شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الصيام)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (206)
صـــــ(1) إلى صــ(24)
شرح زاد المستقنع - باب صوم التطوع [1]
لقد شرع الصيام فرضاً ونفلاً، وما ذلك إلا لعظيم أجره وثوابه، ومما ندب إلى صيامه: صيام الست من شوال، وأيام البيض، والإثنين والخميس، ويوم عرفة، وعاشوراء، وشهر المحرم، وما ذلك إلا ليبقى العبد على صلة دائمة بالله عز وجل عن طريق الصيام، فالصيام يطهر النفس، ويكسر الشهوة، ويحصل التقوى التي هي الغاية والحكمة من مشروعيته.
فضل صيام التطوع
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: يقول عليه رحمة الله: [باب صوم التطوع] التطوع: تفعّل من الطاعة، والمراد بذلك زيادة الطاعة والتقرب لله عز وجل بفعل الصوم، وتوضيحه أن الصوم ينقسم إلى قسمين: قسم أوجبه الله عز وجل وفرضه على المكلف، كصيام رمضان، وصيام الكفارات، وصيام النذر، فهذا يلزم المكلف به نفسه فيجب عليه القيام به.
وقسم ثانٍ لا يجب على المكلف وهو صيام النافلة.
وصيام النافلة: منه ما هو مطلق، كأن يصوم من الأيام ما شاء، ومنه ما هو مقيد، ندب الشرع إليه وحث العباد عليه، وهذا أفضل من النوع الذي قبله.
فالمؤلف لما فرغ من بيان أحكام الصيام الواجب، شرع رحمه الله في بيان أحكام الصوم الذي لا يجب على المكلف.
يقول العلماء: إن صيام التطوع تجبر به الفريضة، فلو أن إنساناً أخل بصوم الفرض جبر الله نقص صيام الفريضة بصيام النافلة.
واستدلوا لذلك: بما ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام: ( إن أول ما يحاسب عنه العبد من عمله الصلاة، فإن كان فيها نقص قال الله لملائكته: انظروا هل لعبدي من تطوع ) .
قالوا: فهذا يدل على أن نقص الفرائض يكمل من النوافل والتطوع؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( ثم سائر عمله على ذلك ) قالوا: فهذا يدل على أن سائر الأعمال يفرق بين فرضها ونفلها، فيكون نفلها مكملاً لفريضتها.
وعلى هذا فمن فوائد صيام التطوع من فوائده أن الله يجبر به تقصير العبد في الفرائض، ثم إن صيام التطوع زيادة قربة وامتثال وطاعة لله عز وجل، فتزيد من محبة الله للعبد كما في الحديث الصحيح: ( ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه ) .
فالتقرب بالنوافل يزيد من حسنات العبد ويرفع من درجته، ويوجب محبة الله للعبد، وبقدر حرص الإنسان على فعل النوافل والطاعات يكون أقرب لمحبة الله، فأولى الناس بمحبة الله من حافظ على النوافل وأكثر منها.
والسبب في ذلك أنه يفعل شيئاً لم يلزمه الله به بل ترك له الخيار، فصدق في طاعته ومحبته لله عز وجل فتطوع، ويشمل ذلك الطاعات البدنية من صلاة وصيام، والنوافل المالية كالصدقات التي ينفقها الإنسان من ماله ونحو ذلك من القرب.
كأن المصنف رحمه الله يقول: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بصيام التطوع، وقد ذهب بعض العلماء إلى أن أفضل الطاعات وأشرفها الصيام؛ والسبب في ذلك أن الصيام يقوم على الإخلاص، والإخلاص هو أحب الأعمال إلى الله عز وجل.
حتى قال بعض أصحاب الإمام الشافعي رحمة الله على الجميع: إن الصيام أفضل من الصلاة؛ والسبب في ذلك أن الصلاة ربما دخلها الرياء، كما قال تعالى: { وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا } [النساء:142].
ولكن في الصيام قال الله عز وجل في الحديث القدسي: ( إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به ) ففضلوا الصيام، وقالوا: إنه من أفضل الطاعات فريضة ونافلة، ففي الفرائض هو أفضل من بقية الفرائض، وفي النوافل نافلته أفضل من بقية النوافل.
وعلى هذا خرّجوا أن الاستكثار من الصوم أفضل من الاستكثار من بقية النوافل إذا كانت تشغل عنه.
