بلاغة الصورة السردية الموسعة أو المشروع النقدي العربي الجديد
د. جميل حمداوي
المقدمة:
تعد الصورة الروائية أو الصورة السردية الموسعة وسيلة للتشخيص والتعبير الفني والجمالي عن قضايا إنسانية خالدة، مثل: الحياة والموت، والحب والكراهية، والسعادة والشقاء، والسلم والحرب... ومن ثم، فهي طريقة للتشكيل والتصوير والوصف، موادها البلاغة واللغة، ورؤيتها إنسانية محضة، وغايتها الوظيفة الفنية والجمالية، بمراعاة مجموعة من السياقات التي تحيط بالصورة من الداخل والخارج، مثل: السياق اللغوي، والسياق البلاغي، والسياق الذهني، والسياق النصي، والسياق الجنسي. ومن ثم، " فالصورة الروائية هي مركز التفاوض ومعترك الاختيارات الفكرية والفنية التي صدر عنها الروائي، على اعتبار أن الصورة إجراء لغوي ووسيلة فنية وغاية، والمسافة الفاصلة بين الصورة بوصفها إجراء، مرورا بكونها وسيلة، ووصولا إلى أنها غاية، يقدر ما تستدعي ذوق وحدس أفق الانتظار، فإنها تنم عن الكفاح الفني للكاتب في بناء عالمه الروائي وفق شروط اختيارية."[1]
ومن ثم، تتأسس بلاغة الصورة السردية الموسعة على ثلاثة مفاهيم متساندة هي: المكونات، والسمات، والصور النوعية. ولا تقتصر هذه الصورة الرحبة على الرواية فقط، بل يمكن توسيعها لتشمل باقي الأجناس الأدبية والفنية الأخرى، مثل: القصة القصيرة، والحكاية، والمسرح، والسينما، والنادرة، والمقامة، والرحلة...
إذاً، كيف نقارب النص الإبداعي أو الفني في ضوء الصورة البلاغية النوعية؟ وما التصورات النظرية والتطبيقية التي يستند إليها مشروع بلاغة الصورة الموسعة؟ وما أهم المفاهيم والمصطلحات التي يستند إليها هذا المشروع النقدي العربي الجديد؟ هذا ما سوف نرصده في موضوعنا هذا.
التعريف بمشروع الصورة الروائية:
من المعلوم أن أغلب الدراسات النقدية العربية، في مجال السرد والرواية، لم تهتم بمكون الصورة السردية، حتى وإن درسته بشكل من الأشكال، فقد كان ذلك يتم في ضوء الصورة الشعرية أو الصورة البلاغية التقليدية. بمعنى أن هذه الدراسات لم تدرس الصورة السردية القصصية أو الروائية من جهة، ولم تربطها بجنسها الأدبي من جهة ثانية، ولم تعتبرها تصويرا وتخييلا وإبداعا إنسانيا من جهة ثالثة. أي: بقيت الصورة البلاغية، لأمد طويل، تتكئ على مفردات البلاغة الكلاسيكية تصنيفا وتعريفا وتمثيلا. كما خضعت لمقاييس عقلية ومنطقية وفلسفية جامدة، دون أن ينظر إليها نظرة تخييلية وتصويرية وإبداعية وإنسانية. ومن هنا، فقد جاء مشروع الباحث المغربي الدكتور محمد أنقار ليسد هذا الفراغ المهول في دراسة الصورة السردية بصفة عامة، والصورة الروائية بصفة خاصة، سيما في كتابه النقدي القيم(صورة المغرب في الرواية الاسبانية)[2]، وقد وضح فيه صاحبه تصوره النظري والتطبيقي. وبذلك، يكون محمد أنقار مؤسس حلقة تطوان للصورة السردية، وتضم هذه الحلقة مجموعة من الباحثين والدارسين الذين تتلمذوا على يد الدكتور محمد أنقار، وتشربوا معالم منهجيته إن نظرية وإن تطبيقا، ومن هؤلاء: محمد مشبال، وشرف الدين ماجدولين، ومصطفى الورياغلي، والبشير البقالي، وعبد الرحيم الإدريسي، وجميل حمداوي، ومحمد المسعودي، وعبد الحفيظ البختي، وخالد أقلعي، ومحمد العناز... والقائمة طويلة.
