محمد المسعودي والصورة الصوفية
د. جميل حمداوي
المقدمة
لم تقتصر الصورة الروائية أو السردية الرحبة على النصوص الأدبية فحسب، بل وسعها بعض الدارسين لتشمل حتى النصوص الصوفية والكتابات الأخرى، منطلقة من فرضية أساسية تتمثل في أن عنصر التصوير مبدأ مشترك وعام، يوجد في جميع الكتابات الإنسانية، سواء أكانت ذهنية أم إبداعية. بمعنى أن النص الصوفي، مثل النص الأدبي، يعتمد على الكتابة التصويرية نفسها التي توظف في النص الإبداعي، سواء أكان نثرا أم شعرا. وبالتالي، يمكن الاستعانة بآليات التصوير الأدبي في مقاربة النصوص الصوفية، خاصة النثرية منها، بغية رصد السمات الفنية واللغوية والبلاغية والجمالية التي تتميز بها الكتابة الصوفية، في مختلف تجاربها الذاتية والروحية والموضوعية والوجودية والإنسانية. وهذا ما قام به الباحث المغربي محمد المسعودي في كتابه القيم (اشتعال الذات)، حيث كان هدفه الأساس هو دراسة سمات التصوير الصوفي في كتاب (الإشارات الإلهية)[1] لأبي حيان التوحيدي[2]، معتمدا في ذلك على المقاربة الإنشائية من جهة، ومقاربة الصورة الروائية حسب تنظيرات محمد أنقار من جهة أخرى[3].
إذاً، ما التصور المنهجي الذي يتبناه محمد المسعودي في كتابه (اشتعال الذات)؟ وما أهم القضايا التي يزخر بها كتابه؟ وما المصطلحات النقدية الإجرائية التي وظفها في دراسته الأدبية؟ وما قيمة هذا العمل النقدي نظرية وتطبيقا؟ تلكم هي أهم الأسئلة التي سوف نحاول استجلاءها في موضوعنا هذا.
التصور المنهجي:
يستند كتاب (اشتعال الذات) لمحمد المسعودي إلى مقاربتين متكاملتين ومتقاطعتين: المقاربة الإنشائية (Poétique) التي تبحث عن أدبية الكتابة الصوفية في كتاب (الإشارات الإلهية) لأبي حيان التوحيدي، والمقاربة التي تتكئ على الصورة الروائية الموسعة، وهي صورة فنية وجمالية ولغوية وبلاغية، تقوم على دراسة الصور الجزئية والكلية، في ضوء مجموعة من المعايير المنهجية، مثل: طاقة اللغة، وطاقة البلاغة، وسياق الجنس، والسياق النصي، والسياق الذهني. كما تفرق مقاربة الصورة بين المكونات والسمات، فالمكونات هي عناصر ثابتة في النص الإبداعي. في حين، إن السمات هي خاصيات فنية وجمالية ودلالية قد تحضر، وقد تغيب. وفي هذا، يقول الباحث عن منهجه النقدي:" فالمنهج الذي نحلل به النص يستجيب للنص وإمكاناته، من حيث إن الإنشائية تعني رصد التفاعل المتكامل بين مكونات النص وسماته، كما أنه نهج يتيح للباحث حرية أكبر في تشغيل طاقاته الذوقية والفكرية والجمالية، لعله يمسك بالسمات الفنية التي تزخر بها النصوص الصوفية. وقد استندنا في التعامل مع موضوعنا نظريا وتحليلا إلى بعض الأدوات النقدية والمنهجية التي بلورها أستاذنا الناقد محمد أنقار في كتاباته المختلفة والمتنوعة، وبالخصوص ما يتعلق بالتصوير وتساند السمات والمكونات وغيرها من المفاهيم، كما سيلمس قارئ هذه الدراسة.
وعلى العموم، فقد سعى هذا الكتاب إلى تحقيق غاية أساس مركزية تتمثل في الكشف عن أدبية التصوير الصوفي في كتاب (الإشارات الإلهية)، باعتبار العناية بهذا البعد يعد الخطوة الملائمة للحديث عن أدبية النص النثري الصوفي المتنوع من حيث أنواعه وبلاغته. "[4]
أما فيما يخص الإنشائية، يعتمد الباحث على الإرث الإنشائي بصفة عامة، كما يبدو ذلك جليا عند بعض أعلامه، أمثال: رومان جاكبسون (R. Jakobson)، و روبرت شولز (Sholes)، وجوناثان كولر (Jonathan Culler). . . يقول الباحث: "ويستند فهمنا هذا للأدبية إلى تصور كل من روبرت شولوز وجوناثان كولر اللذين أكدا أهمية الكفاءة الأدبية عند المتلقي باعتبارها شرطا للوقوف على فنية النص الأدبي. ومن ثم، لا تنحصر القضية في النص، بل إن الكفاءة الأدبية متولدة عن سيادة الأعراف الجنسية والتقاليد الأدبية، إلى جانب وظائف الأساليب التي يستعملها المبدع، ويتمكن القارئ من خلالها الإمساك بفنية النص. وبذلك، فإن الأدبية هي خاصية تفاعل كل سمات النص الأدبي وتكويناته الفنية والجمالية عبر معرفته بالأجناس الأدبية، وبالسمات المفترضة لكل جنس من هذه الأجناس، إلى جانب معرفته بسمات الكتابة الأدبية عند المبدع الذي يتعامل مع نصه الإبداعي. فالأدبية ليست وظيفة للعمل الأدبي ذاته، بل هي طريقة خاصة في القراءة.
