
31-08-2022, 04:34 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,740
الدولة :
|
|
رد: عز الدين التنوخي: خطوط رئيسية في تاريخ حياته ودراسة أدبه
ونستطيع أن نتبين رأي التنوخي في الشعر من نحو غير مباشر إذا نحن توقفنا عند دراستين:
أولاهما: كتبها عن شوقي - وإنها لدراسة تجمع بين القيمة والإطراف - وأعدها للمهرجان الذي أقامه المجمع العلمي العربي، ونشرت في مجلته في العدد الثاني من المجلد الثالث عشر.
والأخرى: دراسة كتبها عن مخطوط لأحد شعراء البحرين بعنوان: الشعر في فاتحة القرن الحادي عشر.
وفي كلتا الدراستين نثر المرحوم التنوخي - على عادته - شيئًا من الحديث عن نفسه أحيانًا، وكثيرًا من آرائه أحيانًا أخرى، وهي كلها تكشف عن روح ناقد يتمثل ما يقرؤه تمثُّلاً طيبًا، ويقف عنده مواقف جيادًا بالتعليق أو النقد، أو الموازنة أو الحُكم.
لقد تحدثت عن قصائد التنوخي، ولم أتحدث عن أبيات متفرقات له كثيرة شائعة، بعضها مدون مسطور، وبعضها متناقل محفوظ يرويه أصدقاؤه ومعارفه من الذين كانوا على صلة به.
بعض هذه الأبيات كان ذا غرض تعليمي، وبعضها كان غرضه إلى الإطراف والنكتة وتزجية الوقت. وما كان أقرب الأستاذ التنوخي إلى الإطراف وأشد حرصه عليه.. تعرفه جادًّا ينفق الساعات الطوال وراء منضدته في المجمع، حتى إذا انتهى الوقت لم يشعر بانتهائه إلا أن يمر به صديق له أو زميل في المجمع فيضع يده في يده، ولكنه إلى هذا الجد الجاد كان حين يلتقي بإخوانه يلقاهم منشرحَ الصدر، طلق اللسان بالحديث الخفيف أو النكتة العابرة.. وكان يحرص على أن يصوغ ذلك شِعرًا، وكانت قدرته على إحكام النظم وضبط الوزن تتيح له في ذلك ما لا يتاح لغيره.. فإذا البيت والبيتان والأبيات الثلاثة تنساب في الجلسة، فتكون كما تكون الغمامة في يومٍ قائظ تنشر الظلَّ، وتبعث النشوة ...
إن الظروف التي كانت توضع فيها أوراق البكالوريا وتتعاورها اللجان كانت تمتلئ بهذا اللون من الشعر: بيت يقوله أستاذ، وبيت يقوله أستاذ آخر، فيكون في ذلك بعض التسرية عما يجدون من عناء التصحيح.. وإنه لعناء يشبه الشوق، لا يعرفه إلا من يكابده، ولا يدركه إلا من يعانيه[1].
أما الأبيات الأخرى ذات الغرض التعليمي، فتلك هي الأبيات التي حلى بها كتابه (تهذيب الإيضاح) الذي حققه وشرحه في ثلاثة أجزاء[2] حين أسند إليه تدريس البلاغة في كلية الآداب.
وحين تعرض الكتاب تجد عجبًا من العجب؛ فقد كان الأستاذ المرحوم يورد الأمثلة من القرآن والحديث والشعر، ثم يعقب بمثال يصنعه هو ولكنه لا يسنده إليه، وإنما يقول: ومما روينا.. أو يقول: والعز التنوخي.. أو للعز اللخمي.. أو الغواص التنوخي.
ويظهر أن هذه الأمثلة راقته آخر الأمر حتى مضى في إصدار الأجزاء الأخرى من الكتاب فإذا هو يسجل هذا الهامش الطريف الذي أنقله من آخر التدريبات على التشبيه:
يقول: وللعز التنوخي يصف الدفلى وزهرها الأحمر البهيج[3]:
وبعض الناس مخبرهم قبيح = ومنظرهم - كما تهوى - بهيجُ
كدفلى راع منظرها، ولكن = لها لون وليس لها أريجُ
ويقول في الحاشية: وهو شارح هذا الكتاب، وما كنا نريد عزو شيء من الشعر لنا في الجزأين الأول والثالث، فأوردناه باسم الغواص التنوخي أو اللخمي، وكل ما قلناه: إنه من مروياتنا، فهو لنا، ولولا ملامة الأصدقاء ما عدلنا في هذا الجزء عن التلويح إلى التصريح.
ماذا وراء هذا الصنيع؟ إنه قصد إلى الغرض التعليمي لا شك، ومحاولة لصياغة المثل أقرب ما يكون إلى القاعدة .. إن ذلك أثر من آثار غنى الرواية عند التنوخي، يقرأ الأمثلة الكثيرة ثم لا يلبث أن ينفجر بالمثال الجديد، وبينه وبين الأمثلة السابقات صلات؛ صلات قربى، وتماثل، وتناغم، ولكنه يظل بعيدًا عن الاحتذاء والتقليد.