والصحيح أن الصلاة أفضل من الصيام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة )؛ ولأنها عماد الدين؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل -كما في الصحيحين: من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه- ( أي: العمل أحب إلى الله عز وجل ؟ قال: الصلاة على وقتها ) فالصلاة أفضل من الصيام؛ لكن المراد هنا الإشارة إلى تفضيل صيام التطوع.
ولا شك في أن صيام التطوع له فضيلة عظيمة، ومنزلة شريفة كريمة، ولا يحافظ على الصيام لوجه الله عز وجل إلا مؤمن، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ( من صام يوماً في سبيل الله شديداً حره باعد الله عن وجهه النار سبعين خريفاً ) فهذا يدل على فضيلة الطاعة والتقرب لله سبحانه وتعالى بالصيام.
صيام أيام البيض وحقيقتها
قال رحمه الله: [يسن صيام أيام البيض].
أي: من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم صيام أيام البيض، وأيام البيض هي: اليوم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، وقال بعض العلماء: هي الثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر، والصحيح الأول.
وقد ثبت بذلك حديث أبي ذر الذي رواه الترمذي حسنه غير واحد من الأئمة: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بصيام الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر )، ووُصفت هذه الأيام بكونها أيام بيض؛ لأن السماء تبيضّ من شدة ضياء القمر؛ والسبب في ذلك اكتمال ضوئه، وقال العلماء: إن صيامها سنة ومستحب.
وذهب الإمام مالك رحمة الله عليه وطائفة من أصحابه إلى المنع من صيام أيام البيض ومنع تحريها، ولعل الإمام مالكاً رحمه الله لم يبلغه الحديث في ذلك، وإن كان بعض العلماء يرى أن الإمام مالكاً كان يشدد في صيام أيام البيض أول الأمر، ثم لما ثبتت عنده السُّنة خفّف في ذلك، بل روي عنه أنه كان يصومها.
وقال بعض أصحابه: إنما منع منها أول الأمر؛ لأنه لم تثبت عنده السُّنة، وهذا عذر للأئمة الذين ربما يؤثر عنهم القول بخلاف السنة؛ لعدم اطلاعهم عليها، كما قرر ذلك الإمام شيخ الإسلام رحمه الله في كتابه النفيس: رفع الملام، وكذلك صاحب كتاب: الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف بين الأئمة، رحمة الله عليهم.
فالصحيح أن صيام أيام البيض قربة ومستحب وأنه ليس بممنوع، وأيام البيض كما قلنا: هي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر.
وللعلماء فيها وجهان: الوجه الأول: أن أيام البيض هي الأيام الثلاثة التي ندب إلى صيامها من كل شهر، كما في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ( أوصاني خليلي رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث: أن أصوم ثلاثة أيام من كل شهر، وأن أوتر قبل أن أنام، وبركعتي الضحى ) فقوله: (ثلاثة أيام من كل شهر) الصحيح أنها هي الأيام البيض، وأن أفضل ما يكون من صيام ثلاثة أيام من كل شهر أن تكون الأيام البيض.
وقال بعض العلماء: الأيام البيض غير الأيام الثلاث.
والصحيح أنها هي الثلاث؛ لحديث أبي ذر رضي الله عنه: ( إذا صمت ثلاثاً من كل شهر فصم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر ) .
فهذا حديث صريح في أن الأيام الثلاثة من كل شهر أفضل ما تكون الأيام البيض، وقد جاءت السنة بخلاف تنوعي وليس فيه تضاد في الروايات والأحاديث، فقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يصوم الثلاثة أيام من غرة كل شهر، وجاء في رواية أنه كان يصوم السبت والأحد والإثنين إذا وافقت أول الشهر، فإذا كان الشهر الثاني صام الثلاثاء والأربعاء والخميس.
قال الحافظ ابن حجر رحمة الله عليه: لعل الحكمة في ذلك أن يعدل بين الأيام صلوات الله وسلامه عليه، فكان إذا وافق بداية الشهر صام السبت والأحد والإثنين كما جاءت عنه الرواية، وإذا كان الشهر الذي يليه صام الثلاثاء والأربعاء والخميس.
وجاءت الرواية أنه كان يصوم الثلاثة الأيام من غرة كل شهر، فيقول بعض العلماء: هذه الثلاث التي هي من كل شهر تنوعت السُّنة بها، فتارة تكون من غرة الشهر، وتارة تكون من أوسط الشهر في الأيام البيض، وتارة تكون من آخر الشهر.