هذا، ويتأسس مشروع محمد أنقار النقدي على معيار الصورة الروائية الذي يتكئ، بطبيعة الحال، على عدة حقول معرفية، مثل: البلاغة، والنقد، والفلسفة، والتشكيل، والسينما، والفوتوغرافيا، والعمارة...بيد أن الصورة التي يتناولها محمد أنقار هي صورة سردية، وليست صورة شعرية أو أية صورة أخرى. بمعنى أن أنقار يؤسس دعائم البلاغة السردية أو البلاغة النوعية. ومن ثم، تصبح الصورة لديه موسوعة فنية وجمالية رحبة، تشمل ما تعارفت عليه البلاغة الكلاسيكية من صور مجازية ومحسنات، وما تنتجه النصوص السردية من صور داخلية خاصة بها، انطلاقا من مكوناتها التجنيسية الثابتة، وسماتها النوعية المتغيرة التي تحضر وتغيب. علاوة على هذا، فالصورة الروائية أو السردية التي قد تحضر في الرواية أو القصة القصيرة أو القصة القصيرة جدا أو الحكاية أو النادرة....ليست صورة حسية فقط، بل هي صورة تخييلية إبداعية إنسانية، تتجاوز الواقع إلى عوالم خارقة محتملة وممكنة، تتشكل عبر التصوير والنسيج اللغوي والفني والجمالي والمتخيل الإنساني.
وعلى الرغم من ذلك، يمتلك محمد أنقار معرفة خلفية واسعة في مجال الصورة، حيث يحيل عليها مرات ومرات في دراساته النظرية وأبحاثه التطبيقية متنا وهامشا. ومن ثم، فقد استوعب، بشكل جيد، ما كتب عن الصورة في مجال الأدب والسينما والمسرح والتشكيل والفوتوغرافيا والأدب المقارن. وفي هذا النطاق، يقول محمد أنقار:" من الواضح أن «الصورة» منذ العهود البشرية الأولى إلى يومنا هذا كانت ولاتزال بمنزلة الأداة أو المبدأ أو المفهوم أو الوسيلة أو المعيار النقدي أوالبلاغي أو حتى التواصلي، وأن هذا التاريخ الطويل الحافل يقتضي منطقيا أنيكون هناك تجديد على مستويات التصور والفهم والتناول. لذلك، يمكننا أن نتحدثاليوم عن صيغ جمالية جديدة نتعامل بها مع مختلف أنماط الصور بما فيها الصورالأدبية. بيد أن هذه الجدة لا تعني على الإطلاق أية قطيعة مع طرائقالتناول السالفة، ومع الحساسيات الجمالية مختلف العصور. وفي بعض الأحيان،يخطر لي خاطر يقول لي إن الصورة ليست مجرد حلية بلاغية، وإنما هي وسيلةتواصلية إنسانية نسخرها يوميا في حياتنا المعيشة، ونستغلها في شؤون تفكيرنا، وكتاباتنا، وأحلامنا، وكوابيسنا. وفي ضوء هذا الخاطر التداولي أحدس أن الصورةقد تنوب عن البلاغة برمتها، أو عن مجموع ألوان التوشية التعبيرية، أو أن تغدوبابا من أبواب البلاغة الرئيسية. إلا أنني سرعان ما أعود إلى تلك البديهيةالتي ترى أن التفكير الجمالي يجب أن ينصب أساسا ليس على التسميات والفروق (النقد، البلاغة، التحليل، الصورة...)، وإنما على ماهيات كل تلكالمداخل. ومن هنا، يمكن أن نقف على بعض مظاهر الجدة.
