
30-08-2022, 12:31 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,405
الدولة :
|
|
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (350)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 59 إلى صـ 66
وقال صاحب " اللسان " : والقراب غمد السيف والسكين ونحوهما وجمعه قرب أي : بضمتين ، وفي صحاح الجوهري : قراب السيف : جفنه وهو وعاء يكون فيه السيف بغمده ، وحمالته ، ا هـ والقراب ككتاب ، ومن جمعه على قرب بضمتين قوله : [ ص: 59 ]
يا ربة البيت قومي غير صاغرة ضمي إليك رحال القوم والقربا
يعني : ضمي إليك رحالهم وسلاحهم ، في أوعيته .
وبهذه الأحاديث : استدل بعض أهل العلم على أن الصحابة دخلوا مكة محرمين عام سبع وهم متقلدو سيوفهم في أغمادها ، وأن ذلك لعلة خوفهم من المشركين ; لأن الكفار لا يوثق بعهودهم .
وقد علمت أن بعض أهل العلم قال : إن ذلك لا يجوز إلا لضرورة ، والله تعالى أعلم .
وللمخالف أن يقول : إن الأحاديث المذكورة ليس فيها التصريح بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه تقلدوها . ويمكن أن يكونوا حملوا السلاح معهم في رحالهم في أوعيته من غير أن يتقلدوه ، وعلى هذا الاحتمال ، فلا حجة في الأحاديث على تقلد المحرم حمائل السيف ، والعلم عند الله تعالى .
الفرع السادس عشر : قد بينا في هذه المسألة التي هي مسألة ما يمتنع على المحرم بسبب إحرامه أنه يمنع من الطيب ، وسنذكر إن شاء الله في هذا الفرع ما يلزم في ذلك .
اعلم : أن الأئمة الثلاثة مالكا ، والشافعي ، وأحمد لا فرق عندهم بين أن يطيب جسده كله أو عضوا منه ، أو أقل من عضو ، فكل ذلك عندهم إن فعله قصدا يأثم به ، وتلزمه الفدية .
وقال أبو حنيفة : لا تجب عليه الفدية إلا إذا طيب عضوا كاملا ، مثل الرأس ، والفخذ ، والساق ، فإن طيب أقل من عضو فعليه الصدقة ، وهي عندهم نصف صاع من بر أو صاع من غيره ، كتمر وشعير . وقد قدمنا مرارا أن مذهب أبي حنيفة : أنه إن فعل المحظور ، كاللباس ، والتطيب ، لا لعذر ، فعليه دم ، وتجزئه شاة وإن فعله لعذر فعليه فدية الأذى المذكورة في آية الفدية ، على التخيير ، وإن أكل المحرم طيبا كثيرا : لزمه الدم عند أبي حنيفة ، وقال صاحباه محمد وأبو يوسف : تجب في ذلك الصدقة ، وعن محمد : أنه إن طيب أقل من عضو لزمه بحسبه من الدم فإن طيب ثلث العضو ، فعليه ثلث دم مثلا ، وهكذا ، وعن بعض الحنفية : أنه إن طيب ربع عضو : لزمه الدم كاملا كحلق ربع الرأس ، فهو عندهم كحلق جميعه . وهذا خلاف المشهور في تطييب بعض العضو عندهم . وظاهر [ ص: 60 ] كلامهم أنه لو جعل طيبا كثيرا على بعض عضو ، فليس عليه إلا الصدقة . وصحح بعض الحنفية : أنه إن كان الطيب قليلا فالعبرة بالعضو ، وإن كان كثيرا فالعبرة بالطيب ، وله وجه من النظر ، وعن بعض الحنفية أن من مس طيبا بإصبعه ، فأصابها كلها فعليه دم . وعن أبي يوسف : إن طيب شاربه كله أو بقدره من لحيته ، أو رأسه فعليه دم ، وعن بعض الحنفية : أنه إن اكتحل بكحل مطيب ، فعليه صدقة ، ومثله الأنف ، فإن فعل ذلك مرارا كثيرة فعليه دم ، وفي مناسك الكرماني : لو طيب جميع أعضائه فعليه دم واحد ، لاتحاد الجنس ، ولو كان الطيب في أعضاء متفرقة يجمع ذلك كله ، فإن بلغ عضوا : فعليه دم ، وإلا فصدقة ، ولو شم طيبا فليس عليه شيء ، وإن دخل بيتا مجمرا ، فليس عليه شيء ، وإن أجمر ثوبه ، فإن تعلق به كثيرا ، فعليه دم ، وإلا فصدقة انتهى من تبيين الحقائق .