والخلاف هنا خلاف تنوع وليس بخلاف تضاد، بأن تحمل على أيام مخصوصة؛ فالصحيح والأقوى أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل جميع ذلك توسعة؛ لأن الناس يختلفون في أحوالهم.
قالوا: إنما كانت الغرة؛ لأنها مبادرة بالخير؛ لأن صيام الثلاثة الأيام من كل شهر سنة مستحبة، فالأفضل أن تبادر بها في أول الشهر؛ لأنه مسارعة إلى الخير ومسابقة إلى الطاعة، وذلك مندوب ومرغوب فيه، ويكون صيام الإنسان له على هذا الوجه قربة وطاعة.
وأما إذا لم يتيسر لك صيام الغرة، فإنك تصوم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، أي: تنتقل إلى منتصف الشهر، فإذا لم يتيسر لك أوله وأوسطه صمت آخره، والأمر في ذلك واسع.
وعلى هذا فإن صيام الثلاثة الأيام من كل شهر الأفضل أن تكون الأيام البيض، ولا حرج أن تكون من غرة الشهر لورود السُّنة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك.
وقد ذكر بعض العلماء -كما نبه بعض الأطباء- ومنهم الحكيم الترمذي في كتابه: المنهيات، إلى أن هذه الأيام وهي اليوم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، يكتمل فيها ضياء القمر ويكثر فيها الأرق ويشتد فيها هيجان الدم، فالصوم يخفف من هذا ويكون فيه لطف بالبدن.
فجمعت السنة بين خير الدين والدنيا، وعلى هذا ففي صيام الأيام البيض علة أخرى مع كونها قربة لله عز وجل، فإنها تتضمن الرفق بالبدن من هيجان الدم في ليالي البيض عند اكتمال واشتداد الضوء.
ومن بعد الخامس عشر ينكسر ضوء القمر، ويكون الأرق أخف من أيام الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، وهذا أمر معروف لمن جرّب ذلك في النوم تحت السماء مباشرة، فإن الأرق في هذه الأيام يشتد ويكون أكثر من غيرها كما لا يخفى.
صيام الإثنين والخميس
قال رحمه الله: [والإثنين والخميس].
أي: ويسن صيام يومي الإثنين والخميس، وهما يومان تعرض فيهما الأعمال على الله عز وجل، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم الإثنين والخميس، وقال -كما في الحديث الصحيح عنه-: ( تعرض الأعمال على الله في كل إثنين وخميس ) .
وجاء في الرواية الأخرى: ( تفتح أبواب الجنة كل إثنين وخميس فيغفر لكل عبد مسلم لا يشرك بالله شيئاً، إلا اثنين بينهما شحناء، فيقال: أَنْظِرا هذين حتى يصطلحا ) وهذا من شؤم القطيعة والعياذ بالله.
قال بعض العلماء: يشمل هذا أن تكون القطيعة في حدود الأيام المسموح بها، وهي حدود الثلاثة الأيام، أو تكون قد جاوزت، قالوا: إذا كانت في حدود الثلاثة الأيام أن توافق يوم إثنين، فتكون بينه وبين رجل قطيعة فيقطعه يوماً ويوافق ذلك يوم إثنين، فيمنع من حصول هذا الخير من إصابة الرحمة له، نسأل الله السلامة والعافية.
وقد جاءت في السُّنة ثلاثة أدلة تدل على شؤم القطيعة: أولها: حديث أبي داود : ( هجر المسلم سنة كسفك دمه ) ، وقد صححه غير واحد من العلماء رحمة الله عليهم، يقولون: إنه إذا هجر المسلم أخاه سنة كاملة، فإنه تتراكم عليهم الذنوب حتى تصل في جرمها وقدرها جرم من قتل نفساً بدون حق؛ لأنه لا يأمن خلال هذه السنة من الحقد عليه والضغينة عليه، فتجتمع عليه مظالم القلب ومظالم اللسان، فلا يأمن من غيبته ولا يأمن من الوقيعة فيه، مع ما في القطيعة نفسها من إثم.
وأما النص الثاني: فحديث ليلة القدر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أراه الله ليلة القدر، فأثناء بيانها له تلاحى رجلان واختصما، ووقعت بينهما الفتنة وهما: أُبي و أبو حدرد الأسلمي رضي الله عنهما في دَيْن لهما، فتخاصما وتشاجرا حتى ارتفعت أصواتهما في المسجد، فشوشا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ورُفعت ليلة القدر.