إذاً، من المحتمل أنتكون هناك حساسية جمالية جديدة في مجال معالجة الصور، إلا أن هذه الحساسيةليست جديدة بالمفهوم القطعي أو أنها مؤسسة على فراغ.[3]"
هذا، ويستند تحليل الصورة السردية بصفة عامة، والصورة الروائية بصفة خاصة، إلى مجموعة من العناصر المنهجية التي تتمثل في السياق النصي، والمستوى الذهني، وقواعد الجنس، والطاقة اللغوية، والطاقة البلاغية. ويستوجب هذا ربط الصورة السردية بسياقها النصي والذهني. فقد كانت البلاغة التقليدية تدرس الصور الشعرية بمعزل عن سياقها النصي والتداولي، فكانت تتعامل معها على أنها جمل وعبارات وأمثلة وأبيات شعرية لا تمت بصلة إلى إطارها النصي والإبداعي. بيد أن بلاغة الصورة السردية تتعامل مع الصور الروائية أو القصصية في سياقها النصي والذهني والكلي. علاوة على ذلك، فحضور المتلقي ضروري في تأويل الصورة والتفاعل معها؛ لأن الصورة تحتاج إلى من يملأ فراغاتها وبياضاتها. بله عن ربط الصورة بالجنس أو النوع الذي تنتمي إليه، واستجلاء طاقتها اللغوية والبلاغية. وفي هذا الصدد، يقول أستاذي محمد أنقار:" من الممكن مقاربة أبرز حدود الصورة الروائية ضمن ما يصطلح على تسميته بالتصوير اللغوي. والحقيقة أن كل تعبير لغوي هو في جوهره تصوير باللغة. والأديب إذ يعبر بالكتابة، فإنه يخضع هذا الإطلاق العريض إلى قوانين تداولية يقتضيها الفن الأدبي. وحتى في هذه الوضعية لا يختفي الإطلاق نهائيا، لأن الأدب، بحكم طبيعته الإنسانية ليس كتلا مشكلة في صيغ ثابتة.
وللتخفيف من غلواء هذا الإطلاق، يصبح من اللازم إخراج الصورة اللغوية من مستواها النحوي إلى سياقها النصي. ولا يمكن لهذه الخطوة أن تتحقق إلا بفعل القراءة، أو بوجود متلق قادر على الارتقاء بالصورة من خطها اللغوي إلى الحقل الذهني، بحيث يغدو من غير المنطق بتاتا قبول ادعاء "أولمان" (Ulmann)القائل بضرورة تجاوز الصورة الذهنية في مقام بلاغة التصوير.
ومتى تحققت هذه الخطوة، لزم النزول، نقديا درجة أخرى للتموضع في مستوى جنس أدبي بعينه، بهدف استنباط الشروط التقريبية المتحكمة في صيغ التعبير اللغوي. أي: الصيغ التصويرية. وفي حالة الرواية، مثلا، تذعن العبارة اللغوية أولا لماهية الحكي أو السرد من حيث الانطلاق والتوالي والتسلسل والترابط والامتداد، ثم للمكونات النصية. ثانيا، بما فيها من توتر وإيقاع وتكثيف ودينامية، على أساس أن تدخل في وشيج مندغم- في مرحلة ثالثة – مع باقي مكونات الحكي من شخصيات ومشاهد ووقائع وفضاء وتشويق وحوافز.
والحقيقة أن الكشف عن هذا التآصر لا يكفي وحده لتحديد ماهية التصوير اللغوي في الرواية، بل يستلزم في مرتبة رابعة استحضار جميع الوظائف التي يمكن أن تقوم بها اللغة من حيث هي لغة، من تنظيم وتجسيم وتشخيص وتلوين وتنغيم وتمثيل، قبل استدعاء الطاقات البلاغية التداولية، أو ما يعرف بالصور البلاغية.".[4]
ومنهجيا، تتميز البلاغة السردية عن الأسلوبية التي تدرس الصورة في ضوء بلاغة الشعر، أو في ضوء معطيات اللسانيات، أوفي ضوء علم الإحصاء، أو ضمن معطيات علم النفس وعلم الاجتماع. ومن ثم، لا تدرس الأسلوبية الصور السردية في ارتباطها بالنوع الأدبي، أو ضمن سياقها النصي والذهني والجنسي، بل تدرس الصور، مهما كانت طبيعتها، بمقاييس الشعر، وهذا ما كانت تفعله الشعرية (Poétique) أيضا في دراستها للخطابات الأدبية والإبداعية مع رومان جاكبسون(R.Jakobson)، وميشال ريفاتير(M.Rifaterre)، وهنري ميشونيك (H.Meshonic)، وجماعة مو Groupe µ ....