وقال بعض الحنفية : إن طيب أعضاءه كلها في مجلس واحد فعليه دم واحد كما تقدم ، وإن كان ذلك في مجلسين مختلفين ، فعليه لكل واحد دم في قول أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، سواء ذبح للأول أو لم يذبح . وقال محمد : إن ذبح للأول ، فكذلك ، وإن لم يذبح فعليه دم واحد ، والاختلاف فيه كاختلاف في الجماع ، ا هـ .
وأظهرها عندي قول محمد : والحناء عندهم طيب ، فلو خضب رأسه بالحناء ، لزمه الدم . واستدلوا بحديث : " الحناء طيب " . قالوا رواه البيهقي . وسيأتي ما يدل على أن البيهقي رواه في " المعرفة " ، وفي إسناده ابن لهيعة ، وهو ضعيف . وقد روى البيهقي عن عائشة مرفوعا ، ما يدل على أن الحناء ليس بطيب ، والعلم عند الله تعالى : هذا حاصل مذهب أبي حنيفة وأصحابه في الطيب للمحرم .
وأما مذهب مالك في الطيب للمحرم فحاصله : أن الطيب عندهم نوعان : مذكر ومؤنث ، أما المذكر فهو ما يظهر ريحه ، ويخفى أثره : كالريحان ، والياسمين ، والورد ، والبنفسج ونحو ذلك . وأما المؤنث : فهو ما يظهر ريحه ، ويبقى أثره : كالمسك والورس والزعفران والكافور والعنبر والعود ونحو ذلك . فأما المذكر فيكره شمه والتطيب به ، ولا فدية في مسه ، والتطيب به ولو غسل يديه بماء الورد ، فلا فدية عليه عندهم في ذلك ; لأنه من الطيب المذكر ، خلافا لابن فرحون في مناسكه ; حيث قال : إن ماء الورد فيه الفدية ; لأن أثره يبقى ، وممن قال : بأن الطيب المذكر لا فدية في استعماله : عثمان بن عفان ، والحسن ، ومجاهد ، وإسحاق . وأما ما ينبت في الأرض من النبات الطيب الريح ولا يقصد التطيب به ، كالشيح ، والقيصوم ، والزنجبيل ، والإذخر ، فلا فدية فيه [ ص: 61 ] عندهم ، فهو كريح الفواكه الطيبة كالتفاح والليمون ، والأترج وسائر الفواكه ، وبعض أهل العلم يكره شمه للمحرم ، وإن خضب رأسه أو لحيته بحناء ، أو خضبت المرأة رأسها أو رجليها ، أو طرفت أصابعها بحناء ; فالفدية عندهم واجبة في ذلك . وأما مؤنث الطيب : كالمسك ، والورس ، والزعفران ، فإن التطيب به عندهم حرام ، وفيه الفدية .
ومعنى التطيب بالطيب عندهم : إلصاقه بالثوب ، أو باليد وغيرها من الأعضاء ، ونحو ذلك ، فإن علق به ريح الطيب دون عينه بجلوسه في حانوت عطار ، أو في بيت تجمر ساكنوه ، فلا فدية عليه عندهم مع كراهة تماديه في حانوت العطار أو البيت الذي تجمر ساكنوه ، هذا هو مشهور مذهب مالك . وإن مس الطيب المؤنث افتدى عندهم ، وجد ريحه أو لا ، لصق به أو لا ، ويكره شم الطيب عندهم مطلقا .
وأظهر أقوال علماء المالكية في الثوب المصبوغ بالورس ، والزعفران : إذا تقادم عهده ، وطال زمنه حتى ذهب ريحه بالكلية - أنه مكروه للمحرم ، ما دام لون الصبغ باقيا ولكنه لا فدية فيه لانقطاع ريحه بالكلية .