قال بعض العلماء: فمن شؤم الخصام والخلاف أن الله رفع هذا الخير العظيم عن الأمة.
وأما الأمر الثالث: فهذا الحديث، وهو كونه تعرض الأعمال على الله في كل إثنين وخميس، فلا يغفر للإنسان إذا كان قاطعاً لأخيه.
وأما بالنسبة لصيام الإثنين والخميس فمندوب إليه، ومفضّل لمكان عرض الأعمال على الله عز وجل، قال عليه الصلاة والسلام: ( فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم ) أي: والحال أني صائم.
قال بعض العلماء: لأنه إذا عُرِضَ العمل وهو صائم فهو مظنة أن يُرحم العبد، وأن يتجاوز الله عز وجل عن إساءته، وأن يتقبل ما كان من طاعته فيحصل على الخيرين، فإن كان عبداً طائعاً فهو أحرى أن يتقبل الله طاعته، والقبول هو خير ما يطلبه الإنسان من ربه إذا عمل العمل.
وأما إن كان مسيئاً فيكون مظنة أن يرحمه الله عز وجل ويغفر له.
أقوال العلماء في صيام الست من شوال والراجح منها
قال رحمه الله: [وست من شوال].
أي: يندب له صيام ست من شوال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيح: ( من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال كان كمن صام الدهر ) والست من شوال يستوي أن تقع مرتبة أو تقع متفرقة، ويجزئه أن يصوم الإثنين والخميس ينوي بها الست من شوال، وينوي بها أن يعرض عمله وهو صائم فيحصل على الفضيلتين؛ لأن المقصود من صيام الإثنين والخميس أن يعرض العمل والعبد صائم، وهذا يقع في حالة نيته عن ست من شوال.
وتقع الست من شوال إذا كان الإنسان عليه قضاء من رمضان، فلو أخر قضاء رمضان ولم يصمه وصام ستاً من شوال قبل فإنه يجزئه، ويحصّل هذه الفضيلة والخير؛ لأن قوله عليه الصلاة والسلام: (من صام رمضان) خرج مخرج الغالب، يعني على الأصل من صيامه، أو يقال: إن قوله: (من صام رمضان) يشمل صيام رمضان بعينه وصيام القضاء.
وقال بعض العلماء كما هو مذهب طائفة من الحنابلة والشافعية لا يجزئ أن يصوم الست قبل صيام رمضان؛ وذلك لأنه لم يصم رمضان؛ ولأنه لا يتأتى منه أن يتنفل وعليه فريضة.
والصحيح أنه يجزئ أن يصوم ستاً من شوال قبل القضاء؛ لأن قوله: (من صام رمضان) لو أخذ بظاهره لم يدخل النساء في هذه الفضيلة؛ لأن المرأة لابد وأن يأتيها العذر أثناء رمضان، فلابد وأن يكون عليها قضاء.
فإذا قيل: إنها إذا صامت بعد انتهاء يوم العيد صامت قضاءها ثم صامت الست، فإنها قد صامت رمضان وحينئذٍ يحصل لها الفضل، نقول: يستوي أن تصوم من شعبان أو تصوم من غيره، ويكون قوله عليه الصلاة والسلام: ( من صام رمضان ) على غير ظاهره؛ وإنما المراد أن يجمع العدد وهو ست وثلاثون، فإذا كان الإنسان قد صام ستاً وثلاثين، فإنه يستوي أن تكون أيام رمضان أصلاً أو قضاءً، ثم يصوم ستاً من شوال فحينئذٍ يكون محصلاً لهذه الفضيلة سواء سبق القضاء أو تأخر.
ومن الأدلة على ذلك: أنه لو قيل بأنه لابد من تقدم القضاء، فإن المرأة النفساء يأتيها النفاس ويستمر معها شهر رمضان كله، وقد يستمر معها خمسة وعشرين يوماً مثلاً، فكيف ستصوم ستاً من شوال؟ لا يتأتى لها بحال أن تصيب هذا الفضل، فعلمنا أن المراد من ذلك إنما هو المبادرة بالخير بصيام رمضان أصلاً أو قضاءً، ويستوي في ذلك أن يكون قضاؤه من شوال أو يكون قضاؤه من غير شوال.