ولكن وراء هذه القصائد التي عددتها أو عددت شيئًا منها، ووراء هذه الأبيات التعليمية أو المطرفة شيئًا آخر، ذلك هو هذا الشعر الذي كان التنوخي يُعنى بترجمته عن الفرنسية، وكان يحرص على أن يصوغ الترجمة شعرًا .. وإنا لنقع من ذلك على قصيدتين متباعدتين:
أولاهما: قديمة تعود أو يعود نشرها إلى سنة 1921، وقد نشرت في مجلة الرابطة الأدبية التي كانت تصدر في دمشق - ومن حولها ومن ورائها عديد من علمائنا وأدبائنا؛ كالمرحوم الأستاذ الرئيس خليل مردم، والأستاذ سليم الجندي، ومحمد الشريقي، وأحمد شاكر الكرمي، وزكي الخطيب، وإخوانهم - للشاعر الفرنسي فيكتور هوغو بعنوان: (حينما أهل الطفل loswue l enngant parait).
وقد نشرتها الرابطة مقرونة إلى قصيدة أخرى للشاعر الشريقي، وقدمت لهما بهذه المقدمة التي أحب أن أثبت نصها: "هاتان قصيدتان؛ إحداهما: غربية لفحل من فحول شعراء الفرنجة، وهو فيكتور هوغو، والأخرى شرقية لأخ من إخوان الرابطة، وفتى من فتيان الشعر في هذه البلاد، وهو محمد الشريقي، طرق كل منهما موضوع الطفل فأبدع، وقد حملنا ما بين القصيدتين من صلة النسب على نشرهما معًا؛ ليظهر للناس مبلغ الفرق في أساليب التفكير وصوغ المعاني الطارئة على الخاطر بين شاعر غربي أقلَّتْه بلاد الفال الجميلة، وشاعر شرقي أظلته سماء سورية الصافية"[4].
أما القصيدة الثانية فقد جاءت بعد نحو من اثنتين وعشرين سنة؛ أي: في عام 33 في مجلة الثقافة التي كان يصدرها أربعة من مفكرينا: خليل مردم بك، وجميل صليبا، والداغستاني، وكامل عياد.. بعنوان: "أنشودة الحرب" للشاعر آرنت، هذه مقدمتها: "على أثر حروب نابليون بونابرت قامت في الأدب الألماني نزعة وطنية شديدة، شبت في الألمان روح الحماسة والحمية، فقويت بها فكرة الوحدة القومية، وقامت حركة تحرير ألمانية، واليوم ننشر ترجمة قصيدة عنوانها: أنشودة الحرب للشاعر آرنت (1769 - 1860) المعدود من أكبر شعراء الحرب في العالم، وذلك بمناسبة النزعة الوطنية المحتدمة في ألمانيا في أيامنا هذه، ورجوع الشبيبة الألمانية إلى إنشاد هذه القصيدة وأمثالها".
وما أشك في أن الأستاذ التنوخي ترجم القصيدة عن أصل فرنسي، وإن لم يُشِر إلى ذلك.
هذا الحرص على الترجمة وترجمة للشعر بالشعر ماذا يحمل وراءه من دلالات؟
وأحسب أني لا أعدو الواقع إن قلت: إنه لون من المزاوجة التي كان يحرص عليها الكثرة من رجال الأدب والفكر عندنا.. لعلهم أحسوا تحت ضغط السيطرة الأجنبية الفكرية والمادية أنه لا بد من هذه المزاوجة؛ فلجأ إليها كثرة كاثرة، وكان لكل في ذلك طريق، وكان لكل في ذلك مقتبس.. بعض كان يعرف الإنكليزية وينهل منها، وبعض عرف الفرنسية ودار حولها، ولكنهم كانوا، فيما بدا لي، حراصًا على أن يظهر ذلك في آثارهم - وكأنما كان ذلك نوعًا من البدع، أو نوعًا من التعويض... لا أدري كيف أختار الكلمة!
ولم يقتصر الأستاذ التنوخي في الترجمة الشعرية على القصائد فحسب، وإنما تعداها أحيانًا إلى بعض الأقوال التي شاعت في الأدب الفرنسي فأقحمها في بعض مقالاته نثرًا أو نظمًا، وقد نظمت أنا هذا المعنى.
ومهما يكن من أمر هذه الظاهرة، فالمؤكد أنها تقف واحدة من أبرز الظواهر في نتاج التنوخي الشعري، وتضاف بوجه من وجوهها إلى جانب آخر من البحث الذي يستحق أن يتناول تناولاً خاصًّا عن التنوخي المترجم"..
وقد عرفناه مترجمًا في كتاب: قلب الطفل، وفي كتاب: مبادئ الفيزياء.
وإن ذلك لنحو من الحديث لا يتسع له هذا الحيز الضيق.