وأقيس الأقوال : أنه يجوز مطلقا ; لأن الرائحة الطيبة التي منع من أجلها زالت بالكلية ، والعلم عند الله تعالى . وإن اكتحل عندهم بما فيه طيب ، فالفدية ، ولو لضرورة مع الجواز للضرورة وبما لا طيب فيه فهو جائز للضرورة ولغيرها ، فثلاثة أقوال مشهورها : وجوب الفدية على الرجل ، والمرأة معا ، وقيل : لا تجب عليهما ، وقيل : تجب على المرأة دون الرجل .
وحاصل مذهب الإمام أحمد في هذه المسألة : أن النبات الذي تستطاب رائحته على ثلاثة أضرب :
أحدها : ما لا ينبت للطيب ولا يتخذ منه ، كنبات الصحراء من الشيح ، والقيصوم ، والخزامى والفواكه كلها من الأترج ، والتفاح وغيره ، وما ينبته الآدميون لغير قصد الطيب ، كالحناء والعصفر ، وهذا النوع مباح شمه في مذهب الإمام أحمد ، ولا فدية فيه .
قال في " المغني " : ولا نعلم فيه خلافا إلا ما روي عن ابن عمر أنه كان يكره للمحرم : أن يشم شيئا من نبات الأرض من الشيح والقيصوم وغيرهما ، قال : ولا نعلم أحدا أوجب في ذلك شيئا فإنه لا يقصد للطيب ، ولا يتخذ منه فأشبه سائر نبات الأرض . وقد روي أن أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كن يحرمن في المعصفرات .
[ ص: 62 ] النوع الثاني : ما ينبته الآدميون للطيب ، ولا يتخذ منه طيب ، كالريحان ، والنرجس ، ونحو ذلك وفي هذا النوع للحنابلة وجهان .
أحدهما : يباح بغير فدية كالذي قبله .
قال في " المغني " : وبه قال عثمان بن عفان ، وابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وإسحاق .
والوجه الثاني : يحرم شمه ، فإن فعل فعليه الفدية .
قال في " المغني " : وهو قول جابر ، وابن عمر ، والشافعي ، وأبي ثور ; لأنه يتخذ للطيب فأشبه الورد . وكرهه مالك ، وأصحاب الرأي ، ولم يوجبوا فيه شيئا ، وكلام أحمد فيه محتمل لهذا ، فإنه قال في الريحان : ليس من آلة المحرم ، ولم يذكر فديته ، وذلك لأنه لا يتخذ منه طيب ، فأشبه العصفر . انتهى من " المغني " .
والنوع الثالث عندهم : هو ما ينبت للطيب ، ويتخذ منه طيب كالورد والبنفسج والياسمين ، ونحو ذلك . وهذا النوع إذا استعمله ، وشمه ففيه الفدية عندهم ; لأن الفدية تجب فيما يتخذ منه ، فكذلك في أصله . وعن أحمد رواية أخرى في الورد : أنه لا فدية عليه في شمه ; لأنه زهر كزهر سائر الشجر .
قال في " المغني " : وذكر أبو الخطاب في هذا ، والذي قبله روايتين ، والأولى تحريمه ; لأنه ينبت للطيب ، ويتخذ منه ، فأشبه الزعفران والعنبر . قال القاضي : يقال : إن العنبر ثمر شجر وكذلك الكافور . انتهى من " المغني " .