ومن المعلوم أن الاهتمام بالصورة الشعرية قد بدأ مع أرسطو، وامتد زمنيا عبر دراسات الفلاسفة والبلاغيين العرب والغربيين، ونشطت - كذلك- مع الأسلوبية في مختلف اتجاهاتها وتياراتها. بيد أن الصورة الشعرية مافتئت تحظى بمكانة كبرى في دراسة النصوص. في حين، أغفل النقد الأدبي والأسلوبية معا دراسة الصور في النصوص السردية، حتى وإن كانت تهتم بها، بشكل من الأشكال، فإنها تدرسها في ضوء مقاييس البلاغة الشعرية، ولم تتمثل في ذلك معايير البلاغة النوعية، من خلال استنطاق النصوص السردية داخليا، واستكشاف صورها التخييلية والجمالية، ورصد متخيلاتها الإنسانية. وهذا ما قام به - فعلا- الدكتور محمد أنقار في مشروعه النقدي الجديد.
وثمة صعوبة ملحوظة في تعريف الصورة السردية الموسعة، إذ يمكن تعريفها على أنها نقيض لكل من الصورة الشعرية والصورة التشكيلية والصورة الفنية الدرامية والسينمائية. ومن ثم، فالصورة السردية هي صورة لغوية تخييلية وإبداعية وإنسانية، تتشكل في رحم السرد، وتتفاعل مع مجموعة من المكونات التي تشكل الحبكة السردية. ومن ثم، يمكن الحديث عن صورة الموضوع، وصورة اللغة، وصورة الفضاء، وصورة الشخصية، وصورة الراوي، وصورة الإيقاع، وصورة الامتداد، وصورة التوتر، وغيرها من الصور السردية التي تستنبط من داخل النص السردي. وفي هذا السياق، يقول أنقار:" في الحقيقة، ليست الصورة تكوينا متحققا خارج بنية النص ومكوناته، بما فيه البنية الذهنية، بل هي وجود ممتزج عضويا بالفقرة والمشهد والمقطوعة والحوار والحوادث والفضاء والشخصية والموضوع، وكذا بالانطباعين الذهني والنفسي اللذين يثيرهما ذلك المجموع في المتلقي.
والصورة دينامية بطبعها، ومساهمة في ضمان دينامية النص الروائي. كما أنها توتر وامتداد وتفاعل بين مختلف أنماط الصور الكثيفة والمباشرة والجزئية والكلية. وهذا الطابع التكويني الداخلي لا يلغي قيام جدل وتعارض بين الصورة وماهو خارجي عنها، عندما تنخرط في لعبة تداولية غير متكافئة مع الخير والواقع والتاريخ.