لقد كان فيما قدمت أن التنوخي الأديب يتمثل في شعره وفي أبحاثه الأدبية، أما النثر فلم أقع له على نثر فني صرف يستوقفني.. ولكن الروح الأدبية عند التنوخي كعروق الذهب التي تمتد هنا وهناك في الصخر تزينه وتبهرجه، وتلقي عليه الألق والرُّوَاء.. إنها يمكن أن تلتمس في مقدمات كتبه، وفي تعليقاته، كما تلتمس في شِعره وأبحاثه.. هي في شِعره وأبحاثه منجم؛ حيث يختلط التراب بالذهب، ويحتاج الأمر إلى تصفيته، وهي في أعماله الأخرى هذه العروق المتشعبة التي تزيِّنُ ترجماتِه وتعليقاته ...
لقد تحدثتُ عن التنوخي الأديب الذي يُحسن الشعر ويجيد النثر، ويتقن المحاضرة ويزين البحث، ولكني أغفلت الأدب الآخر، أدب النفس.. وقفت هذه الوقفة الطويلة عند أدب الدرس، أما أدب النفس الذي هو تتويج لأدب الدرس فقد كان نبضة حية في صدر الأستاذ التنوخي، وكان نورًا نيرًا في وجهه، وسلوكًا واضحًا في سلوكه.. كان مِن أطيب الناس معشرًا، وأصفاهم خُلقًا، وأبعدهم عن كثير من تعقيدات الحياة المعاصرة.. كان إلى البساطة في بعض المواقف أقرب منه إلى أي شيء آخر.. ولم يكن ذلك عن إغفال، ولكنه كان عن تغليب الخير، ومحبة الأخيار، ومجانبة الشر، ومباعدة الأشرار.. كان إذا سئل أجاب فوق ما يريد السائل، وإذا استفتي أفتى فوق ما يحتاج الفتيا.. كان حريصًا على العلم أن يذاع، وعلى اللغة أن تقرب؛ ولذلك كان كثيرًا ما يسوقه اندفاعه هذا وحبه أن يخوض في الحديث فيسرف فيه ويتابعه كأنما كان يريد أن يلقي في نفوس مستمعيه كل ما عنده.. ألم يكن من هذه البقية الصالحة التي تؤمن أن العلم في أعناقنا أمانة، وأن نشر هذا العلم على الناس فريضة؟!
تمنيت لو تحدثت عن ملامح أخرى من أدب النفس عند التنوخي .. عن تواضعه واستواء خُلقه ..
ولست أنسى أيامًا من الطفولة كنت أصحب فيها حلقة من حلقات الدمشقيين على رأسها محدث الشام خالي المرحوم محمود ياسين، وكانت هذه الحلقة تقضي أيامًا من أيام العطل في متنزه العين الخضراء حين كانت العين الخضراء أرضًا عذراء لم تمتد إليها يد بتشذيب أو تهذيب أو تزيين، فكنا نرِدُ العين في ساعات، ونصعد الجبل حولها من هنا وهناك ساعات.. وبين أيدينا دواوين وكتب بعضها محدث وبعضها قديم.. وكان التنوخي، بما وهبه الله من قوة الحافظة وسَعة الرواية، يغني عن الكتاب، فإذا آثر الراحة من الحديث - وقلما يفعل - لجأ يستمع.. فكان يطلب إليَّ أن أقرأ، وكان يقيم أودي، ويصون لساني.. فتركَتْ جلساته هذه في نفسي أثرًا لا يمحى .. حتى إذا استدارت أيام، وانطوت سنون، وشرقت وغربت، واغتربت وعدت، كان من وفاء المرحوم التنوخي وملاطفته أن يحدثني عن هذه الجلسات الممتعة، وأن يشيد بصاحبها - يرحمه الله أوسع رحمة - يذكره بالخير، ويثني عليه أطيب الثناء.
لقد كانت حياة التنوخي الأدبية حياة حافلة، وإنها من الحفل بحيث لا يتسع لها مقال واحد، ولعلي لم أفعل هنا شيئًا أكثر من أني وضعت يدي على بعض معالم هذه الحياة.. ولعل البيئات الثقافية المتعددة في أرجاء الوطن العربي تتضافر على عمل مشترك منظم لإنصاف التنوخي وأمثاله من هذا الجيل الذي واكبه وسبقه، من صانعي أفكارنا، ومهذبي عقولنا، ومنشئي نفوسنا، فتكِلُ أمرَ جمع آثارهم كلها - على أنها وجه من وجوه التطور - إلى بعض الباحثين؛ حتى لا يكون كل ما نفعله أمام تاريخنا ورجالنا أن نذكرهم ساعة بعد الموت، ثم نتعاون مع الموت عليهم.
لقد كانت حياة التنوخي عملاً متصلاً، وضربًا دائبًا في آفاق من الدراسة والتدريس والتأليف، والتحقيق والترجمة والتعريب، والتربية والإدارة والعمل الحكومي والعمل الحر... أفليس من حق هذه السيرة وأمثالها على الوطن أن تكون في متناول أبنائه يجدون فيها نماذج الأصالة والعصامية والدؤوب والغيرة على لغة الكتاب الكريم: اللغة التي هي أنقى وأبقى ما تركت لنا الأيام بعد كل هذا التيه الطويل؟!
وددت لو كان ذلك، وإنه لكائن إن شاء الله.
مجلة معهد البحوث والدراسات العربية
العدد الأول: ذو الحجة 1388هـ / مارس (آذار) 1969
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|