وقال في " المغني " أيضا : فكل ما صبغ بزعفران ، أو ورس ، أو غمس في ماء ورد ، أو بخر بعود ، فليس للمحرم لبسه ولا الجلوس عليه ، ولا النوم عليه نص أحمد عليه ، وذلك لأنه استعمال له ، فأشبه لبسه ، ومتى لبسه أو استعمله ، فعليه الفدية . وبذلك قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة : إن كان رطبا يلي بدنه أو يابسا ينفض فعليه الفدية ، وإلا فلا ; [ ص: 63 ] لأنه ليس بمتطيب ، ثم قال صاحب " المغني " : وإن انقطعت رائحة الثوب ؛ لطول الزمن عليه أو لكونه صبغ بغيره فغلب عليه بحيث لا يفوح له رائحة إذا رش فيه الماء ، فلا بأس باستعماله لزوال الطيب منه . وبهذا قال سعيد بن المسيب ، والحسن ، والنخعي ، والشافعي ، وأبو ثور ، وأصحاب الرأي . وروي ذلك عن عطاء ، وطاوس ، وكره ذلك مالك ، إلا أن يغسل ، ويذهب لونه ; لأن عين الزعفران ونحوه فيه . ثم قال : فأما إن لم يكن له رائحة في الحال لكن كان بحيث إذا رش فيه الماء فاح ريحه ، ففيه الفدية ; لأنه متطيب بدليل أن رائحته تظهر عند رش الماء فيه . والماء لا رائحة له ، وإنما هي من الصبغ الذي فيه . فأما إن فرش فوق الثوب ثوبا صفيقا يمنع الرائحة والمباشرة : فلا فدية عليه بالجلوس ، والنوم عليه ، وإن كان الحائل بينهما ثياب بدنه ففيه الفدية ; لأنه يمنع من استعمال الطيب في الثوب الذي عليه كمنعه من استعماله في بدنه . انتهى من " المغني " .
وأما العصفر : فليس عندهم بطيب ، ولا بأس باستعماله ، وشمه ، ولا بما صبغ به .
قال في " المغني " : وهذا قول جابر ، وابن عمر ، وعبد الله بن جعفر ، وعقيل بن أبي طالب ، وهو مذهب الشافعي ، وعن عائشة وأسماء ، وأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أنهن كن يحرمن في المعصفرات " ، ومنع منه الثوري ، وأبو حنيفة ، ومحمد بن الحسن وشبهوه بالورس ، والمزعفر ; لأنه صبغ طيب الرائحة فأشبه ذلك ، ا هـ .
والأظهر : أن العصفر ليس بطيب مع أنه لا يجوز لبس المحرم ولا غيره للمعصفر ، وقد قدمنا فيه حديث ابن عمر ، عند أبي داود " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب وما مسه الورس والزعفران من الثياب ، وليلبسن بعد ذلك ما أحببن من ألوان الثياب من معصفر أو خز " الحديث ، وهو صريح في أن العصفر : ليس بطيب . وقد قدمنا الكلام على هذا الحديث .
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : " كان أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يختضبن بالحناء ، وهن محرمات ، ويلبسن المعصفر وهن محرمات " .
وقال في " مجمع الزوائد " : رواه الطبراني في الكبير ، وفيه يعقوب بن عطاء ، وثقه ابن حبان ، وضعفه جماعة ، ا هـ . وسيأتي ما يدل على منع لبس المعصفر مطلقا .
وقال صاحب " المغني " أيضا : ولا بأس بالمصبوغ بالمغرة ; لأنه مصبوغ بطين لا بطيب ، وكذلك المصبوغ بسائر الأصباغ ، سوى ما ذكرنا ; لأن الأصل الإباحة ، إلا [ ص: 64 ] ما ورد الشرع بتحريمه ، وما كان في معناه ، وليس هذا كذلك ، وأما المصبوغ بالرياحين : فهو مبني على الرياحين في نفسها ، فما منع المحرم من استعماله منع من لبس المصبوغ به إذا ظهرت رائحته ، وإلا فلا ، وهذا الذي ذكرنا هو حاصل مذهب الإمام أحمد في الطيب للمحرم ، ولا فرق عنده بين قليل الطيب وكثيره ، ولا بين قليل اللبس وكثيره ، كما تقدم إلا أنه يفرق بين تعمد استعمال الطيب واللبس وبين استعماله لذلك ناسيا ، فإن فعله متعمدا أثم ، وعليه الفدية ، وإزالة الطيب واللباس فورا ، وإن تطيب ، أو لبس ناسيا : فلا فدية عليه ، ويخلع اللباس ، ويغسل الطيب .
قال ابن قدامة في " المغني " : المشهور أن المتطيب ناسيا ، أو جاهلا لا فدية عليه ، وهو مذهب عطاء ، والثوري ، وإسحاق ، وابن المنذر . انتهى محل الغرض منه ، ثم ذكر أن الذي يستوي عمده ونسيانه في لزوم الكفارة ثلاثة أشياء : وهي الجماع ، وقتل الصيد ، وحلق الرأس ، وأن كل ما سوى هذه الثلاثة يفرق فيه بين العمد والنسيان . وذكر أن الإمام أحمد نقل عن سفيان أن الثلاثة المذكورة يستوي عمدها ونسيانها في لزوم الكفارة .