كل هذه المعطيات تثبت أن الصورة الروائية ليست اعتباطية، بل خاضعة لمنطق يتحكم بدقة في مظاهر ترابط المكونات.وبذلك، تتشكل، مثلما تتشكل أية صورة فنية، في نسق يصبح هو كونها ونسغ وجودها، ويغدو أي نقل أو تحوير أو فحص للصورة، بعيدا عن نسق التشكل، هدرا لكنهها."[5]
ومن ثم، تتحدد وظائف الصورة الروائية أو السردية من خلال جنسها ونوعها الأدبي. وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على مدى ترابط الصورة الروائية بسياقها الجنسي والنوعي والذهني. ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون الصورة الشعرية أفضل من الصورة الروائية، بدليل أن الصورة السردية جافة وتقريرية ومباشرة، فكل صورة لها جماليتها الخاصة، ولا يمكن أن نفضل واحدة على الأخرى. وفي هذا النطاق، يقول أنقار:" توهم البعض أن "المباشرة" هي صفة سلبية ملازمة لطبيعة السرد. وأن اللفظة في التصوير السردي باردة جافة حائلة اللون لا تشدنا على غير المتوقع، ولا تخطف الأبصار. ونرى أنه من المشكوك فيه احتمال صفة المباشرة في الأدب برمته مهما تباينت أجناسه. لأن كل مرتبة أدبية تقتضي تسخير درجة بلاغية ما. ونعتقد أن توهم دونية السرد وإسفافه التعبيري وواقعيته السطحية في مقابل فيض الشعر، هو الذي ساهم في عرقلة بروز الصورة الروائية من حيث هي إشكال نقدي.[6]"
وبعد ذلك، ينتقل محمد أنقار إلى استعراض مجموعة من الصور الروائية، مثل: صورة الموضوع التي تتداخل، في كثير من الأحيان، مع الصورة الروائية. ويعني هذا أن الموضوع الدلالي قد يتخذ شكل صورة، كأن نقول صورة الشرقي في الرواية الغربية، أو صورة الإنسان العربي في الأدب الصهيوني، أو صورة المغربي في الرواية الإسبانية. وغالبا ما تتحول هذه الموضوعات إلى صور سردية، سيما في كتابات الأدب المقارن أو دراسات(الصورلوجيا).
ويمكن الحديث أيضا عن صورة التوتر الناتجة عن الدرامية وشدة شحنة الصراع، وقد تترتب عن الارتباطات السلبية بين الظواهر الأدبية والفنية والجمالية داخل النص التخييلي الإبداعي. كما يمكن الإشارة إلى صورة الإيقاع التي تتشكل في النصوص السردية الشاعرية التي يتقاطع فيها السردي والشعري، وصورة التكثيف التي تحضر في السرود الشعرية أو النفسية الخالية من التتابع الزمني والترابط السببي و المنطقي. وهناك أيضا صورة الفضاء التي تتشكل من الزمان والمكان معا، ضمن ما يسمى بالكرونوطوب (Chronotope) حسب ميخائيل باختين(M.Bakhtine).
و من جهة أخرى، يمكن استجلاء صورة الشخصية الإنسانية في ضوء سياقها النصي، بعيدا عن الإسقاطات المرجعية والإيديولوجية، وترتبط هذه الصورة - جدليا- بصورة الفضاء والحدث. ويعني هذا ضرورة ربط الشخصية بصورة الإنسان.
علاوة على ذلك، تعرف الصورة الروائية امتدادا على مستوى الأحداث والتحبيك والتخطيب. وبالتالي، لا تتحقق جمالية الصورة الجزئية إلا في تفاعلها مع الصورة الكلية. وبذلك، قد تكون الرواية كلها استعارة أو كناية سردية كبرى. كما تخضع الصورة الروائية للتقويم، فقد تكون صورة متوازنة أو صورة مختلة. والآتي، أن المتلقي هو الذي يمارس هذا التقويم، حين تفاعله القرائي مع النص تلقيا وتقبلا وتأويلا. وغالبا ما تعج الروايات الاستعمارية بصور مختلة، حينما تقدم الإنسان العربي في وضعيات مشينة وممقوتة، وتستعرضه في مشاهد كاريكاتورية ساخرة، كما هو شأن صورة الإنسان المغربي في الروايات الإسبانية في فترة الحماية على المغرب (1912-1956م). وفي هذا السياق، يقول محمد أنقار:"إن «الاختلال» الذي عالجته يخص بالدرجة الأولى النوع الروائي المعروف ب"الرواية الاستعمارية". ففي هذا النوع يكون «الاختلال» سمة تكوينية في معظمنصوصه الروائية حيث يأبى الروائي إلا أن يضحي بأصول الفن، وجلال الحقيقةالإنسانية في سبيل تلبية نداء الأطروحة الاستعمارية. وبذلك يتجلى"الاختلال» لكل ناقد أو بلاغي محايد، ويغدو من الممكن إثبات ذلك «الاختلال"بالحجج الأسلوبية المتناقضة، أو الزائفة، أو المرتبكة جماليا.
