الخطاب وإنجاحه.







"البلاغة فن، والفن يعني هنا الصنعة، إن نتاج هذه الصنعة أمرٌ مدبَّر؛ أي إنه لا يرجع إلى الطبيعة وصدفها، بل هو نتاج العقلانية المنهجية الإنسانية"[20].



ويعرفها أرسطو بأنها "الكشف عن الطرق الممكنة للإقناع في أي موضوع كان"[21].







إنها علم مستقبلي ينزع إلى أن يصبح علمًا واسعًا للمجتمع؛ فلم تعد علمًا خاصًّا بالخطاب؛ بل أضحت علمًا لكل الخطابات.



ويدخل الجانب البلاغي بوصفِه آليةً رئيسة في تشكيل الخطاب لتحقيق تواصل مميز ومثمِر بين الناس؛ فحضوره فعالٌ في الأنشطة التي يمارسونها؛ سواء تعلق الأمر بإنتاج الفكر أو ممارسته، في تواصلهم المستمر والفعال مع محيطهم الخارجي، الذي يشمل جميع المؤثرات الفاعلة فيهم إيجابًا وسلبًا، ويعم الإشكالات والافتراضات التي يطرحُها[22].







والقراءة البلاغية غير معنيَّة بقضية الأجناس، فهي تستهدف ما وراء تحليل الأجناس، منشغلة بخصوصية كل وحدةٍ من وحدات النص من صوت ولفظ ونظم وبديع ومجاز؛ أي ما يميز نصًّا ما بالخصوص.







ومِن النظريات البلاغية التي تراعي أحوالَ الكلمات وأحوال انضمامها إلى بعضها وأحوال المخاطب نظريةُ النظم للإمام (عبدالقاهر الجرجاني)[23]، وهو نموذج بلاغي للتواصل يشغَلُ فيه متلقي الخطاب موقعًا محوريًّا دون منازع[24].







لقد كان تعريف البلاغة قبل (عبدالقاهر) قائمًا على إبراز الغاية من البلاغة، وهي توصيل الكلام إلى قلب المخاطب والتأثير فيه، وهو ما يسمى بالإبلاغية في العصر الحديث.







وأما مفهوم البلاغة بعد (عبدالقاهر)،فقد اصطبغ بصبغة علمية ركزت على خصائص هذا الكلام الذي يقنع ويؤثر في الآخرين، وأصبح مفهوم البلاغة مَعنيًّا بخواص التركيب والمقام الذي يؤدَّى فيه، وهو ما يعرف بمقتضى الحال، ولعل هذه النظرة العلمية التي بدأها (عبدالقاهر) هي التي جعَلَت من البلاغة علمًا له قواعده وأصوله الواضحة؛ فالانتقالُ من البلاغة الذوقية إلى البلاغة النظرية، ومن الحديث عن الأهداف إلى الحديث عن الخصائص، واضحٌ أشد الوضوح في تطور مصطلح البلاغة بعد (عبد القاهر).







فـ(عبدالقاهر) يجسِّد الاتجاه المتأثر ببلاغة الإعجاز، وكتاب "مفتاح العلوم" امتدادٌ للتصور الذي يعتبر التداخل بين الشعري والخطابي أمرًا بديهيًّا، لذلك فالوظيفة الحجاجية مركزيةٌ فيه، أما الوظيفة الشعرية، فهامشية.







وهذا الموضوع مثار نقاش وتدقيق بالنسبة للبلاغيين المتأثرين بالقراءة العربية لأعمال أرسطو كـ(حازم القرطاجني)، الذي قام بضبط درجات التداخل والتخارج بين التصديق والتخييل؛ لأنهما موضوعان بلاغيان[25].







وكيفما كان الحال، فمرجع البلاغة - بوصفها منهجًا لفهم النصوص - هو التأثير؛ فالنص - بناءً على المفاهيم البلاغية - ينظر إليه من زاوية نظر القارئ المستمع، ويتم جعله تابعًا لمقصدية الأثر.







ومادام منهج البلاغة يَمَسُّ الكلام الذي هو خاصية ملازمة للإنسان؛ فإن هذا المنهج يتميز بمجموعة من القواعد المربوطة فيما بينها من زوايا نظر قائمة على أساس منطقي؛ فالبلاغة تتوفر على طبيعة نسقية، ووظيفتها واحدة، وهي إنتاج نصوص حسب قواعد فن معين[26].







وما دام في الأثر مقصدية؛ فقد اتَّجه البلاغيون للمعنى وجعَلوه في مقدمة اهتماماتهم، قبل أن يبحثوا في المباني (التراكيب)؛ ولذلك قيل: (لكلِّ مقامٍ مقالٌ)؛ فالمقام هو الذي يقتضي الحذف أو الذكر، والفصل أو الوصل، والخبر أو الإنشاء، ولهذا يتم التمييز في البلاغة بين ثلاثة أنماط أساسية من (المقصدية):



1- المقصدية الفكرية: وتضم مكونات متداخلة:



المكون / الغرض التعليمي: التقديم الموضوعي للواقع دون استدعاء العواطف، كما في النصوص العلمية والإخبارية.



المكون/ الغرض الحجاجي.



المكون / الغرض الأخلاقي: ويتعلق بتعليم المجتمع الأخلاق، ويتضمن عناصر تعليمية وحجاجية، ودعوة إلى العقل، وانتقالًا من المقاصد الفكرية إلى المقاصد العاطفية في النصح الظاهر في جميع النصوص التعليمية.







2- المقصدية العاطفية المعتدلة: وتضم مكونينِ ينتجان انفعالًا خفيفًا (التعاطف)؛



المكون الغائي: وغرضه الظفر باقتناع الجمهور.



المكون غير الغائي: وغرضه هو المتعة الجمالية للجمهور.







3- مقصدية التهييج: وتكمن في البحث عن الانفعالات العنيفة التي تسيطرُ على الجمهور[27].



وما يؤكد الصفة الحجاجية للخطاب البلاغي، اختلافُ مستويات التلقي؛ فكل الأقوال المدعمة بمختلف الوسائل، ومن خلال مختلف الصيغ اللُّغوية، صالحةٌ أو مقبولة، على أساس أن تلك الأقوال وهذه الصيغ، هي أفعال كلامية لها وظيفة تأثيرية من خلال قوتها الكلامية، التي تظهر من خلال الطرائق المنطقية في البناء والربط والعَلاقات الاستدلالية التي يعدُّ الحجاج أبرز مظاهرها.







فالفعالية الحجاجية، باعتبارها فعالية خطابية، تتجسَّم لُغويًّا بمهارات أسلوبية وتأثيرات بلاغية، وَفْقَ شروط إبداعية، تجعلُها مكسوَّة بألبسة ذات جمالية، يتلبسها مسار الحجاج وعلاقاته الداخلية، ولهذا فمصلحة التأثير والإقناع تقتضي استعمال أساليب ومهارات البيان والتبيين، لتقوية الحجج والرفع من فعاليتها، فيكون النظر إليها من جانبينِ:



باعتبارها ظواهر أدبية وخطابية.



وباعتبار قيمتها الإقناعية؛ حيث يكمن الحجاج البلاغي الذي يتعدَّى نطاق الخطابة، ليصبح سعيًا لكسب تأييد المتلقي ليقبل ويوافق على القضية أو الفعل أو هما معًا[28].








يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 37.32 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 36.69 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.68%)]