وقال في " المغني " : ويلزمه غسل الطيب ، وخلع اللباس ; لأنه فعل محظورا ، فيلزمه إزالته ، وقطع استدامته كسائر المحظورات ، والمستحب أن يستعين في غسل الطيب بحلال لئلا يباشر المحرم الطيب بنفسه . ويجوز أن يليه بنفسه ، ولا شيء عليه ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للذي رأى عليه طيبا أو خلوقا : " اغسل عنك الطيب " ولأنه تارك له ، فإن لم يجد ما يغسله به ، مسحه بخرقة ، أو حكه بتراب ، أو ورق أو حشيش ; لأن الذي عليه إزالته بحسب القدرة . وهذا نهاية قدرته ثم قال : وإذا احتاج إلى الوضوء ، وغسل الطيب ، ومعه ماء لا يكفي إلا أحدهما : قدم غسل الطيب ويتيمم للحدث ; لأنه لا رخصة في إبقاء الطيب ، وفي ترك الوضوء إلى التيمم رخصة ، فإن قدر على قطع رائحة الطيب بغير الماء فعل وتوضأ ، فإن المقصود من إزالة الطيب قطع رائحته ، فلا يتعين الماء ، والوضوء ، بخلافه انتهى منه . وهذا خلاصة المذهب الحنبلي في مسألة الطيب للمحرم .
ومذهب الشافعي في هذه المسألة : أنه يحرم على الرجل والمرأة استعمال الطيب ، ولا فرق عنده بين القليل والكثير ، واستعمال الطيب عنده : هو أن يلصق الطيب ببدنه ، أو ملبوسه على الوجه المعتاد في ذلك الطيب . فلو طيب جزءا من بدنه بغالية ، أو مسك مسحوق ، أو ماء ورد : لزمته الفدية ، سواء كان الإلصاق بظاهر البدن أو باطنه ، فإن أكله أو احتقن به ، أو استعط ، أو اكتحل أو لطخ به رأسه ، أو وجهه أو غير ذلك من بدنه أثم ، [ ص: 65 ] ولزمته الفدية ، ولا خلاف عندهم في شيء من ذلك ، إلا الحقنة والسعوط ففيهما وجه ضعيف : أنه لا فدية فيهما .
ومشهور مذهب الشافعي : وجوب الفدية فيهما ، ولو لبس ثوبا مبخرا بالطيب ، أو ثوبا مصبوغا بالطيب ، أو علق بنعله طيب ، لزمته الفدية عند الشافعية ولو عبقت رائحة الطيب دون عينه ، بأن جلس في دكان عطار أو عند الكعبة ، وهي تبخر أو في بيت يبخر ساكنوه : فلا فدية عليه بلا خلاف ، ثم إن لم يقصد الموضع لاشتمام الرائحة ، لم يكره ، وإن قصده لاشتمامها ففي كراهته قولان للشافعي ، أصحهما : يكره ، وبه قطع القاضي أبو الطيب وآخرون ، وهو نصه في الإملاء ، والثاني : لا يكره ، وقطع القاضي حسين بالكراهة ، وقال : إنما القولان في وجوب الفدية ، والمذهب الأول ، وبه قطع الأكثرون . قاله : النووي ثم قال : ولو احتوى على مجمرة فتبخر بالعود بدنه أو ثيابه : لزمته الفدية ، بلا خلاف ; لأنه يعد استعمالا للطيب ، ولو مس طيبا يابسا كالمسك والكافور ، فإن علق بيده لونه وريحه وجبت الفدية ، بلا خلاف ; لأن استعماله هكذا يكون ، وإن لم يعلق بيده شيء من عينه ، لكن عبقت به الرائحة ، ففي وجوب الفدية قولان ، الأصح عند الأكثرين وهو نصه في الأوسط : لا تجب ; لأنها عن مجاورة فأشبه من قعد عند الكعبة ، وهي تبخر ، والثاني : تجب ، وصححه القاضي أبو الطيب ، وهو نصه في الأم والإملاء والقديم ; لأنها عن مباشرة ، وإن ظن أن الطيب يابس فمسه ، فعلق بيده ففي الفدية عند الشافعية قولان أصحهما : لا تجب عليه الفدية ، خلافا لإمام الحرمين .