أما كونه يتنفل وعليه فرض فهذا لا إشكال فيه؛ لأن الفرض إذا كان موسعاً فإنه لا حرج أن يتنفل صاحبه، بدليل ما لو أذن أذان الظهر فإنه يجوز للمسلم أن يصلي الراتبة القبلية مع أنه مخاطب بالفرض، لأن الوقت واسع، وقضاء رمضان وقته واسع كما ثبتت بذلك السُّنة الصحيحة في حديث أم المؤمنين عائشة : ( إن كان يكون عليّ الصوم من رمضان فلا أقضيه إلا في شعبان لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مني ) والإجماع على هذا.
وبناءً على ذلك فلا حرج أن يصوم القضاء بعد صيام الست، وحديث عائشة : ( إن كان يكون علي الصوم من رمضان فلا أقضيه إلا في شعبان ) يدل دلالة واضحة على أنها كانت تتنفل قبل الفريضة، ولذلك كانت تصوم الست؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يندب إليها، والغالب أنها كانت تصوم، وثبت عنها في الرواية أنها صامت يوم عرفة.
وعلى هذا فإن الصحيح والأقوى أنه يجوز أن يؤخر القضاء إلى ما بعد الست، لكن الأفضل والأكمل للإنسان أن يقدم قضاء رمضان ثم يصوم الست من بعد ذلك، وهذا أكمل من عدة وجوه، فضلاً عن كونه خروجاً من الخلاف، فإنه أفضل لما فيه من المعاجلة والمبادرة بإبراء الذمة، وذلك مندوب إليه شرعاً.
فصيام ست من شوال مندوب إليه، خلافاً للمالكية الذين يشددون في صيام ست من شوال، وأُثر عن الإمام مالك أنه كره صيام الست من شوال.
وللعلماء خلاف في سبب كراهية الإمام مالك لصيام الست، فقيل: إن الناس كانوا بمجرد فطرهم بعد يوم العيد يبتدئون صيام الست كما يفعله البعض الآن، فأصبح الناس في أيام العيد يضيقون على أنفسهم مع أنها أيام عيد، ولذلك كره هذه المبادرة والمعاجلة بصيام الست بمجرد انتهاء يوم العيد.
وقال بعضهم: إنما كره متابعتها بعد العيد؛ حتى لا يُظن أنها من رمضان، فيأتي زمان يعتقد الناس أنها كالفرض والواجب، فكان من باب سد الذرائع، ومن أصول مالك رحمة الله عليه التي بنى عليه مذهبه: القول بسد الذرائع، فكان يقول: بالمنع من الصيام على هذا الوجه سداً للذريعة.
وقيل: إنه كان يكره تتابعها، وهي أن يصومها ستاً سرداً وراء بعضها؛ حتى لا يعتقد أن ذلك فرض، والصحيح أنه يُشرع أن يصوم ستاً من شوال سواء أوقعها متتابعة أو أوقعها بعد يوم العيد، أو فرقها؛ لأن السنة أطلقت، لكن الأفضل الذي تطمئن إليه النفس، أن الإنسان يترك أيام العيد للفرح والسرور.
ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في أيام منى: ( إنها أيام أكل وشرب )، كما جاء في حديث عبد الله بن حذافة : ( فلا تصوموها ) ، فإذا كانت أيام منى الثلاثة لقربها من يوم العيد أخذت هذا الحكم، فإن أيام الفطر لا تبعد فهي قريبة.
ولذلك تجد الناس يتضايقون إذا زارهم الإنسان في أيام العيد فعرضوا عليه ضيافتهم، وأحبوا أن يصيب من طعامهم فقال: إني صائم، وقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه لما دعاه الأنصاري لإصابة طعامه ومعه بعض أصحابه، فقام فتنحى عن القوم وقال: إني صائم، أي: نافلة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن أخاك قد تكلّف لك فأفطر وصم غيره ) .
فحينما يدخل الضيف في أيام العيد، خاصة في اليوم الثاني والثالث، فإن الإنسان يأنس ويرتاح إذا رأى ضيفه يصيب من ضيافته، كونه يبادر مباشرة في اليوم الثاني والثالث بالصيام لا يخلو من نظر، فالأفضل والأكمل أن يطيب الإنسان يطيّب خواطر الناس، وقد تقع في هذا اليوم الثاني والثالث بعض الولائم، وقد يكون صاحب الوليمة له حق على الإنسان كأعمامه وأخواله، وقد يكون هناك ضيف عليهم فيحبون أن يكون الإنسان موجوداً يشاركهم في ضيافتهم، فمثل هذه الأمور من مراعاة صلة الرحم وإدخال السرور على القرابة لا شك أن فيها فضيلة أفضل من النافلة.