وهكذا، فإن ضبط سمات التصوير الفني في (الإشارات الإلهية) تقتضي الكشف عن أدبيته، وذلك بمراعاة خصائصه الفنية الخاصة به، مع النظر إليه في دائرة نوعه الأدبي الذي ينتمي إليه، وانطلاقا من تفعيل قدرات القارئ الذهنية والتخييلية والحدسية والوجدانية والحسية جميعا. والنص ذاته يخاطب كل هذه الملكات لدى المتلقي ويستثيرها حتى يتمكن من التفاعل مع إمكانياته الفنية والدلالية. فالأدبية ليست إلا تشكيلا خاصا للغة لتحمل معاني وقيما جديدة. والأدب في جوهره، حسب نوفاليس (Novalis)، تعبير للتعبير، وهذا ما يكشفه الأدب الصوفي، ويجسده للباحث في جماليته بكل وضوح وجلاء. "[5]
وعليه، يتبنى الكاتب منهجية مركبة من الإنشائية للبحث في أدبية النص الصوفي من ناحية، وتمثل معايير الصورة الروائية لرصد سمات التصوير في النص الصوفي من ناحية أخرى.
قضايا الكتاب:
يعد كتاب (اشتعال الذات) لمحمد المسعودي من أهم الكتب التي تندرج ضمن مشروع الصورة الروائية الذي أرسى دعائمه الدكتور محمد أنقار في كتابه (بناء الصورة في الرواية الاستعمارية، صورة المغرب في الرواية الإسبانية). والهدف من هذا الكتاب هو استجلاء سمات التصوير الصوفي في كتاب (الإشارات الإلهية) لأبي حيان التوحيدي، أو تبيان جمالية التصوير الفني الصوفي في الكتابة النثرية العرفانية عند أبي حيان التوحيدي. ومن ثم، يحاول الدارس أن يسقط مشروع الصورة الروائية على الكتابة الصوفية عند التوحيدي؛ لاشتراك الكتابتين معا، الإبداعية والصوفية، في نمط التصوير الفني والجمالي. وفي هذا الصدد، يقول الباحث: "إن الفرضية النقدية التي ننطلق منها هي أن النص النثري الصوفي الذي نشتغل به نص أدبي تصويري، يمتلك سمات خاصة به، تتيح له القدرة على بلورة رؤيا أبي حيان التوحيدي لذاته وللوجود من حوله. وفي ضوء هذه الفرضية، ركز الكتاب على إبراز أنماط هذا التصوير ومداراته؛ لأن السمات التصويرية نابعة من المدارات الأساس التي عني بها التصوير امتدادا لهذه الرؤى المبثوثة في جنبات نص (الإشارات الإلهية)، وكانت سماتها متساندة مع الرؤيا الكلية التي رام الصوفي إبلاغها إلى متلقيه.
ومما لاشك فيه أن سمات التصوير التي تتساند مع مكونات نصية ونوعية تخضع لنمط الكتابة الذي يصوغ الصوفي في إطار تجربته الصوفية. ومن هنا، لزم النظر إليها في سياقيها النصي والنوعي. فمدارات التصوير الصوفي تنبع من طبيعة النص الصوفي ذاته، وتخضع لشروط النوع الكتابي الذي يصوغ المتصوف في إطاره تجربته الروحية والحياتية.
وانطلاقا من هذه الرؤية النقدية، انصب اهتمامنا على إبراز سمات هذا التصوير الروحية الوجدانية، والواقعية، والذهنية التجريدية؛ لأنها تبني بلاغة صوفية خاصة، على الرغم من توظيفها للآليات اللغوية التي يوظفها كل أديب أو مفكر، لكن خصوصيتها تكمن في قدرتها على تصوير هواجس الصوفي وانشغالاته الفكرية والحياتية. "[6].