وأما إن مس الطيب ، وهو عالم بأنه رطب وكان قاصدا مسه ، فعلق بيده ، فعليه فدية عندهم ، ولو شد مسكا أو كافورا ، أو عنبرا في طرف ثوبه أو جبته : وجبت الفدية عندهم قطعا ; لأنه استعمال له ، ولو شد العود فلا فدية ; لأنه لا يعد تطيبا ، بخلاف شد المسك ، ولو شم الورد فقد تطيب عندهم ، بخلاف ما لو شم ماء الورد ، فإنه لا يكون متطيبا عندهم ، بل استعمال ماء الورد عندهم هو أن يصبه على بدنه أو ثوبه ولو حمل مسكا ، أو طيبا غيره في كيس ، أو خرقة مشدودا ، أو قارورة مصممة الرأس ، أو حمل الورد في وعاء : فلا فدية عليه . نص عليه في الأم وقطع به الجمهور : وفيه وجه شاذ : أنه إن كان يشمه قصدا : لزمته الفدية ، ولو حمل مسكا في قارورة غير مشقوقة : فلا فدية في أصح الوجهين .
ولو كانت القارورة مشقوقة ، أو مفتوحة الرأس ، فعن جماعة من الأصحاب [ ص: 66 ] الشافعيين : تجب الفدية ، وخالف الرافعي قائلا : إن ذلك لا يعد تطيبا ، ولو جلس على فراش مطيب أو أرض مطيبة ، أو نام عليها مفضيا إليها ببدنه أو ملبوسه : لزمته الفدية عندهم . ولو فرش فوقه ثوبا ، ثم جلس عليه ، أو نام : لم تجب الفدية . نص عليه الشافعي في الأم . واتفق عليه الأصحاب ، لكن إن كان الثوب رقيقا كره ، وإلا فلا ، ولو داس بنعله طيبا لزمته الفدية ، وإن خفيت رائحة الطيب في الثوب لطول الزمان ، فإن كانت تفوح عند رشه بالماء حرم استعماله ، وإن بقي لون الطيب دون ريحه ، لم يحرم على أصح الوجهين .
ولو صب ماء ورد في ماء كثير ، حتى ذهب ريحه ولونه : لم تجب الفدية باستعماله في أصح الوجهين . فلو ذهبت الرائحة ، وبقي اللون ، أو الطعم فحكمه عندهم حكم من أكل طعاما فيه زعفران أو طيب . وذلك أن الطيب إن استهلك في الطعام ، حتى ذهب لونه ، وريحه وطعمه : فلا فدية . ولا خلاف في ذلك عندهم ، وإن ظهر لونه وطعمه ، وريحه وجبت الفدية ، بلا خلاف ، وإن بقيت الرائحة فقط : وجبت الفدية ; لأنه يعد طيبا ، وإن بقي اللون وحده ، فطريقان مشهوران :
أصحهما : أن فيه قولين الأصح منهما : أنه لا فدية فيه ، وهو نص الشافعي في الأم والإملاء والقديم . الثاني : تجب الفدية ، وهو نصه في الأوسط .
والطريق الثاني : أنه لا فدية فيه قطعا ، وإن بقي الطعم وحده ففيه عندهم ثلاث طرق أصحها : وجوب الفدية قطعا : كالرائحة ، والثاني : فيه طريقان بلزومها وعدمه ، والثالث : لا فدية ، وهذا ضعيف أو غلط . وحكى بعض الشافعية طريقا رابعا : وهو أنه لا فدية قطعا ولو كان المحرم أخشم لا يجد رائحة الطيب ، واستعمل الطيب : لزمته الفدية عندهم ، بلا خلاف ; لأنه وجد منه استعمال الطيب مع علمه بتحريم الطيب على المحرم فوجبت الفدية ، وإن لم ينتفع به كما لو نتف شعر لحيته أو غيرها من شعوره التي لا ينفعه نتفها قال النووي : وممن صرح بهذا المتولي ، وصاحب العدة والبيان ، ا هـ .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|