والقاعدة تقول: (أنه إذا تعارضت الفضيلتان المتساويتان وكانت إحداهما يمكن تداركها في وقت غير الوقت الذي تزاحم فيه الأخرى، أُخرت التي يمكن تداركها)، -فضلاً عن أن صلة الرحم لاشك أنها من أفضل القربات فصيام ست من شوال وسّع الشرع فيه على العباد، وجعله مطلقاً من شوال كله، فأي يوم من شوال يجزئ ما عدا يوم العيد.
بناءً على ذلك فلا وجه لأن يضيق الإنسان على نفسه في صلة رحمه، وإدخال السرور على قرابته ومن يزورهم في يوم العيد، فيؤخر هذه الست إلى ما بعد الأيام القريبة من العيد؛ لأن الناس تحتاجها لإدخال السرور وإكرام الضيف، ولا شك أن مراعاة ذلك لا يخلو الإنسان فيه من حصول الأجر، الذي قد يفوق بعض الطاعات كما لا يخفى.
فضل صيام شهر الله المحرم بعد رمضان
قال المصنف: [وشهر المحرم].
أي: لأن النبي صلى الله عليه وسلم ندب إلى صيامه، وهو أول الشهور من السنة القمرية وهو شهر الله المحرم؛ والنبي صلى الله عليه وسلم قد بين أن أفضل الصوم بعد شهر رمضان صوم شهر الله المحرم.
والأفضل أن يستكثر من الصيام من شهر محرم، وأفضله يوم عاشوراء كما سينبه عليه المصنف رحمة الله عليه.
قال العلماء: إن هذا الشهر اختص بفضيلة، ولذلك يحرص الإنسان على صيامه وهو من الأشهر الحرم، والأشهر الحرم ثلاثة منها سرد، وهي: ذو القعدة وذو الحجة وشهر الله المحرم، وواحد فرد وهو رجب كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم حجة الوداع.
الأقوال في صيام يوم عاشوراء والراجح منها
قال رحمه الله: [وآكده العاشر ثم التاسع] أي: وآكد صيام شهر الله المحرم أن يصوم اليوم العاشر، وهو يوم عاشوراء، وهو اليوم الذي نجى الله فيه موسى من فرعون، كما ثبت في الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وجد اليهود تصوم يوم عاشوراء، فسأل عن ذلك؟ فقالوا: إنه يوم نجى الله فيه موسى من فرعون، فقال صلى الله عليه وسلم: نحن أولى بموسى منكم، فصامه وأمر بصيامه ).
وللعلماء في عاشوراء قولان: منهم من يقول: إن يوم عاشوراء كان فريضة في أول الأمر ثم نُسخ برمضان.
ومنهم من يقول: لم يكن فريضة وإنما كان سنة ولم يجب.
والصحيح أنه كان فريضة ثم نسخت فرضيته برمضان وأصبح مستحباً.
والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة قال: ( هذا يوم كتب الله عليكم صيامه، فمن أصبح منكم صائماً فليتم صومه، ومن أصبح منكم مفطراً فليمسك بقية يومه ) فهذا حديث صريح في الدلالة على أنه كان فريضة.
وهذا في السنة الأولى من الهجرة، وفي السنة الثانية نزلت فرضية شهر رمضان فنسخت فرضية صيام عاشوراء، وبقي صوم يوم عاشوراء على الندب والاستحباب لا على الحتم والإيجاب، وصيام عاشوراء من شكر الله عز وجل على نعمته، فصامه عليه الصلاة والسلام شكراً لله عز وجل؛ لأن الله عز وجل دمغ فيه الباطل ونصر فيه الحق، وأظهر فيه أولياءه وكبت فيه أعداءه، فهو شكر لله عز وجل على عظيم نعمته وجزيل منته.
والمسلم يفرح بما يصيب إخوانه المسلمون من الخير والنعمة، وتصيبه الغبطة بذلك، وهذا يدل على أن الأنبياء كانوا كالأمة الواحدة، وأن فرحه عليه الصلاة والسلام إنما هو تبع لفرح نبي الله وكَليِمه موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى السلام.