وإذا كان النص الشعر الصوفي قد أشبع درسا من الدارسين والنقاد العرب المحدثين والمعاصرين، فإن الباحث يركز على الكتابة النثرية الصوفية، وهي في حاجة إلى سبر وتحليل ودراسة تصويرية، تتناول سماتها الفنية والجمالية والبلاغية، في ضوء مشروع الصورة الروائية، أو ضمن معايير الصورة السردية الموسعة.
وهكذا، ينطلق الباحث من أن التصوير الصوفي يجمع بين التصوير الذهني والتصوير اللغوي. بمعنى أن الكتابة الصوفية تعبير لغوي وفني وجمالي عن تجارب روحية وعرفانية رمزية مجردة. وأكثر من هذا، يتسم التصوير الصوفي بسمتي الروحية والواقعية. ويتم ذلك كله عن طريق الخيال والتصور العرفاني الحدسي. بيد أن لغة التصوف عاجزة عن نقل التجربة الباطنية الوجدانية والانفعالية. لذلك، تلتجئ إلى الغموض، والغرابة، والإيحاء، والتخييل، والكناية، والرمز، والإشارة، والسيمياء، والصورة الومضة، والشذرة الموحية.
وإذا كان هناك من يقول بأن النص الصوفي له خصوصياته التجنيسية، فإن الباحث يرى أن الكتابة الصوفية تشترك مع الكتابة الأدبية في عدة قواسم مشتركة. بمعنى أنه يستثمر الإمكانيات اللغوية، والأسلوبية، والفنية، والجمالية، والبلاغية نفسها التي يستثمرها النص الأدبي. وقد تنبه كثير من الدارسين إلى أدبية النص الصوفي، مثل: أحمد أمين في كتابه (ظهر الإسلام)[7]، وعبد المنعم خفاجي في كتابه (الأدب في التراث الصوفي)[8].
وتتسم اللغة الصوفية باللامحدودية، وكثرة التخييل، واتساع الرؤيا؛ لأنها تصور تجارب ميتافيزيقية غيبية متعالية عن الحس والعقل، وتستجلي مواضيع الذات والروح والغيب والكشف. . .
و"تأسيسا على هذا الفهم، يمكن القول: إن لغة التصوير الصوفي لغة أدبية محضة، لا تختلف عن لغة الأدب سوى في نوعية الموضوعات التي يعالجها الصوفي، وفي درجة تفاعلها مع العالمين المادي الواقعي والميتافيزيقي اللذين تصورهما، وفي طرائق توظيفها للصيغ التصويرية، والأساليب التعبيرية المتاحة للصوفي. ومن هنا، تتسم بمفارقتها لهذه اللغة."[9]
وعليه، تقوم القراءة الواعية للنص الصوفي على التذوق والتخيل والتفسير والتأويل، وهذه الآليات نفسها التي تستعمل في تحليل النصوص الأدبية وتقبلها. ومن ثم، يدعو الكاتب إلى التعامل مع النص الصوفي، كما نتعامل مع النص الأدبي. أي: بمراعاة آلياته اللسانية وصيغه التعبيرية والتصويرية والجمالية. بيد أن النص الصوفي يعتمد على آليات قد تختلف نسبيا عن الأدب، مثل: استعمال الإشارة، والرمز، والإيحاء، والابتعاد عن الوضوح واللغة التداولية اليومية، وتجنب التصريح والمباشرة والتقريرية. علاوة على هذا، يزاوج الصوفي بين نمطين من التصوير: تصوير بوساطة اللغة الإشارية والرمزية، وتصوير بواسطة اللغة المتداولة في الأدب. وتستخدم هذه الأدوات التعبيرية كلها لنقل تجارب المتصوف الذاتية ورؤيته للوجود. وبالتالي، " تؤدي مختلف أشكال التعبير، ومختلف الإمكانيات اللغوية والبلاغية وظائف تصويرية هامة تحاول إشراك المتلقي في خصوصية تجربة الصوفي، وتقريب رؤيته الخاصة للعالم وللذات الإلهية من هذا المتلقي، ومن هنا، كان الأخير طرفا جوهريا في إنتاج النص الأدبي الصوفي. "[10]
وبناء على ما سبق، يلتجئ النص الصوفي إلى الخيال لتوليد صوره الحسية والمجردة على السواء. وبالتالي، يحلق الصوفي بين عوالم سيميائية مختلفة واقعية وافتراضية ومحتملة وميتافيزيقية، ويعبر عنها بلغة تصويرية ثرة، تجمع بين سمتي الواقعية الحسية والسمة الخيالية، بل يستعين أيضا بسمة التجريد، من خلال استعمال الإشارة والعبارات العرفانية الموحية والدالة. وليس الصوفي منعزلا عن المحيط المحفوف به، بل يرتبط بواقعه الحسي ومجتمعه البشري، حينما يدعو الناس الآخرين إلى تهذيب النفس الدنية، وتطهيرها من مثالب الدناءة الدنيوية، بغية أن يسمو بها في رحاب الروح والخلاص العرفاني المتسامي. ويظهر هذا واضحا في الكتابة النثرية الصوفية بالخصوص.