أما فيما يخص الأنواع الروائية الأخرى غير الاستعمارية، فلا أرى أن «الاختلال» يجبأن يكون مقوما من مقوماتها. وبهذا المفهوم لا أظن أن معظم روايات بروستوتولستوي وكونديرا تتسم باختلال من هذا القبيل. صحيح أنه من الممكن أن نعثرلدى هؤلاء ولدى غيرهم من الروائيين على أخطاء أو هفوات جمالية، وعلى الرغممن ذلك يبقى الإقناع الجمالي حاضرا في إبداعهم بقوة مهيمنة. كل ذلك يعنى أن"الاختلال» الجمالي أو الأسلوبي هو حالة ملازمة لكل إبداع روائي، تتيحللروايات الاستعمارية (ويمكن أن نضيف إليها كثيرا من الروايات التاريخيةوالجنسية) فرصا عدة لمعاينة الاختلال بصورة ملموسة.
ثم لا تنس أني عنونتالباب الأخير [من الكتاب] ب «نحو صورة متوازنة» من غير أن أقول «صورة متوازنة» مراعيابذلك «طغيان «الخلل الجمالي» على معظم الروايات الاستعمارية المكتوبة عنالمغرب. في حين، يظل «التوازن» أملا جماليا لم يتحقق للأسف في تلك الرواياتالمكتوبة باللغة الإسبانية.[7]"
ومن جهة أخرى، يمكن إغناء الأدب المقارن بمنهجية جديدة في دراسة الصورة، من خلال استبدال الصور المرجعية المقارنة بصور سردية فنية وجمالية، تحتكم إلى مجموعة من السياقات النصية والتخييلية واللغوية والبلاغية والذهنية.
خلفيات الصورة الروائية:
يمكن الحديث عن مجموعة من الدوافع والمؤثرات والخلفيات الفلسفية التي كانت وراء ظهور مشروع الصورة الروائية، ويمكن إجمال هذه الحوافز والدوافع في النقط التالية:
1- الرغبة في تأسيس بلاغة رحبة للصورة السردية، انطلاقا من مكوناتها النصية الداخلية، وليس اعتمادا على مكونات الصورة الشعرية.بمعنى أن للمسرح صورته، وللسينما صورته، وللشعر صورته، وللتشكيل صورته. لكن للسرد أيضا صورته يمكن استكشافها، ليس في ضوء معايير الصورة الشعرية الكلاسيكية، بل انطلاقا من المتون والنصوص السردية، سواء أكانت قصصية أم روائية.
2- التخلص من القواعد العلمية الثابتة، والحد من صرامة المناهج النقدية الحديثة والمعاصرة ذات الطابع الدوغمائي الوثوقي. وفي هذا السياق، يقول الباحث محمد العناز: " تعتبر الصورة مبحثا مهما في تجاوز المشكلات الناتجة حاليا عن تطبيق المناهج الصارمة وقواعدها التي تقتل العمل الإبداعي، وتسلب منه روحه وقيمته الإبداعية، لصالح الدفاع عما تبشر به من مفاهيم وترسيمات شكلية، فهي تسمح، نظرا إلى المرونة التي تتصف بها، بوصف النواحي الجمالية التي يقوم عليها النص الأدبي، وتحترم خصوصيته، وتكشف عن علاقته بالقيم الإنسانية والحياة عموما. كما أن مبحث الصورة صار اليوم من أهم المباحث النقدية في عالمنا العربي؛ بحيث نلاحظ صدور الكثير من الدراسات التي تهتم به، وتحاول تطبيقه على النصوص بغاية الخروج بالنقد من مأزقه الشكلاني، وفي مقدمة هذه الدراسات المنجز النقدي المغربي في هذا المجال، ونذكر على سبيل المثال لا الحصر ما أنجزه رائد هذا المبحث في المغرب محمد أنقار. ويكفي هذا التحول في النقد العربي ليكون سببا مقنعا في اعتماد مبحث الصورة موضوعا لبحثنا هذا "[8]
يتبع