ثم لما صام عاشوراء بعد ذلك قال عليه الصلاة والسلام: ( لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع ) أي: لأصومن التاسع مع العاشر؛ لأن الأصل بقاء العاشر، ولم ينص على رفع العاشر فقال: (لأصومن التاسع) بلفظ محتمل أن يصوم التاسع وحده أو يصوم التاسع والعاشر، فبقي ما كان على ما كان.
فلما كانت النصوص تنص على العاشر، وتبين فضيلته وأن صومه يكفّر السنة الماضية كما جاء الخبر بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم بقي العاشر كما هو، فصار قوله: (لأصومن التاسع) أي: لأصومن التاسع مع العاشر مخالفة لليهود.
وذلك أنه عليه الصلاة والسلام كان في أول الأمر يحب موافقة أهل الكتاب خاصة حينما كان بمكة؛ لأن أهل الكتاب كانوا أهل دين سماوي، وكان المشركون على الوثنية، فكان يحب موافقة أهل الكتاب لإغاظة أهل الشرك والوثنية.
فلما انتقل إلى المدينة كان اليهود يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويزعمون أنه يأخذ من دينهم، فأصبحت الموافقة هنا محظورة، وقصد عليه الصلاة والسلام مخالفتهم، ومن ذلك قوله: ( لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع ) أي: لأصومن التاسع والعاشر مخالفة لليهود.
استحباب صيام التسع الأول من ذي الحجة
قال رحمه الله: [وتسع من ذي الحجة].
أي: ويندب صيام التسعة الأيام، وهي اليوم الأول والثاني والثالث والرابع والخامس والسادس والسابع والثامن والتاسع من أول شهر ذي الحجة.
وأما اليوم العاشر فهو يوم عيد النحر، ولا يجوز صومه بالإجماع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يومين: يوم عيد الفطر، ويوم عيد الأضحى، وهما يوم ضيافة من الله سبحانه وتعالى وكرامة، ولذلك لا يصومهما المؤمن؛ ويجب الفطر فيهما حتى ولو كان الإنسان يصوم صيام كفارة، ككفارة القتل، فلو صام صيام كفارة القتل فابتدأ صيامه بشهر ذي القعدة وأتم شهر ذي القعدة، ثم شرع في شهر ذي الحجة، فإنه إذا كان يوم النحر وهو يوم العيد وجب عليه الفطر، ولا يقطع ذلك تتابع صيامه، فيصوم التسعة الأيام الأول من شهر ذي الحجة، وما ورد عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها من النفي لا يقتضي عدم السنية للصوم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الحديث الصحيح ( ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله عز وجل من عشر ذي الحجة، قالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله ؟، قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع بشيء من ذلك ).
فدل هذا الحديث على فضيلة العمل الصالح المطلق في العشر، ولم يفرق صلوات الله وسلامه عليه بين الصوم ولا غيره، والأصل أن العام يبقى على عمومه حتى يرد ما يخصصه، وما ورد عن أم المؤمنين من نفي صومه عليه الصلاة والسلام للعشر من ذي الحجة فهذا مبلغ علمها.
وأياً ما كان فلا يبعد أن النبي صلى الله عليه وسلم يترك صيام الشيء مع سنيته وفضيلته، ألا تُراه عليه الصلاة والسلام فضل صيام نبي الله داود ولم يكن يصوم يوماً ويفطر يوماً، فندب إلى ذلك بالقول، فنقول: صيام تسع من ذي الحجة مندوب إليه بالقول ولا يفتقر إلى دلالة الفعل، فنفي وجود الصوم منه عليه الصلاة والسلام لتسع ذي الحجة لا تقتضي عدم الوجود، فهو مبلغ علم.
ولأنه عليه الصلاة والسلام إن لم يكن يصمها فقد دل على فضيلة صيامها بالقول، فلم يفتقر ذلك إلى وقوع الفعل منه، ومثله صيام يوم وإفطار يوم، حيث ندب إليه وفضله وجعله من أفضل الصيام وأحبه إلى الله عز وجل، وهو صيام نبي الله داود، ومع ذلك لم يكن يفعل ذلك عليه الصلاة والسلام.
ولأنه عليه الصلاة والسلام كان يحب أن يفعل العمل ويتركه خشية أن يفترض على الأمة، كما ثبت في الحديث الصحيح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وعلى هذا فإنه لا يكره صيام تسع من ذي الحجة، بل من الأفضل صيامها، فإذا كان يوم النحر فإنه يجب فطره ولا يجوز صومه.
يتبع