ومن ثم، فالحقيقة الصوفية نسبية، ويعبر عنها بالإيحاء والمواربة والعبارة والإشارة، ويبتعد الصوفي - قدر الإمكان- عن التصريح الجلي، مادامت هذه التجربة أكبر من اللغة في حد ذاتها. ومن هنا، فكل "المكونات الصوفية لها سمات خاصة تسهم في التكوين الفني/الجمالي للنص الصوفي. فالتخييل الصوفي ينبني على الحسية. أما البعد التصويري فيه، فيتشكل من خلال الرمز والبناء التجريدي للمعاني والدلالات. أما الحدس ببنيته الفنية التأملية، فيسم النص الصوفي بالتلقائية والبساطة في التعبير عن المشاعر والأحاسيس الباطنية للصوفي. هكذا، يتصل كل مكون بمجموعة من السمات التكوينية التي نلمسها في أغلب النصوص الصوفية. [11]".
وعليه، يتميز النص الصوفي النثري بشفافية الرموز وإيحائياتها، واستعمال الحدس، والحلمية، والرؤيا الصوفية، ويستطيع القارئ أن يستجلي مختلف العوالم التخييلية التي توجد ضمن التجربة الصوفية. وبالتالي، "تتساند كل مكونات النص الصوفي مع سماتها، وتتساند فيما بينها لتشكل انسجام النص وتلاحم عناصره التعبيرية والتصويرية. وتسهم هذه السمة التصويرية الهامة في تشكيل وحدة النص الصوفي الذي يجمع بين ثناياه عددا لامتناهيا من صيغ التعبير وأساليب التصوير. وعبر هذا التساند يصبح التصوير الصوفي قادرا على معالجة قضايا شائكة ومتشابكة تهم الصوفي، وتعني المتلقي في لغة تصويرية بلاغية مخصوصة تجمع المتنافرات والمتناقضات في بؤرة متراكبة على قدر عال من الفنية. وفي هذا البعد، تكمن أهمية التصوير الأدبي الصوفي، وقدرته على التميز. ومن ثم، كان المتلقي مطالبا بالكشف عن تساند مكونات التصوير الصوفي مع سماته الفنية قصد الوصول إلى مرامي الصوفي، ومقاصده التصويرية الجمالية والإنسانية."[12]
أما على مستوى المدارات والمواضيع الكلية، فقد تناول الصوفي مواضيع فكرية وروحية متنوعة، وقد نقل تجاربه الذاتية والانفعالية في قوالب فنية وجمالية وسيميائية موحية، وقد بين لنا علاقته بذاته، وبالآخر، وبالذات الربانية، وبالوجود الذي يوجد ضمنه. ومن ثم، فالتجربة الصوفية هي نوع من التجاوز لعالم الحس والعقل معا، نحو عوالم روحية تخييلية واسعة وغير محدودة، هروبا من عالم الشقاء والمعاناة والألم والحيرة والغموض. وقد استخدم الصوفي، في التعبير عن معاناته الروحية، ورصد الموضوعات الكبرى، أشكال التصوير الأدبي. علاوة على ذلك، " يطغى على التصوير الصوفي الجنوح إلى منح الأولوية للأبعاد الروحية والوجدانية في التعبير عن جوهر الإنسان وحقيقة وجوده انطلاقا من القيمة التي يحظى بها البعد الروحي في التصوف. ومن هنا، تأتي أهمية التصوير الروحي في سلم رتب التصوير النثري لدى المتصوفة. وتبقى الأنماط الأخرى من التصوير الصوفي نغمات أخرى تعزز إيقاع النمط الأول، وتلونه بنغمات متنوعة تصب في اللحن الأساس لسيمفونية الروح الخالدة. لكن هذه الأنماط لاتقل عنه أهمية من حيث الوظائف التصويرية التي تؤديها في تشكيل النص الصوفي.
وتتضافر مختلف السمات الأسلوبية والفنية في الأنماط التصويرية الأربعة على تحقيق مرامي الصوفي التعبيرية والتأثيرية، إذ تمكنه من تصوير مختلف حالاته الروحية والوجدانية والواقعية اليومية والمجردة المتعالية الباطنية والحلمية الخيالية. وبهذا التنوع في سمات التصوير وأنماطه، يحقق النص الصوفي جمالية فردية في التصوير والتعبير."[13]
يتبع